الدكتور داود الصايغ

الرؤوس العالية حين تنحني – داود الصايغ – النهار

#دونالد ترامب دخل التاريخ من الباب الضيّق. الأبواب الأخرى كانت واسعةً أمامه، ولكنها أَودَت به إلى الضلال. فأُغلق في وجهه ذلك الباب الأعلى الذي لا يَلِجُه سوى الكبار. فإذ به يدخل التاريخ من بابٍ آخر هو باب السجن. فكَبُر وكَبُرت معه #أميركا أكثر مما هي كبيرة. شعاره الذي سبق له أن أطلقه في معاركه الانتخابية “لنجعل أميركا عظيمة ثانية” لعلّه تحقق معه من دون أن يدري. فالعظمة تكمن في طأطأة الرأس تحت القنطرة التي لا يعلو رأسٌ فوقها. وهي قنطرة القانون.

فذلك المُتباهي والمُتغطرس الذي فهم السلطة على هواه في سياسته الداخلية والخارجية، والذي لم يردع أنصاره من اقتحام مباني #الكابيتول إثر فشله في الانتخابات الرئاسية في سابقةٍ لم تعرفها أكبر ديموقراطيةٍ في العالم، لحق به القانون. ولحق به ذلك القول للأديب الفرنسي بول بورجيه “أعمالنا تتبعنا” “Nos actes nous suivent”، بالسيىء منها والجيّد. فلم يستطع ترامب التمرّد على القانون بعدما أصبح مواطناً عادياً، رئيساً سابقاً! تفضّل إلى التحقيق. هنا لم يجرؤ على تجاوز آخر الخطوط الحمر ولم يجرؤ معه أولئك البدائيون من أنصاره الذين حطّموا محتويات مباني الكابيتول، وساروا وراءه كالقطعان، والذين – كما وردت الأخبار من أميركا – دخلوا كلّهم السجون وحوكموا. فما من أحدٍ كبيرٍ أمام ذلك الميزان الذي تُمسك به العدالة المعصوبة العينين. فالدول الكبرى، دول الحضارة اليوم، هي تلك التي أمسكت بذلك الميزان وما زالت تُمسك به.




نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق يشهد مصيراً يُشبه مصير دونالد ترامب، إذ ما زالت العدالة الفرنسية تلاحقه بتهمة تمويل حملته الانتخابية من معمّر القذافي عام 2007، أي منذ ستة عشر عاماً. خَلَفه فرنسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون وقضى معمّر القذافي في أبشع نهاية، ولكن ذلك الميزان بقيَ معلّقاً فوق رأسه كسيف ديموقليس الأسطوري. تفضّل وقدّم الحساب على هذا التمويل وعلى اتهاماتٍ أخرى.

بوريس جونسون الوزير الأول البريطاني الأسبق فَقَدَ صدقيته وهيبة مركزه وهو الآن يُصارع القضاء البريطاني العنيد لأنه أقام في حديقة مقرّه الرسمي، 10 داوننغ ستريت حفلاتٍ وقت كانت الحكومة حكومته تطلب من المواطنين عدم الاختلاط بسبب جائحة كورونا. فلاحقه القضاء بعد سنة ونصف سنة من تلك الحادثة في ما سُمّي بارتي غيت نسبة إلى فضيحة ووتر غيت الشهيرة التي أَودت برئاسة ريتشارد نيكسون.

هنا لا يمرّ الزمن. ولا يقال عفا الله عمّا مضى. في #لبنان ليس الله هو الذي عفا، بل تلك التسويات التي رافقت مراحل النشوء كلّها، إلى درجة أنه خُيّل إلى الكثيرين أن الفساد هو لصيق الكيان، وأن التسوية هي مساومة: “اعطيني فأعطيك”. فؤاد شهاب احتقرهم، وسمّاهم “أكلة جبنة”، لكنه لم يُبعدهم ولم يُحاسبهم، ومن دون الرجوع إلى من سبقه ومن لحقه من رؤساء و”أصحاب عهود” يُقسمون اليمين على الدستور ويعطون القدوة كما هو مفترض، لأن بعضهم اليوم راقدٌ في أضرحة التاريخ، وإعادة فتح هذه الأضرحة مؤلمٌ لأنه قد يؤدي إلى انطباعٍ بأن الفساد أو غياب القدوة أقلّه، لعلّه سمةٌ مرافقةٌ لكل المراحل الاستقلالية.

على أنه مهما غاص المحللون من مختلف اختصاصاتهم في أسباب العجز عن مكافحة الفساد في لبنان، على طول سنوات استقلاله وحتى اليوم، ومهما حاول البعض إلقاء اللوم على “النظام” من دون أن يوضحوا مفهومهم لهذا التعبير، إلا أنه ثبتَ وسوف يظلّ ثابتاً أنه مهما كان الفشل ذريعاً في مكافحة هذه الآفة، فإن النصوص لا تشكو من شيء، لا على الصعيد الدستوري ولا على الصعيد التشريعي. العلّة في تنامي هذه الظاهرة هو انحدار مستوى المسؤولية لدى من آلت إليهم المسؤولية، وبخاصةٍ في سنوات الحروب وسنوات الوصاية السورية، إلى تسوياتٍ تُلاقي المصالح الخاصة، أكانت على المستوى الطائفي أم الشخصي أم العائلي. العلّة هي هنا، لأنه ليس للبنان حلٌّ على مستوى آخر.

فالفساد ليس لصيقاً بالكيان ولا بنظام الحكم، لأنه لا عودة عن الكيان الذي هو الثمرة الطبيعية للتطوّر التاريخي، ولا مجال لأي صيغة دستورية أخرى غير هذا النظام البرلماني، وغير هذه الصيغة الوفاقية التي تحوّلت بكل أسف من مرماها السامي كصيغة متقدمة للمجتمعات المختلطة – ولبنان هو الوحيد بهذا الاختلاط في الشرق كما في الغرب – إلى آلية محاصصة سافرة، ضربت أوّل ما ضربت المؤسـسة التي آلت إليها السلطة الإجرائية في الدستور المعدّل المنبثق من اتفاق الطائف، وهو مجلس الوزراء.

ولكن إذا كانت هذه الصيغة التي تعرفها الديموقراطيات المتقدمة باسم الحكومات الائتلافية، وهو ما سار عليه لبنان بحكم واقعه السياسي زمناً طويلاً، إلا أن ما يزيد الأمور سوءا وما يحمل الكثيرين على التشاؤم بالإصلاحات المطلوبة بإلحاحٍ من قِبل الخارج، هو وصول المحاصصات والولاءات الشخصية إلى القضاء، لأن القضاء عندنا وعند غيرنا من الأنظمة ذات الدساتير المتقدمة، هو السياج الداخلي. هو الحامي. وفي هذا المجال ليست وحدها السلطة السياسية هي التي تُسأل عن مصالحها في القضاء، بل إنه بعض القضاء بكل أسف، وبعض المحاسبة فيه. فكيف يُطلب من القضاء أن يُحاسِب في الوقت الذي عليه هو أن يخضع للمحاسبة، وحين تزعزعت أُسـسه الصلبة التي حمت لبنان طويلاً في أحلك الظروف الأمنية. كيف يُطلب من القضاء أن يُحاسِب، وعددٌ من القضاة على موائد الاحتفالات الاجتماعية، يُلبّون الدعوات بطيبة خاطر في الوقت الذي كان يُدرَّس في كليات الحقوق عن واجب التحفّظ لدى القاضي، حتى يبقى صاحب مقام، وليس موظفاً في الدولة، حتى يبقى صاحب هيبة في مختلف نواحي حياته الشخصية والخاصة، من دون تسجيل أي مأخذٍ عليه.

من تحقيقات تفجير مرفأ بيروت التي كان أحد أسوأ فصولها تهديد جهة سياسية نافذة بقوّة السلاح “بقبع” قاضي التحقيق العدلي من مركزه وذلك في قصر العدل بالذات من دون أن تُحاسَب على هذا التهديد بالطبع، إلى تحقيقات التدقيق الجنائي، ثمّ إلى الملاحقات التي طاولت وتطاول الحاكم السابق لمصرف لبنان، وغيرها، كلّها تدلّ على أن الحامي الأوّل بات في حمى أولياء الأمر السياسي.

يُصلح الوضع في لبنان؟ نعم يُصلح. فللبنان مبررات وجود. إنه لم يُخلق ليكون ساحة وفقَ هذا التعبير المُذلّ. فهو خُلق لكي يكون ذلك الكيان المميّز في الشرق والذي بقيَ حتى الآن من دون سياج. وإذا كان الموفدون يكثّفون زياراتهم هذه الأيام، في إشاراتٍ واضحة للداخل كما للخارج، فذلك دليل على أن هنالك حركة وإنْ كان مصدرها الحفاظ على المصالح، إلا أنها تدلّ على أن محطتها في لبنان. من كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام السلك الديبلوماسي الفرنسي عن إيران وتدخّلها في لبنان وذلك في 28 الشهر الماضي حينما وجّه إليها اتهاماً ضمنياً وعلنياً بإعاقة انتخاب رئيس الجمهورية العتيد من خلال تدخّلها فيه… إلى زيارة كبير مستشاري الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين وتوجيهه الإشارات الشديدة الوضوح في ظهوره على مقهى في الروشة وزيارته إلى مدينة بعلبك وخلوته مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري وعشائه مع قائد الجيش العماد جوزف عون، اضافة إلى جهده في عملية ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، لأن هذا الترسيم حينما يحصل برّاً، فإن نتائجه ستكون مفصلية على المستويات كافة. فإلى قرار مجلس الأمن الدولي المتشدد بالتمديد لـ”اليونيفيل” بتاريخ 31 الشهر الماضي، فإلى زيارة وزير الخارجية الإيراني بعد محطة له هامّة في دمشق، وإلى الزيارة المرتقبة أيضاً للموفد الفرنسي جان – إيف لودريان، كلّها إشارات تلاقت في أسبوعٍ واحد. فالحضور الأميركي ظاهر بوضوح. توّجته السفيرة الأميركية الشديدة النشاط في رحلة الطيران بالشراع Parapente يوم الجمعة الماضي كأنها تقول لمن يريد أن يراها: أنا هنا في الأجواء الحرة.

فلبنان خُلق لكي تكون أجواؤه حرّة. هذه هي قاعدته الصلبة. هذا هو مبرر وجوده. هذه هي ميزته الرائدة في الشرق. حرية وتوازن ودستور… ووفاق على الميزان الصحيح ذاك الذي كان يقول عنه الراحل الرئيس حسين الحسيني إنه مثل ميزان الجوهرجي. فلبنان ميزانٌ وتوازنٌ. ينفر بطبيعته وطبيعة أبنائه من كلّ تسلّط أكان داخلياً أم دخيلاً، وليس من باب الصدفة أنه البلد العربي الوحيد الذي لم يتمكن أي نظامٍ استبدادي من حكمه.

نقول ذلك للخائفين، للمنطوين على ذواتهم يستحضرون المشاكل ويحصون الأضرار. ليست غيمة صيف كل هذا الذي جرى حتى الآن. كلّا. بل هو غيمة سوداء غطّت وتُغطّي لبعض الوقت، ولكنها سحابة لا بدّ من أن تمرّ لأن مكانها ليس في سمائنا.