لم يمرّ ال#لبنانيون في امتحان وطني ونجحوا فيه. ما هو هزيمة عند فريق، هو بهجة عند سواه. لا يستطيعون ادّعاء النبل ولا التجرّد ولا الترفع ولا الرقيّ. وإذا ما ادّعوا فما هو إلا ادّعاء. آخر الامتحانات كان الانتخابات الماضية. تحت العتم وفي الحرّ وعلى أبواب المستشفيات المتوقفة مصاعدها، أعادوا انتخاب قيصر الطاقة وزادوا عليه سلطانه الأرجوان. حتى هذه اللحظة، وبرغم أن العتم دخل قلب كل لبناني، لم يعتبر أحد من اللبنانيين أن تسمية الهيئة الناظمة للكهرباء مسؤوليته. أو مسؤوليته معرفة هذا السرّ الهائل من جملة الأحاجي التي تتحكّم بكل خلل عضوي بنيوي هيكلي سافل، في جسم البلاد المهترئ.
يرى اللبناني أنه مجرّد وريث لا مسؤولية عليه سوى البحث عن كفيل يوكل إليه إدارة الإرث. كفلاء من كل مكان. حالة لا مثيل لها في أيّ بلد. شعب لا مانع لديه بأن يدعو جميع الأمم الى المشاركة في الوصاية عليه. ثم يدبدب على يديه ورجليه في قلب العتم لكي ينتخب حرّاس العتم وتجّار الظلام.
تأمّل هذه الصحوة اليوم. الناس تبحث عن #إلياس سركيس آخر. كأنما في مثل هذه البساطة يمكن العثور على ذلك الخليط من الأنفة والكرامة والنصاعة. لكن الياس سركيس كان شجاعاً أيضاً. كان أكثر الرؤساء قوّة بعد فؤاد شهاب، لأنه مثله أو طبق الأصل، لم يكن يريد شيئاً. ولذا ظلّ أعلى من جميع الذين يريدون. وكان الأضعف في طائفته. والأصدق والأعقل والأكثر خلقاً. لم يكن الياس سركيس مرة مستعبداً أمام الكرسيّ الذي قدم إليه. عامله دوماً على أنه مقعد مؤقت له قاعدة واحدة: العقل والضمير.
وكان لديه منهما ما يكفي، بحيث أصبح نموذجاً فريداً في القوة والصمود، وتجاوز حشرات الهوام وذباب النهب. في هذا المعنى، لا يمكن لبنان أن يعرف رئيساً في قوة الياس سركيس. لم يلمس الدستور، لم يلمس المال، حاكماً للبنك المركزي أو رئيساً، لم يمسّ علاقة لبنان، ولا بطانة ولا أزلام ولا حقائب وزارية لأصحاب الحقائب الثقيلة. رجل ملء كرامته. مثل جبينه. مثل قلبه الطيّب وحبّه للناس وحرصه على حياتهم وأرزاقهم وسيادة وطنهم.
يجب ألّا نطلب من اللبنانيين ما لا يملكونه. إنهم منهمكون الآن في قضيّة كبرى: هل القصر الجمهوري ملكية خاصّة أم ملكية عامّة؟ هل مجرّد الإقامة فيه تمنح المقيم حقوق الأبدية؟ يفكّر أحرار لبنان في حلّ أبهى. بدل أن يطلب الرئيس البقاء، يطلب ذلك الشعب العظيم. جماهير الإنقاذ والديموقراطية مهرجان دائم. مسؤولية كبرى لا وقت فيها حتى لابتسامة عابرة. نحن نعمل لأجلكم، وليتحدّث التاريخ عن نفسه. طريق وخريطة طريق بلا نهاية. لا خواتيم عند الشعب اللبناني. شعب في الانتظار. ينتظر تكليف رؤساء الحكومات، وينتظر تأليفها، والمشهد يتكرّر. طبيعة صامتة.
كل يوم، موعد النشرة المسائية، تبدأ صورة القصر. ثمّ نافورة القصر. ثمّ صورة حارسين يذرعان البوابة. وبعدها صورة القصر من الداخل: الرئيس، واجماً يستقبل الرئيس المكلف. في اليوم التالي يتسمّر اللبنانيون أمام موعد النشرة: قصر، فنافورة، فحارسان يذرعان، فالمشهد: الرئيس واجماً، الرئيس المكلف مودّعاً. طبيعة صامتة.
بعض هؤلاء، أي الرؤساء المكلفون، لا يسأم. مرّة، مرّتان، عشرون مرّة، وأخيراً يدرك مغزى الوجوم. البعض الآخر يحاول. مرّة قمحة، مرّة شعيرة، مرّة تصريح سليم عون عن البكاء دماً. يا نائب، الله يبشّرك بالخير. ألا يكفي اللبنانيين أنواع الدموع التي ذُرفت حتى الآن؟ دماء أيضاً؟ بصير يأمره الشعب اللبناني. هو الذي ينتخب: من زحلة الفتاة الى زحلة الفتى. ويصحو فجأة باحثاً عن الياس سركيس. الضباب يملأ ضهر البيدر، والرؤية صفر…
خيط من الدماء، إمّا يتقدم اللبنانيين أو يلحقهم. لا وعد آخر. وعيد وحديد وتهديد ولا ابتسامة. وهم سائرون. هم في الشوارع يهتفون لموتهم جوعاً وقهراً وذلاً. نائب زحلة لم يهدّدنا فقط بالبكاء، بل بالبكاء دماً. بكاء يغمر السدود القاحلة، ويعيد عشرات آلاف الأشجار التي مُحيت بحثاً عن المياه في أغنى بلدان الشرق الأوسط بالمياه. وكانوا لاحقين إيّاها الى مرج بسري، لو لم تنتبه دائرة السدود والسواقي والصهاريج، في البنك الدولي.
تصرف دول الخليج عشرات المليارات من أجل التشجير. ويحتاج قطع شجرة في سويسرا الى استفتاء وطني. ويقول نائب من نواب الأمة إن سدّه سوف يتسبّب بقتل 51 ألف شجرة (فقط). عيونهم ضيّقة، هؤلاء اللبنانيون، بكاء الدماء. تواضع لا نهاية له ولا قعر. تقدمة خاصة من سعادة النائب.
يقال، في ما يقال من خيرات وبركات ووعود جميلة، إن اللبنانيين سوف ينقسمون حشوداً الى جبهتين: واحدة تهتف لإخلاء القصر، وأخرى تهتف لسرمدية البقاء فيه. هكذا حدث في صنعاء من قبل، ولكن في هدوء ورقيّ. وهكذا حدث في بغداد الأسبوع الماضي. في لحظات الاختلال، ينادى على الغوغاء. ويطالب العقلاء، بلسان وليد جنبلاط، برجل مثل الياس سركيس. صعبة يا بك. هناك رجال لمرّة واحدة، وهناك رجال مع تصفير العداد. البداية والنهاية. الياس سركيس وسليم الحص وفؤاد بطرس في عهد واحد. العجائب تحدث مرّة واحدة.
نحن الآن في بلد يموت فيه المعتقل رفساً بأقدام المحققين. ولا تستحق الجريمة ذكراً. هذه ظواهر الشعوب لا الأفراد. ظواهر الشعوب التي يقتحم قضاتها المكاتب بالمهدّات والركل. ويبحث المدّعي العام عن حاكم البنك المركزي على طريقة شرلوك هولمز وأغاتا كريستي. والحاكم هارب في مكتبه.
لا يتصرّف اللبنانيون على أن هذا النوع من القضاء يجري في بلادهم: ركل أبواب المكاتب، وركل البنك المركزي، وركل الموقوف السوري حتى الموت. والموت الأكبر غياب الكبار بلا بدائل. لم أنتظر وفاة أحمد الحاج لكي أتساءل: لماذا لا يكون هذا الرجل رئيساً لجمهوريتي؟ طالما تساءلت ذلك يوم كان حيّاً، نموذج العسكري الكامل الخلق، والمدني الشهم الطباع، والوطني الأكثر صلابة من أي تجربة أو محنة.
أن يكون الركل قد أصبح جزءاً من القانون، علامة ابتلاء. نحن لسنا في حاجة الى إصلاح، بل الى إعادة نظر.