أين الصراع على البرامج السياسيّة؟ – رامي الرّيس – نداء الوطن

تركيبة «الديمقراطيّة اللبنانيّة» فريدة من نوعها أوّلاً بسبب التنوّع الكبير في المجتمع اللبناني، وثانياً بسبب سوء الأداء والممارسة السياسيّة لقوى وأطراف محليّة شوّهت منهجياً، وعن عمد، الدستور والقوانين والأصول والأعراف. بينما يشكّل العنصر الأول عامل غنى، يعتبر العامل الثاني بمثابة عقبة كأداء أمام الإصلاح المنشود في البلاد منذ عقود.

عوامل الثراء اللبناني في التركيبة التعدديّة المتميّزة يمكن لها أن تكون تجربة فريدة يمكن الاستفادة منها في العديد من المجتمعات المركّبة مثل لبنان والتي تعاني أيضاً من أزمات في فرز النخب السياسيّة المناسبة لإدارة شؤون البلاد وفق ثالوث الحريّة والديمقراطيّة واحترام الدستور بما يتيح توفير مناخات التقدّم والازدهار.




هذا ما كان يقصده البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما قال «إن لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة» في الإرشاد الرسولي الذي صدر في العاشر من أيّار 1997 بعنوان: «رجاء جديد للبنان»، والذي أكّد فيه على ميزات المجتمع اللبناني بتنوّعه وتعدديّته.

إن عدم تقدير العديد من الأطراف اللبنانيّة عمق ذاك النص واستهدافاته واستغلال الواقع الراهن في إطار طائفي ومذهبي مقيت، كما أنّ إصرار البعض الآخر على الضرب المبرح لهذه الصيغة من التعدديّة نتيجة مآرب فئويّة خاصة تعني مصلحته المباشرة وليس مصلحة البلاد؛ إنما يطرح علامات استفهام جديّة حول السبل المناسبة للخروج من عنق الزجاجة من دون الإطاحة بهذه التجربة بل السعي الجدّي لتطويرها بعيداً عن الاعتبارات الخاصة لهذا الفريق أو ذاك.

إذا كانت هذه الإشكاليّات تطرح نفسها بقوّة على الساحة السياسيّة، فإنّ الحلول المرتجاة تبدو غير متوفّرة. حتى البرامج السياسيّة غابت عن معظم القوى القابضة على ناصية القرار في البلاد بعكس الحقبات السابقة التي كانت تُطرح فيها برامج وبرامج مضادة بهدف استمالة الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك.

صحيحٌ أنّ أساليب العمل السياسي التقليدي قد تغيّرت بشكل كبير نتيجة الثورة التكنولوجيّة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسقوط احتكار آليات التعبير عن الرأي من قبل أصحاب الصحف والإذاعة ومحطات التلفزة كما كان يحصل في الحقبات الغابرة؛ إلا أنّ ذلك لا يلغي الحاجة لبلورة مشروع وطني يتيح تجاوز الطائفيّة السياسيّة وتطبيق ما تبقّى من بنود غير مطبقة من اتفاق الطائف وفي مقدّمها إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفيّة السياسيّة وتشكيل مجلس الشيوخ واللامركزية الإداريّة والإنماء المتوازن.

في منتصف السبعينات، طرحت الحركة الوطنيّة اللبنانيّة البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في محاولة منها لتطوير النظام ديمقراطيّاً وتجاوز الطائفيّة السياسيّة وتعزيز المشاركة الشعبيّة ولكن الظروف السياسيّة والعسكريّة كانت قد تجاوزت إمكانيّة تحقيق التغيير المنشود. كما صدرت في المرحلة ذاتها تقريباً الوثيقة الدستوريّة التي قاربت الأمور من منظار مختلف لموازين القوى السياسيّة والطائفيّة في محاولة لتحقيق خرق سياسي من دون المسّ بالتوازنات الأساسيّة بما يغيّر جذريّاً قواعد اللعبة الديمقراطيّة والسياسيّة.

ليس الهدف الآن المقارنة بين المشروعين وحسناتهما وسيّئاتهما، بقدر ما المطلوب استذكار تلك الحقبة من زاوية التفتيش عن جهات سياسيّة قادرة على تقديم رؤى بديلة تتيح إمكانيات التغيير الجدّي دون أن تدفع البلاد نحو الانفجار الكبير خصوصاً أن مناخات التأزم والتوتر قائمة وهي آخذة في التصاعد التدريجي نتيجة الانقسام السياسي والتعطيل المؤسّساتي والانهيار الاقتصادي والمالي.

لم تعد ثمّة إمكانيّة حقيقيّة للمراوحة في دائرة ترف الانتظار والتحدّي المتقابل بين أطراف الصراع. المطلوب التحرّك الآن، وقبل فوات الأوان، لإنقاذ البلاد وهو ليس مساراً مستحيلاً!