ليس التاريخ علم الماضي، بل المستقبل،
وهذا هو الفرق بينه وبين الأسطورة
محمد حسنين هيكل
قبيل نهاية #الحرب العالمية الثانية حصل #لبنان و#سوريا على استقلاليهما، في ظل منافسة بين الحليفين الإنكليزي والفرنسي، لم تمنع من تشكيل دولتين على النمط الأوروبي الجمهوري البرلماني، لهما دستوران حديثان علمانيان وقوانين وضعية مستوحاة بأكثرها من القانون الفرنسي وبعض أحكام المجلة. وقامت مؤسسات الحكم في كلٍّ منهما على الفصل بين السلطات كما بين الدين والدولة، مع مراعاة الأحوال الشخصية بإخضاعها لاختصاص الطوائف، أخذًا بعين التقدير للمشاعر الإيمانية لدى الأفراد والجماعات المختلفة. وفي العراق نشأ نظام ملكي دستوري يحاكي إلى حد ما النظام البريطاني صاحبَ النفوذ على السلطة العراقية الحاكمة، رغم أن الملك هو ابن الشريف حسين بن علي. لم تسر تلك الدول على وفق أحكام الشريعة، بل من خلال دساتير مدنية وقوانين وضعية. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة مصر الملكية التي كانت لها الرِّيادة في سن القوانين الحديثة. أما #فلسطين المتربعة في قلب هذه الدول، فتنوع سكانها بين أكثرية إسلامية وانتشار مسيحي أصلي متجذر، ووجود يهودي، تراوح بين من ولدوا فيها، ومن وفدوا إليها وشكلوا الإرهاصات الأولى لمشروع دولة إسرائيل التي أعلنت “استقلالها” في العام 1948 على أيدي عصابات مسلحة ومنظمة تحت قيادة نخب أجنبية اعتمدت التقاليد الأوربية، والكفاءات العالية الواردة من أوروبا الشرقية في أكثرها؛ وبالفعل استطاعت الحركة الصهيونية العالمية تأسيس كيانها، مدعمة ببيوت مالها العملاقة، وبتأثيرها على النظم الحاكمة في الغرب، وبوزنها الفكري الملموس في مشارب شتّى ممتدة من الشيوعية إلى الاشتراكية فالليبرالية، وباستثمارها براعة يهود نابغين في أنواع العلوم، مستفيدة بالدرجة الأولى من هزيمة دول المحور، ومن الاضطهاد الذي تعرض له المواطنون اليهود على أيدي النازيين.
بعد نكبة فلسطين، اختطّت الكيانات العربية الوليدةُ مسارًا معاكسًا تمامًا لأسس نشوئها، فقامت الجيوش السورية والمصرية والعراقية، في تواريخ متفاوتة بانقلابات على النظم الديمقراطية، ثم راح حكم العسكر ينقلب على نفسه ثورةً تلو أخرى، فغرقت كل من سوريا والعراق في صراعات داخلية مجانية ومدمرة، حتى بين أجنحة الحزب الواحد، فيما أخذ النظام الناصري منحىً قوميًّا تنمويًّا، غابت عنه الديمقراطية والمحاسبة، فسهل استدراجه إلى هزيمة 1967 التي لا نزال نعيش في ظل نتائجها الكارثية.
هكذا تأخرت درجات النمو في “دول الطوق” وساد الفقر، ووهنت الجيوش، فيما مشت إسرائيل قدمًا في سياسة التنمية والتطور، وبناء جيش فائق الحداثة، بدعم غربي وأمريكي بالدرجة الأولى، واعتمدت في تسيير شؤونها على الاحتكام إلى الصناديق، ووضعت القضاء في مكان عصي على الزبائنية السياسية، كما أحرزت تقدمًا اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وارتفع فيها معدل دخل الفرد، وحظيت من الولايات المتحدة الأميركية على المساعداتِ الماديةِ والعسكريةِ وعلى الدعمِ السياسيِّ في ما تقوم به من انتهاك حقوق الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية كلِّها، كما انتهجت في سلوكها معيارًا مزدوجًا يقوم على احترام مواطنية اليهودي، والازدراء بمواطنية أصحاب الأرض؛ ولعل أثمن ما أحرزته الدولة العبرية في ذلك الزمن، أنها توصلت إلى إخراج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، فأمنت على حدودها الغربية، وأحبطت محاولات التسوية مع سوريا، وعبثت بالمبادرات العربية والدولية وبمسرحية “أوسلو” اعتمادًا على ميزان قوى مائل بشدة لمصلحتها، كما تسلحت أيضًا بالقرار 1701 الذي بقي محترمًا رغم بعض المناوشات.
لكن المفارقة الكبرى في عملية تأسيس تلك الدولة “الحديثة الديمقراطية”، أنها اعتمدت أسطورةَ “أرض الميعاد” أساسًا دينيًّا لإغراء اليهود في أصقاع العالم بالهجرة والتجنس، سندًا لديانتهم فقط، فكانوا بهذا يقيمون برجًا عصريًّا على رمال الخرافة التي أدت إلى تزايد أعداد الإسرائيليين القادمين من مجتمعات فقيرة أو متخلفة، حتى أصبحت لهم أحزابهم المغالية في التطرف، والمتحكمةُ بلعبة السلطة وانتخابات البرلمان، عن طريق رفع رايات “الحقوق التلمودية” وتمايز “شعب الله المختار” عن سائر الأمم.
وعلى هذا، فإن أهل “الأسطورة” صارت لهم سماتهم الدامغة على “الدولة المدنية”، فأوغلوا في الاستيطان والاعتقال والقمع والقتل، في وقت بدأ التفسخ يظهر في النسيج الشعبي مع بروز ظواهر خطرة، أهمها اعتكاف جنود الاحتياط عن الالتحاق بخدمتهم. هذه هي اللحظة التي تتحرك فيها الأسطورة من مكمنها لتهدد البناء، لأن فكرة “أرض الميعاد”، وهي ضمانة الدولة العبرية التي لا مناص منها، بدأت تطغى على ما تلبسته من مظاهر أوروبية وديمقراطية عند التأسيس. هنا يستفحل المأزق التاريخي، حيث لم يتكيف الشعب الفلسطيني مع “أوسلو” الذي تنتهكه “الليكودية” بمشتقاتها العنصرية المختلفة ، بل راح يتململ وينتفض في أماكن متعددة وبأشكال متنوعة، في حين أن المفكرين الاستراتيجيين الصهاينة، يقلقون ويحذرون من تنامي الديمغرافيا الفلسطينية في كل الأرض المحتلة، بما يمكن أن يشكل خطرًا وجوديًا على الأسطورة ودولتها في زمان قادم.
وعلينا أن نلاحظ أن ردود الفعل على النزعة الدينية الصهيونية التي تسعى إلى دولة يهودية بحتة، تجابه اليوم بمنظمات مناضلة تميل هي الأخرى إلى الطابع الديني، وتتواصل مع دولة إيران الإسلامية، بما قد يوحي أن الاحتدام يقع بين الديانتين، وبما ينبىء أن الصراع سيخرج من إطاره السياسي إلى صعيد المعتقدات والاستناد إلى الموروث، في دوامة لعلها بدون نهاية معروفة.
عند هذه النقطة يتلاشى مفهوم الدولة بمعناه الحديث القائم على مبادىء حقوق المواطنين، وتحسين ظروف معيشتهم، وتطوير التعليم، وصيانة الحريات، لصالح مفهوم يتخذ من الدولة منبرًا وحصنًا، وبؤرة للأفكار التي تعتمد على الخرافة والتعصب، علمًا أن الراعي الصالح هو من يقود الخراف إلى المراعي الخصيبة لا إلى قحط الخرافة .
أزمة لبنان الذي نشأ كدولة “علمانية دستورية” تسود فيها القوانين الوضعية، أن قواه السياسية وضعته على فالق الأسطورة، فغيَّبَ الديمقراطية واستمسك “بحق النقض الذي يصون العيش المشترك”، وتخلّى عن وحدة الإمرة بتوزيعها على مراكز شتى، وخسر مصداقيته مع الدول، وفقد الملاءة المالية التي نُهِبَتْ بشكل هادىء ومستمر وعلني، كما تخلى عن دوره الذي برر وجوده، وعن رسالته التي ضاعت في بريد غادره السعاة الوطنيون ومبتكرو الحلول.
إننا نشاهد هذه الأيام وبوضوح تام، تحوُّلَ إسرائيل إلى دولة “شرق أوسطية” مع ما يرافق هذه الصفةَ من مفردات التخلف والغطرسة والخطاب الغيبي، ويجعل النار ملتهبة دائمًا في الإقليم. ونرى بالمقابل تقاربًا إيرانيًّا سعوديًّا مصونًا “بسور الصين العظيم”، قد يخفف من غلواء النزوع الانتحاري الذي استفادت منه اسرائيل بدون أي مقابل، للدخول الكامل إلى معظم دول الخليج.
ربما تفلح “الدوغمائية” الصينية المتَكَيِّفة مع متطلبات العصر ومفهوم الدول الحديثة أن تؤثر إيجابًا، بحيث نستطيع الخروج يومًا ما من المحاولات العقيمة لأسطرة الواقع، والذهاب إلى ترويض الأسطورة بأسباب الواقعية. لأن القومَ، أيَّ قومٍ، كلما لجأوا إلى الاستنجاد بالماضي التليد، وتعبئة قواهم بحوادث التاريخ وخطب الحماسة، ابتعدوا عن الحاضر والمستقبل، وهزلت بنيتهم. فتاريخ الشعوب ليس ثكنات ترابط فيها كتائب النجدة، بل هو صفحات خطتها أجيال سابقة، ولم تزل فيه قرون من الصفحات البيضاء التي تنتظر تحبيرها من الأجيال المتعاقبة. وذلك يستدعي جَبْهَ الأسطورة بمنظومة فكرية حضارية، لأن أقرب طرقك إلى الهزيمة أن تشن على الأسطورة هجومًا مضادًّا بأسطورة مضادة، ذلك أن دولة إسرائيل لا تملك التنكر لأساسها التلمودي كي لا تفقد مبرر الوجود، أما نحن، فإذا اعتصمنا بالجبال والوديان والمعتقدات الصخرية، وتخلينا عن رص الصفوف على قاعدة المصالح العامة،، نكون قد تخلينا عن مبرر وجودنا القائم على تكامل المواطنة، وأنشأنا في الشارع الواحد متاريس تتولد منها متاريس في تكاثر خلوي وحشي سيتمادى، ما تمادى فقدان التبصر وغلواء التعصب.
سأخرج من المقدمات التي أوردتها إلى نتائج ملموسة، يجب وضعها قيد الدرس قبل فوات الأوان، لأن فرصة تدارك الانهيار ما زالت قائمة إذا قيضت لها إدارات حازمة، وإرادات صادقة، وبصائر بعيدة.
أولى هذه النتائج أن إعلان دولة لبنان الكبير مناقض تمامًا لإعلان دولة إسرائيل، لأن المعادلة اللبنانية نشأت وفقًا لعناصر مصلحية وثقافية، بين مواطنين من جِبِلَّة واحدة، وفكرتها التكامل الجغرافي جبلاً وسهلاً وبحرًا، ومدنًا وحواضر، وقرى، وشرفة مفتوحة على العالم، يقف عليها رئيس مسيحي تعتز به العروبة، وتلوذ إليه كلما دعت الحكمة إلى ذلك، ووجبت المشورة.
أما دولة أسرائيل فقوامها استثمار أحداث الحرب العاليمة الثانية لتكوين وطن من أشتات ناس، لا تجمعهم إلا الديانة والإيمان بتاريخ مجرد من أسباب الصحة؛ ومع ذلك، فقد اعتمد مؤسسوها وسائل العصر لتوطيدها، وتوفير المصالح العاجلة لمواطنيها المستجدين، فكانوا بذلك على وعي، أما نحن فصرنا إلى جهل.
وثانية النتائج أن نقيض الاستبداد الذي اتسم به عَصْرٌ طويل من عمرنا الوطني، يتمثل في اعتراف الحاكم بالمعطيات الخارجة من الصندوق بدلًا من حشرِها سلفًا فيه. وهذا يستدعي الإقرار بأن الأسطورة التي تملي علينا يومنا، هي فعلًا نتاج الأمس الذي غبر، أما الغد فينبغي له أن يكون مبنيًّا على قواعد العلم الحديث، في السياسة والاقتصاد حتى يكون أمامنا لا وراءنا.
أما الثالثة الثابتة، فهي أن المصالح اليومية للمواطنين تدفع حتمًا إلى التلاقي بينهم، وكل سياسة تتسرب منها روائح التفرقة، انما هي ضد المصلحة الشخصية لكل مواطن بمفرده ومن دون استثناء . ولنتخذ دليلاً على ذلك ما يجري في السودان، حيث يقاتل الجيشُ الجيشَ قتالاً ينذر بالتفسخ الكامل لوطن كان يمكنه، بِمُقدِّرَاته الاقتصادية أن يكون في سُدَّةٍ الريادة، عربيًا وعالميًا، وأهراءَ الدنيا وسلة غذائها.
لا تفوتني الإشارة في النهاية إلى أن المستثمرين في الأسطورة، على مَرِّ العصور، هم ادرى الناس بخوائها، فيما لم يزل سكانها يتمسحون بحوائطها ويقدمون لها القرابين، ويتلون التعاويذ والطلاسم المبهمة، فمتى نخرج من تلك الإقامة المقيتة ونتعلم أن حكايات ألف ليلة وليلة، والمصباح السحري، وسواها من الموروث تسليات صالحة للاستمتاع بها في ظروف الرخاء، أما في الظرف الراهن المدلهم فالوضع مختلف حيث تسلل العفريت من الفانوس، وولى علاء الدين هارباً من شدة اعتمادنا عليه ، وأعلن “علي بابا” عجزه عن إرجاع الودائع إلى أصحابها، بعد أن نهب ” الأربعون حرامي” ما تَبَقَّى في ” المغارة”.