صراع الموارنة على الرئاسة أنهى النخب والدور المسيحي لا المسلمين وتكاثرهم

طبعا لا نوافق على ما قاله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بالنسبة الى عدد المسيحيين قياسا بعدد المسلمين في لبنان، ونحن لن نردّ عليه كما فعل آخرون بتذكيرهم إياه بأن اتفاق الطائف حسم مسألة العدد ووزع المناصب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين سواء أصبح #المسيحيون أقلية الأقليات و#المسلمون الغالبية، لأننا أصلا مع إلغاء طائفية النظام وفتح أبواب الرئاسات الثلاث ومناصب الفئة الأولى للأكفأ من اللبنانيين إلى أي طائفة إنتموا، بعدما فشلت القيادات المارونية والشيعية والسنية السياسية منذ مئة سنة إلى اليوم في بناء وطن ودولة لهم ولباقي أبناء الطوائف الأخرى نتيجة هزال أداء معظمهم وقلة كفاءاتهم وضعف شخصيتهم وفساد غالبيتهم إلا القلة القليلة الشريفة والكفوءة منهم.

ولهذا أخطأ ميقاتي بكلامه اذ كان يجب عليه ان يتحدث عن كل شيء ما عدا مسألتي النخب والعدد بين المسيحيين والمسلمين لأنه بالتأكيد لا هو ولا باقي غالبية القيادات والشخصيات السياسية المسيحية والإسلامية يمكن أن يكونوا يوما من بين النخب اللبنانية بسبب المستوى الهابط لمعظمهم وأدائهم الهزيل وفسادهم وحضورهم الضعيف، لا سيما منذ اتفاق الطائف إلى اليوم باستثناء بعض السياسيين المحترمين من كل الطوائف، وهم معروفون لدى اللبنانيين ولا لزوم لذكرهم.




أما الذين انبروا للرد على ميقاتي من بعض الشخصيات المارونية السياسية والروحية فقد كان الأحرى بهؤلاء أن يسألوا أنفسهم قبل الرد عليه: لماذا وافقوا هم كما وافق غيرهم ممن سبقوهم على أن يأخذ غلاة زعمائهم وقادتهم #الموارنة ومعهم المسيحيون إلى هذا الدرك من الإنحطاط وتراجع الدور منذ الإستقلال مرورا بالحرب الاهلية وصولا الى اتفاق الطائف حتى اليوم من دون أن يعترضوا هم ومن كانوا قبلهم عليهم أو يسألوهم لماذا يقودونهم كل ست سنوات كالخرفان إلى الذبح السياسي أو الإنتحار السياسي نتيجة صراعهم الحاد والمدمر وأحيانا الدموي على كرسي الرئاسة؟ نعم معاناة الموارنة والمسيحيين ونخبهم مع القيادات المارونية السياسية بدأ منذ الاستقلال مع بشارة الخوري الذي عمد قسرا إلى فرض التجديد لعهده عام 1949 وانتهى بعد ثلاث سنوات عام 1952 بانتفاضة شعبية عليه أسفرت عن استقالته وانتخاب كميل شمعون رئيسا وقد سعى بدوره قبيل انتهاء عهده إلى فرض تجديد ولايته مما أدى إلى اندلاع ثورة 1958 التي استمرت ثمانية أشهر وانتهت بانتخاب فؤاد شهاب رئيسا وقد رفض تجديد ولايته عام 1964 رغم مناشدة غالبية الكتل النيابية له فتصرف بكبر من موقع الحريص على الموارنة والمسيحيين ونخبهم وعلى البلد وأهله.

وفي عام 1969 وقّع قائد الجيش إميل البستاني مع ياسر عرفات “إتفاق القاهرة” برعاية جمال عبدالناصر مدعوما من الرئيس شارل حلو والقطبين المارونيين البارزين شمعون وبيار الجميل، ولولا كشف القطب الماروني الوطني الكبير ريمون إده لهذا الإتفاق وقيامه بنشر بنوده على صدر صفحات “النهار” بواسطة صاحبها الإعلامي المميز والراقي غسان تويني لما كان أحد من الموارنة والمسيحيين واللبنانيين علم أن قائد جيشهم كان وقّع على السماح لعرفات وقواته بدخول لبنان مدعوما من قيادات مارونية وازنة مقابل وعد بوصوله للرئاسة من أجل الإطاحة بالشهابية التي كان يعارضها شمعون والجميل ويتماهى معهما بمعارضتها الرئيس حلو والعماد بستاني أيضا. وعند اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 إنبرى شمعون والجميل وحزباهما إلى رفع البندقية بوجه عرفات ومقاتليه وحلفائه تحت شعار مختلق هو منع توطين الفلسطينيين، متناسين أنهم لو لم يوافقوا هم شخصيا على اتفاق القاهرة لما كان العماد بستاني تجرأ على توقيعه، ولما كان دخل عرفات وقواته الى لبنان ووقعت الحرب. وأدت المواجهة المسلحة يومذاك مع عرفات إلى ذهاب شمعون والجميل للقاء الرئيس حافظ الأسد في دمشق والطلب منه إرسال جيشه لإنقاذ المناطق المارونية والمسيحية ومنع سقوطها بيده.

وبعدما لبى الأسد طلبهم وأرسل قواته إلى لبنان وضرب مقاتلي عرفات والحركة الوطنية معا طلبوا منه الإنسحاب لأنه أنجز المهمة معتقدين أن جيشه يعمل عندهم وبإمرتهم، وعندما لم يتجاوب معهم إنقلبوا عليه وأصبحت سوريا وجيشها خصما وعدوا فاتجهوا إلى التحالف العلني مع إسرائيل واستدرجوها مرتين إلى لبنان بالإجتياح الأول للجنوب عام 1978 وبالإجتياح الثاني له وصولا الى بيروت عام 1982 وأسفر آنذاك عن انتخاب رئيسين بشير وأمين الجميل. وبعدما نفّذ الاسرائيليون المهمة المتفق عليها معهم رفضوا إعطاءهم ما وعدوهم به مقابل اجتياحهم لبيروت معتقدين أيضا أن الجيش الاسرائيلي المحتل كما الجيش السوري يعمل في خدمتهم وخدمة مصالحهم فانقلبوا عليه كما انقلبوا من قبله على عرفات والأسد فكانت النتيجة قيام الاسرائيليين بإشعال فتيل حرب الجبل بين الدروز والموارنة والمسيحيين في مناطق المتن الأعلى وعاليه والشوف وإقليم الخروب أسفرت عن تدمير معظم القرى المسيحية وتهجير سكانها إلى مناطق الاشرفية والمتن الشمالي وكسروان وجبيل.

وبعد ذلك عمد غلاة المارونية السياسية إلى التصفيات العسكرية في ما بينهم فكانت انتفاضة جعجع على حبيقة عام 1986 والتي أسفرت عن اغتيال أكثر من 600 شاب ماروني ومسيحي، أعقبتها حرب إلغاء مدمرة بين قطبي المارونية السياسية البارزين ميشال عون وسمير جعجع عام 1989 أسفرت كذلك عن تدمير معظم المناطق المارونية والمسيحية بأبنيتها ومؤسساتها في المتنين الجنوبي والشمالي وكسروان وجبيل وقتلت وجرحت الآلاف وهجرت اكثر من 150 الف مسيحي من لبنان مما حدا بالرئيس حلو إلى وصف تلك الحرب بـ”نكبة” الموارنة والمسيحيين الكبرى الذين دفعوا نتيجتها الثمن الغالي والكبير في اتفاق الطائف بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لصالح مجلس الوزراء مجتمعا مما عزز نفوذ رئيس الحكومة السني، كما زاد سنوات ولاية رئيس مجلس النواب الشيعي من سنتين إلى أربع سنوات.

والطامة الكبرى اليوم على الموارنة والمسيحيين والمتبقي من نخبهم انهم عادوا إلى الإبتلاء مجددا بنفس قيادات الحرب الاهلية وإلى جانبهم قيادات شابة تشبههم بعقلية الإستئثار بالسلطة والتحكم بالقرار يعملون من حيث يدرون أو لا يدرون على أخذ الموارنة والمسيحيين إلى انتحار جديد باعتبارهم لم يتعلموا من أخطائهم وأخطاء من سبقوهم لأنهم مأخوذون بـ”الرئاسة” وبجاهها ونفوذها الذي أدى الصراع القاتل والشرس عليها ليس إلى تناقص عدد الموارنة والمسيحيين وتراجع دورهم وحضورهم في لبنان نتيجة الهجرة المتواصلة فحسب، بل إلى إنهاء “الميزة” الرائعة التي قام عليها لبنان بـ”تعدد طوائفه” والتي كانت “نعمة” له فحوّلوها “نقمة” عليه ومعهم غالبية القيادات الشيعية والسنية السياسية وبعض الأذناب والملحقين من باقي قيادات الطوائف المتوسطة والصغيرة. ولهذا نقول بأن صراع القيادات المارونية في ما بينها على “كرسي الرئاسة” كما أظهرنا آنفا منذ الإستقلال إلى اليوم هو الذي أضعف الدور الماروني والمسيحي في لبنان وضرب نخبهم وليس تزايد عدد المسلمين الذين يعانون هم كذلك على اختلاف مذاهبهم من تراجع في نخبهم ودورهم الوطني أيضا بسبب معظم قياداتهم الذين يتماهون مع القيادات المارونية أيضا بتقديمهم مصالحهم السياسية والشخصية والعائلية والمالية على مصالح الوطن وأبنائه.

النهار