الدكتور داود الصايغ

ظلم الزمان أم ظلم الضمائر – داود الصايغ – النهار

ذات يوم أُبلغ الرئيس #فؤاد شهاب (١٩٥٨-١٩٦٤) بأن أحد الوزراء في الحكومة كان يتمنّع عن تبلّغ دعوى أُقيمت ضدّه آنذاك، إذ كان أنصار هذا الوزير يبعدون المباشرين القادمين من المحكمة لتبليغه. فطلب الرئيس شهاب أن يأتوا إليه بالتبليغ. وعندما التقى الوزير بمناسبة انعقاد مجلس الوزراء قام هو نفسه بتبليغ الوزير بالدعوى شخصياً. رئيس الجمهورية يومذاك أدّى دور المباشر في الدولة التي أراد تحصينها وتفعيل مؤسـساتها. وكانت هذه الحادثة الفريدة في التاريخ الاستقلالي أمثولةً ليس فقط لهيبة الدولة بل لدور تلك السلطة، السلطة القضائية، في إرساء المحاسبة التي لا يعلو أحد عليها، كما حدث ويحدث في الدول الديموقراطية – أو دولة الحق – التي كان لبنان يتطلّع لأن يكون واحدةً منها.

حصل ذلك بعد زمنٍ قصير من أحداث ١٩٥٨، التي كانت بحجمها وزمانها لا تقاس بالحروب التي اندلعت في ما بعد، إذ أعلن رئيس الحكومة رشيد كرامي في بيانه الوزاري أمام مجلس النواب بتاريخ ١٧ تشرين الأول ١٩٥٨: “لسنا بحاجة للعودة إلى الماضي، فلقد عقدنا العزم على غسل هذا الماضي. والحكومة التي تقدّر مسؤوليتها في هذه الظروف بالذات، ترى أن واجبها الأول هو العمل على غرس مبادئ الوحدة الوطنية وتحقيق التعاون والثقة بين المواطنين، وعلى هذا الأساس يمكننا تسمية هذه الحكومة بحكومة “إنقاذٍ وطني””.




فبين الإعلان عن “غسل الماضي” وتبليغ وزيرٍ من قبل رئيس الجمهورية بالذات هنالك ربما فرق. فرق ليس في مفهوم الدولة وسلطتها، بل في متطلبات الوحدة التي اهتزّت يومذاك كما في ما بعد في ظروفٍ مماثلة وأكثر صعوبة في تاريخ لبنان. والدولة كانت ولا تزال هي الحامية الوحيدة لتلك التجربة التي لو اهتزّت لامتدّت الأيدي من الخارج، كما حصل بعد ذلك، وكما الحال اليوم.

فكم من إنقاذٍ حصل حتى الآن، يقول البعض. على لغة مدام مانون رولان الثائرة الفرنسية التي يقول التاريخ إنها عندما صعدت إلى المقصلة إبان الثورة الفرنسية عام ١٧٩٣ قالت “أيتها الحرية كم جرائم ترتكب باسمك”. فالإنقاذ ليس من شروطه المساومات، فبين التسوية والمساومة فرقٌ كبير. وتجارب العديد من الدول تدلّ على أنّ التسوية “Le compromis” بالمعنى النبيل هي أساس المجتمعات، وخاصة المجتمعات المتنوعة والمتعددة. ولكن ماذا يحصل عندنا منذ سنوات: تسويات أم مساومات؟ مشاركة أم تبادل في الحصص؟

على أننا اليوم، اليوم بالذات، بعد الذي يجري في القضاء يرى الكثيرون أنفسهم أمام تساؤلاتٍ مصيرية تُضاف إلى القضايا الأخرى التي تتراكم همومها على اللبنانيين. فالقضاء هو تاج المؤسـسات في الدولة. والقضاء اللبناني كان من أنجح السلطات القضائية في العالم، بقضاته وعلمائه وأساتذته ومحاميه، والأهم من كل ذلك بمفهوم العدالة المعصوبة العينين التي لا تحسب حساباً للولاءات السياسية ولا للانتماءات الطائفية.

لعل القضاء اهتزّ في زمن الحروب الأخيرة مثل سائر مؤسـسات الدولة، وبلغ اهتزازه ذروته في زمن الوصاية السورية، والأمثلة المأساوية عديدة ولا مجال لذكرها.

فالقضاء اللبناني اليوم هو في قلب التحديات ليس في تحولات القضاء بحد ذاته بل في تحولات لبنان. فجريمة المرفأ لا يمكن أن تُطمس بالرغم من كلّ محاولات طمسها ولذلك فإن التطور القضائي الأخير في قرارات المحقق العدلي أعاد طرح التساؤلات الأساسية.

ولكن اليوم، اليوم بالذات، تلتقي القضايا الكبرى. لعل الغضب يمتزج بالألم. هل هي علامة من الأقدار لتُحدث التحوّل المطلوب بعد الصبر الطويل، بعد السأم من تعداد المحن الحياتية والسياسية والوطنية، من المحاولات الواضحة من قبل جهاتٍ معيّنة لتعطيل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، الذي هو في سجلّ الكوارث العالمية يأتي بعد هيروشيما. فهل بالمستطاع طمس التحقيق، وخدمةً لمن؟ هل هنالك جهة أو جهات تحول دون ظهور الحقيقة بعد أكثر من سنتين ونصف السنة على الفاجعة. إلى تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية بقرار واضح من قبل الذين لا مصلحة لهم بالانتخاب، أو لا مصلحة سوى بانتخاب شخصٍ معيّن. إلى مآسي المودعين في المصارف وعدم وضوح أي خطة لمعالجتها. إلى تصاعد سعر صرف الدولار الأميركي بصورة تبدو كأن هنالك من يتلاعب بالأسعار وبيوميات اللبنانيين الحياتية. إلى ذلك التقصير المتمادي من قبل المسؤولين في معالجة أدنى الأزمات الحياتية. إلى قضية النازحين السوريين والسجالات الخارجية والداخلية بشأنهم. إلى الصراعات الدستورية حول شرعية اجتماعات مجلس الوزراء. هذا كثيرٌ على شعبٍ من الشعوب. وعلى بلدٍ وُجد لكي يكون بلد الدور والضرورة في منطقته والعالم.

ومع ذلك فإن اللبنانيين، كمواطنين لعلهم تمرّسوا بالصعاب فأعادوا إعمار الشوارع المحيطة بالمرفأ، وهذا يسجّل لتاريخهم الساطع في حسن التعامل مع المحن. ولكن ما يفوق ظلم الزمان هو ظلم الضمائر، إذ لعلّ في تلاقي الأزمات المصيرية ما يُفترض أن يقود إلى الحسم. أين أنتم؟ أيها الجالسون على الكراسي ومَن أجلسكم عليها، هل هو قانونٌ انتخابي مشوّه فُصّل على قياس مصالح البعض خلافاً لكل تقليد التاريخ اللبناني الحديث فأذكى الصراعات الشخصية والوصولية البعيدة كل البعد عن الطموحات الوطنية. فهل الصراع على #رئاسة الجمهورية هو بسبب الخلاف على الرؤية الوطنية؟ إنها الـ”أنا” فقط. الأيدي الخارجية العابثة تمتدّ بوقاحة وليس من يردّها، بل هنالك بكل أسف من يمدّ بيده إليها. أليس في ذلك جانب مخفيّ ومخيف ليس فقط في الاستحقاق الرئاسي بل في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت؟ تساؤل ليس بمستغرب. لعل الجواب سيأتي في القرار الاتهامي الذي لا بدّ أن يصدر بعد تراجع العاصفة التي هبّت على القضاء إثر قرارات المحقق العدلي، وردود الفعل عليها من جانب بعض القضاء.

لماذا يُقفل باب المجلس النيابي أمام انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولماذا استمرار تشويه أحكام الدستور من قلب السلطة المؤتمنة على الدستور في الدعوة إلى رئيس وفاقي يفرضه من بإمكانه التعطيل، كما جرى حين امتدّ الشغور إلى أكثر من سنتين ونصف السنة. لماذا هُدّد المحقق العدلي في قلب قصر العدل بالذات ولم يتحرّك القضاء يومذاك لمساءلته؟ ولماذا ذلك الإصرار المعلن على الرئيس التوافقي؟ رئيس لا يطعن في الظهر؟ حوارٌ للاتفاق على اسم؟ جلساتٌ أسبوعية باتت لا تُقنع أحداً بجديّتها.

المخاوف كلّها مبررة. رئيس الجمهورية هو رأس الدولة، ودوره قيادي في عمل المؤسـسات، إذ لا دولة بدون رأس. وهو بحكم ما يمثّل ومن يمثّل لاعبٌ أساسي، فضلاً عن أنه الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق. فلمصلحة من هذا الشغور المتعمّد. لأن هنالك مصلحة أكيدة لدى من بيده التعطيل أن يستمر الشغور. فلقد أوصلنا المتحكمون بالقرار إلى معادلاتٍ بدا معها أن المؤهلين غائبون. وهذا خطأ مقصود. فالمؤهّلون للرئاسة عديدون إن كانت هنالك نيّة صادقة لملء الشغور، لأن الأمر ليس محصوراً بمقولة “الرئيس القوي”.

لم يحدث أن جاء إلى رئاسة الجمهورية في لبنان رئيسٌ ضعيف. التاريخ يشهد على ذلك. ليس لأن الكرسي تصنع صاحبها، بل لأن القوة لها مفهومٌ غير رئاسة حزب أو كتلة نيابية. فطرح فكرة “الرئيس القوي” كان ولا يزال لخدمة مرشحين معيّنين في أن الأقوى في طائفته يجب أن يصل إلى المركز المخصّص لها. هذا عين الخطأ أولاً لأن عدداً من الذين شغلوا المراكز الكُبرى لم يكونوا بارزين في طوائفهم ولا رؤساء أحزاب.

اليوم تتراكم الغيوم فوق سماء لبنان. هل هي ساعات الليل الكالحة التي تسبق الفجر على لغة الأديب البرازيلي بابلو كويلو. ليس هذا هو المرتجى فحسب بل إنه المتوقع وفق منطق التاريخ بل وفق علة وجود ذلك البلد الذي خلق للنور وليس للظلام. أو كما قال سعيد عقل وأنشدت فيروز:

أنا حسبي أنني من جبل هو بين الله والأرض كلام
قمم كالشمس في قسمتها تلد النور وتغطيه الأنام