لم تنته فصول الانقلاب السياسي القضائي الأمني، الذي شهد فصلاً جديداً في لبنان تمثّل بمحاولة وزير العدل هنري خوري المقرّب من التيار الوطني الحر، وبعض أعضاء مجلس القضاء الأعلى مدعومين من الثنائي الشيعي، عزل المحقق العدلي في ملف تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. وقد مهّد المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات لخطوة الإقالة بإحالة البيطار إلى هيئة التفتيش القضائي والتعميم بعدم استلام أي قرار أو تبليغ أو مستند من قبل القاضي البيطار كونه مكفوف اليد.
إلا أن الضغط الشعبي المدعوم من نواب التغيير والقوات اللبنانية والكتائب و”حركة الاستقلال” نجح في تعطيل اجتماع مجلس القضاء الأعلى، الذي يضم أكثرية مناهضة للبيطار لكنهم رفضوا الاجتماع تحت ضغط المحتجين، ما أتاح للمحقق العدلي غطاء للاستمرار في مسؤولياته في مواجهة ما يصفه “انقلاباً على القانون”، وفرصة لإصدار القرار الاتهامي في الملف، معلنا “سأصدر القرار الاتهامي سواء كنت في مكتبي أو منزلي أو الحبس”.
وكانت الأنظار اتجهت منذ الصباح إلى قصر العدل حيث تجمّع أهالي الضحايا وعدد من وجوه 17 تشرين الأول/أكتوبر لمواكبة تحرّك النواب في اتجاه نقابة المحامين لمطالبتها باتخاذ موقف حازم من الإجراءات القضائية الأخيرة لعويدات ومحاولة طمس العدالة في قضية انفجار المرفأ، قبل أن ينتقل النواب إلى مكتب وزير العدل حيث حصل توتر بين الوزير وعدد من النواب أدى إلى تدافع وعراك بين بعض النواب ومرافقي الوزير بسبب كلام حاد توجّه به النائب وضاح الصادق إلى خوري.
وقد خرج النواب من اجتماعهم بوزير العدل غير مرتاحين لما يُخطط له وطالبوا باستقالته. ولفتت النائبة بولا يعقوبيان إلى “أننا نشتم رائحة كريهة بالتوجه لعزل القاضي البيطار وتعيين قاض آخر”. أما وزير العدل فأسف “للمشهدية السيئة والمؤسفة التي حصلت أثناء استقباله مجموعة من النواب”، وأوضح “أن الإشكال تسبّبت فيه أولاً الأجواء القضائية المشحونة، وثانياً نوايا بعض النواب الذين لم يلتزموا أصول التخاطب واللياقة مع الوزير”. وأضاف في بيان: “وافق الوزير على استقبال النواب الذين استرسلوا بالإدلاء بمواقفهم وكان مصغياً بهدوء لجميع المداخلات إلا أن حماسة بعض النواب وصراخهم وتهجمهم على الوزير وتحديداً النائب وضاح الصادق، الذي كال لوزير العدل ألفاظاً نابية طالباً منه الاستقالة إذا لم يتصرف، دفعت بالقاضي ايلي حلو التقدم من النائب طالباً منه الهدوء والجلوس، إلا أن النائب وضاح الصادق استشاط غاضباً، وقال للقاضي: “شيل إيدك عني وليه”… فأجابه القاضي: “لا أسمح لك بأهانتي”. وهنا ثار بعض النواب وتدافعوا صوب القاضي حلو الذي دفعه وضاح الصادق خارجاً عندما حاول الدفاع عن نفسه، وهنا تدخل أمن الوزير ومرافقوه للحؤول دون التضارب الذي حصل بين مجموعة من النواب والأمن”. وتابع البيان: “يأسف وزير العدل لهذا الاحتداد المفرط الخارج عن المألوف والذي أدى إلى هذا الهرج والمرج علماً أنه خلال اللقاء أبدى كامل استعداده لاستعمال كافة صلاحياته لمعالجة تداعيات ملف المرفأ ومستجداته وهو حريص على السير به إلى خواتيمه مهما كانت الظروف علماً أنه لم يتوان سابقاً عن استعمالها منذ توليه مهام الوزارة”.
واستغرب نواب شاركوا في الاجتماع بوزير العدل تحوير الحقائق، وقال نائب القوات غياث يزبك “عندما قرأت بيان وزير العدل الذي شوّه فيه حقيقة ما حصل من اعتداء سافر على النواب في مكتبه، جاءني دليل إضافي على أن خوفي على العدالة في لبنان حقيقي ومبرّر”. وأضاف “تسألون بعد كيف تحوّلت جذوع العدالة إلى عويدات؟ ولماذا الاستشراس لقبع القاضي البيطار؟ عدالة قال!”.
وفور معرفة المحتجين بالاعتداء على النواب في مكتب وزير العدل، قاموا بردة فعل محاولين اقتحام مبنى الوزارة ونجحوا في خلع البوابة الحديدية ما أدى إلى تدخل القوى الأمنية المولجة حماية المبنى بعنف ما أوقع إصابات في صفوف البعض ومحاولة لتوقيف المحامي واصف الحركة قبل فك أسره وناشطة أخرى أصيبت وكادت تفقد وعيها. وأطلق المحتجون هتافات ضد عويدات بينها “يا غسان إسمع إسمع دم الضحايا رح تدفع، ويا ظالم يلا فلّ ونحنا مش رح منكلّ”.
بعد ذلك، توجّه النواب للاجتماع برئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود المتعاطف مع أهالي ضحايا الانفجار والداعم للمحقق العدلي ولصدور القرار الاتهامي بأسرع وقت. ولفت عضو “تكتل الجمهورية القوية” النائب جورج عقيص بعد اللقاءات إلى “أننا جميعنا في مركب واحد وعلينا كنواب سياديين اليوم استعادة الدولة من الدويلة واستعادة ملف قضية المرفأ، ولن نسمح بتهديد القاضي بيطار”، لافتاً إلى “أن القرار الاتهامي سيصدر قريباً”.
ولوّح عضو كتلة الكتائب النائب الياس حنكش “بتحركات بالشارع”، وقال بعد الاجتماع بالقاضي عبود “لن يكون هناك قاض رديف للقاضي البيطار”.
وأوضح النائب ميشال معوّض في تصريح “لسنا هنا لنتدخّل بالقضاء لكن هناك تدخلات سياسية من السلطة عرقلت عمل القاضي البيطار وما يحصل هو انقلاب على العدالة”. أما النائب وضاح الصادق فاعتبر “أن قصر العدل اليوم تحت الاحتلال”.
أما النائبة حليمة قعقور فدعت “إلى الهدوء وعدم الانجرار إلى فتنة والتركيز فقط على العدالة للضحايا”.
من ناحيته، أوضح المتحدث باسم أهالي ضحايا انفجار المرفأ، وليام نون، “أن ما يحصل بملف التحقيقات محزن”، مضيفًا:” كنا نتوقع أن نصل إلى هذه المسخرة فهذه تصفية حسابات ولهذا السبب طالبنا بتحقيق دولي لأن القضاء انتهى”.
بدورهم، أكد الأهالي أنه “آن الأوان لينتفض الحق على الباطل ويقف القضاء في وجه من يعطل مرفق العدالة ومن يمنعه من محاسبة المجرمين”، ودانوا “قرار السلطة بأشكالها كافة الانقلاب على القانون وعلى التحقيق”. وطالب الأهالي بتحقيق دولي وحماية دولية.
وتعليقاً على ما تقدّم، ذكرت أوساط المعارضة لـ”القدس العربي” “أن التشرذم الذي يصيب الجسم القضائي هو بين جناح قضائي يتمسّك بمسار العدالة التي يفتَرَض بأنّها تعلو ولا يُعلى عليها، وبين جناح قضائي آخر يشكل امتدادًا لحقبة النظام الأمني اللبناني- السوري المشترَك الذي يعتبِر القضاء أداة بيده وظيفته الوحيدة تصفية الحسابات السياسية عن طريقه”. وأضافت “عندما وجدت السلطة القابضة على الدولة أن بعض القضاة وعلى رأسهم المحقق العدلي لا يتراجعون أمام وعيد وتهديد، ولا يخضعون لسلطة الأمر الواقع، ولا يتنحُّون خوفًا على مصيرهم، قرّرت تفكيك الجسم القضائي تخلّصاً من العدالة والحقيقة بعدما عجزت عن هذه المهمة بالوسائل السياسيّة والترهيبية”.