“الى جميع الأمم : إن الحريةَ يمكن ان تُكتسب
لكنها إذا فُقدت لا يمكن أن تستعاد”.
جان – جاك روسو
عاش اسم اندريه غروميكو في ذاكرة الديبلوماسية السوفياتية اكثر من أي اسم آخر في القرن العشرين (1909- 1989). وُلد لعائلة مزارعين فقيرة في #بيلاروسيا وتقدَّم سريعاً في مراتب الحزب الشيوعي وأصبح في الرابعة والثلاثين سفيراً في واشنطن، ثم سفيراً في لندن، ثم وكيلاً للخارجية، ثم وزيراً للخارجية من 1957 الى 1984. بعدها عُيّن رئيساً للمجلس السوفياتي الأعلى، أي رئيساً للدولة، وهو منصب فخري.
بعد تقاعده وانصرافه الى كتابة مذكراته، كانت مرحلة عمله قد بدأت مع يوسف ستالين، الزعيم الأكثر شدّة، وانتهت مع ميخائيل غورباتشوف، الأكثر مرونة. وفي يوم مغادرته الكرملين سأله الصحافيون: اندريه اندرييفتش، ما هي خلاصة هذا العمر في السياسة والديبلوماسية؟ اجاب: عشر ساعات تفاوض، خير من عشر سنوات قتال.
في المبدأ، أو في المطلق، الدعوة الى ال#حوار لا يمكن ان تُرفض. في التفاصيل، قد يكون هناك الكثير من التفاصيل وعدد لا بأس به من شياطينها، والكثير من التحفظات والمواقع والحقائق ودعاوى الرفض والامتناع. ولكن السؤال الأخير لا يتغير: الحوار أم بدائله؟
ليس هذا مناخ حوار وتلاقٍ. ففي الجو الكثير من السموم والكره وترسّبات الحقد، وفيه العارم من رداءة الخطاب ومن سِقط النوايا، فكيف ُتزال؟ الخطوة الأولى (والأخيرة) لإزالتها، أو على الأقل للعمل على ازالتها، هي الحوار. لكن السوابق غير مشجعة، فأين حوار بعبدا؟ وماذا عن تصريح الغائب محمد رعد الشهير “غلوه واشربو ميتو”؟ طبعاً هذه شواهد مؤسفة لكنها لا تغير في الجوهر شيئاً: ما من بديل.
تسنّى لي في هذه المهنة المثيرة ان أغطي أحداثاً عالمية تاريخية. في دبلن لم أكن أصدّق أنه سوف يأتي يوم تنتهي فيه المسألة الايرلندية، وفي باريس لم أكن أصدّق ان الذين يتفاوضون داخل المبنى الذي أقف أمامه، هم الاميركيون والفيتناميون الشماليون.
الأولى بدأت نحو العام 1800، والثانية كلفت الفيتناميين نحو 3 ملايين قتيل. في برلين (وباريس) تابعتُ أرقى مصالحة بين اثنين من أكابر أوروبا: الجليلان كونراد اديناور وشارل ديغول. وكان الجنرال ميشال عون قد دعا لفترة الى الاقتداء بالنموذجين التاريخيين، غير انه كان في الوقت نفسه يهاجم الوسطية ويحقّرها ويزدريها، فيمن ازدرى في مؤتمره الصحافي اليومي.
لا يعيش الاعتدال في الغضب والانانيات والشخصانية التي تلغي كل ما حولها. لذلك يؤدي الحوار دوراً بديهياً في الاساس، وهو ان يصغي كل فريقٍ الى رؤية الفريق الآخر مهما كانت قريبةً او بعيدةً من رؤيته. ومن الواضح طبعاً ان معظم ما سوف يقال لا يسرّ الخاطر ولا يرضي الوجدان. فقد سلّمنا مسبقاً بأننا مجرد موضوع على لائحة على القضايا الخارجية ولسنا قضيةً في حدّ ذاتها. ونطرحُ جميعاً في بساطة مذهلة على الآخرين جميعاً أين نحن من تحوّلات المنطقة، وننعى جميع الدولة لكنّ أحداً لا يمدُّ يده الى الغريق، بل إن كثيرين يعبّرون عن خجلهم بالدولة والوطن معاً. وسواء ادى الحوار الى شيءٍ من التلطف في التعامل مع الفقراء او الى المزيد من الاحتدام، فانه مرحلة حتمية لا بد منها. وإنه لفجورٌ عام ان نتقبل هذه الظاهرة المريعة من الخلوّ والفراغ والاهمال والاستغفال. وبعضنا ينادي على المقايضة وكأننا في سوق الخضار. مقايضة في الاشخاص وفي المواقف وفي المبادىء وكأن البلد وقضاياه وشعبه موجودون في بلاد الاسكيمو.
تتحاور حول قضايانا خمس دول على الاقل. جميعها على سبيل التطوع أو التبرع. وجميعنا نؤنّبها أو نعاتبها أو نؤدّبها. ومسكينةٌ #فرنسا كم تعطي من الدروس كل يوم. يؤنّبها البعض لانها تغيرت، ويرفضها البعض الآخر لانها لم تتغير كفايةً. ولا يخطر في بال أي فريقٍ انها دولة مثل سائر الدول لها مصالحها وسلامتها ومستقبلها. ويصدفُ اننا ننهالُ عليها بهذه الدروس من كل الجهات، في الوقت الذي تمرُّ الفرانكوفونية برمّتها في أخطر مراحلها التاريخية. من اصلِ ثماني دول افريقية انقلبَ النظام في ستٍ منها.
وبين أزمتها في الداخل على مشارف العام المدرسي وأزمتها في #اوروبا بسبب حرب اوكرانيا ومأساتها الواضحة في افريقيا الغربية، تُظهر باريس الكثير من اللياقة في الاصرار على الوساطة ال#لبنانية، وعلى علاقاتها التقليدية في لبنان. وقد اثارت كرامتنا طريقة الوزير #لودريان بالتعامل مع بعض البرلمانيين، ولم يلتفت أحدٌ الى طريقتنا في التعاطي مع دولةٍ صديقةٍ منذ قرون.
في نهاية المطاف، ليس الحوار أكثر من محاولة للبحث عن لبنان ورئيسٍ للبنان في قلبِ لبنان، وليس في واشنطن، أو طهران/ أو الدوحة. ومن حيثُ الشكل على الاقل يمكنُ ان نعطي العالم صورةً مختلفة عن فيضان الرفوض الذي احاط بنا منذ بضع سنوات.