لدى الموسيقي اللبناني ألف، يجد المستمع عالماً موسيقياً شاسعاً، متنوعاً بألحانه وإيقاعاته الشرقية والغربية، واللاتينية والإسبانية والافريقية، والعربية القديمة والحديثة المشرقي منها والمغربي، ويجد كذلك الموسيقى الكلاسيكية، والغناء بلغات متعددة كالعربية والإنكليزية والفرنسية. والكثير من الآلات الموسيقية، كالبيانو والقانون والناي والبزق والطبلة والأوكورديون من الآلات الشرقية، والغيتار والدرامز والكمان والكونترباص من الآلات الغربية، بل الأوركسترا السيمفونية بأكملها، وبعض آلات الإيقاع الافريقية واللاتينية، التي تتغير من قطعة موسيقية إلى أخرى حسب ضرورة وجودها. ويقدم أحياناً في حفلاته عزفاً على آلات غير موسيقية كالمنشار مثلاً، الذي يعزف عليه أحد الأشخاص بواسطة قوس الكمان ليصدر صوتاً جديداً غريباً يوحي بالخوف إلى حد ما.
تنصهر كل هذه الألوان الموسيقية، وتتداخل مع بعضها بعضا في المقطوعة الواحدة لدى ألف، فهو لا يعرف حدوداً بين موسيقى العالم، ويزيل أي حواجز وهمية بينها. ويقنع المستمع بأن تلك الحواجز التي يعتقد البعض في وجودها، إنما هي حواجز مصطنعة لا أساس لها. لكن كيف يجمع ألف بين أنواع الموسيقى؟ وفي أي إطار يقدمها؟ بحيث تتقبلها أذن المستمع بسلاسة، في أي مكان في العالم وأياً كانت ثقافته. والإجابة هي أن ألف وجد الإطار الموسيقي الأقرب إلى نفسه، الذي يستطيع أن يجمع كل هذه الموسيقى، وهذا الإطار الموسيقي هو الجاز.
وإذا نظر المرء إلى خريطة موسيقى العالم، سيجد أن الجاز يحتل مساحة لا بأس بها على هذه الخريطة. ويثبت ألف في كل مرة يقدم فيها عملاً جديداً من أعماله، أن الجاز، هذا الفن الأمريكي بأصوله الافريقية، والأكثر عمقاً في محليته، يستطيع أن يسع الموسيقى بأكملها. والجاز كما هو نوع موسيقي، هو في الوقت نفسه ثقافة وأسلوب، ينطبع أثره على الفنان والمتلقي. ولهذا النوع الموسيقي مكوناته الفنية وجذوره التاريخية القديمة، وألوانه المتعددة وتشعباته الكثيرة. بمعنى أنه عالم موسيقي أيضاً، يشعر المستمع باختلافه وتفرده، ولأنغام الجاز طبيعة تفرض سماعاً معيناً على المتلقي، وتجعله يتبع إيقاع الاستماع الخاص بها، وإلا ضاع قليلا ولم يستطع أن يتذوق هذا الفن ويفهم معناه ورسائله الفنية.
لا يقدم ألف أعماله منفرداً، فلديه فرقة موسيقية تسمى فرقة «الفن الثامن» التي تحتوي بدورها على أكثر من عشر فرق أخرى تقريباً، أو يتعامل مع هذه الفرق من حفل إلى آخر. ويلاحظ دائماً ذلك التنوع الكبير في الآلات الموسيقية لدى ألف، والمزج بين المختلف منها، ذلك المزج يكون جميلاً في نهاية الأمر، مهما بدا غريباً بالنسبة لبعض المستمعين في البداية.
للجاز عشاقه بلا شك وهواته الأصليون، الذين يحسنون الإصغاء إليه ولا يضيعون في شعابه، وهناك من لا يفهمه أو يستطيع أن يتذوقه بسهولة، وهناك من يسمعه بشكل عادي عابر، ويقف في منطقة وسطى بين الإعجاب الشديد به، والرفض التام له. لكن ألف يستطيع بكل تأكيد أن يُدخل الكثيرين إلى عالم الجاز، وأن يتيح لهم سماعاً آخر ومقاربة مختلفة، فمهما اختلفت الأذواق، سيجد كل ذوق ما يحبه لدى ألف. من مؤلفات بيتهوفن وشوبان الكلاسيكية، إلى أغنية «حرّمت أحبك» لوردة الجزائرية، مروراً بألحان الرحبانية والأغنيات الشامية العتيقة، وموسيقى عبد الوهاب وأغنيات أم كلثوم، وإيقاعات السالسا والتانغو والفلامنكو، كل هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الموسيقية الخاصة، التي يبدعها تحت أسماء نابعة من وجدانه، وأفكاره الموسيقية المتنوعة.
ألف هو فادي أبي سعد، الشاب اللبناني الذي حقق شهرة عالمية كبيرة، وقدم موسيقاه على أهم مسارح العالم، كمسرح الأوليمبيا في باريس، حيث استمتع الجمهور بحفل باهر واستمع إلى كون مصغر من الموسيقى. ومن يشاهد ذلك الحفل مسجلاً، يشعر بقوة الموسيقى وكثافتها، ومدى امتزاجها واختلاطها مع بعضها بعضا، وقدرتها على إقامة حوار شيق وممتع ومفهوم للجميع تقريباً بدرجة كبيرة. ويدرك المشاهد أيضاً حجم موهبة ألف، وما يفعله حقاً في فنه الخاص، وما يقوم به من تقديم موسيقى أغلبها قد يكون مسموعاً من قبل، بشكل جديد تماماً، وبإحساس فني، ورؤية موسيقية، هي في جوهرها إبداع مبتكر وخلق فني آخر. وعلى مسارح عالمية مهمة غير مسرح الأوليمبيا الفرنسي، قدم ألف العديد من الحفلات التي يتفرد كل منها بموضوعها وثيمتها الخاصة، على مسارح أوروبا وكندا وأمريكا، كل هذا بالإضافة إلى مشاركاته وحضوره في وطنه لبنان، من خلال المهرجانات الموسيقية الكبيرة في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية.
من أساس كلاسيكي ينطلق ألف، فهو دارس للموسيقى الكلاسيكية، وعازف بيانو ماهر ومتفرد، كما يعزف بنفسه على الأوكورديون في بعض حفلاته أحياناً. لا يعزف ألف على البيانو بشكل تقليدي، إذ يمنح نفسه الحرية الكاملة في تفاعلها مع الموسيقى كما تشاء، فيقف أحياناً أثناء العزف، أو يصفق سريعاً بين بعض النوتات، كما يتحرك جسده طول الوقت بمصاحبة الموسيقى، فيبدو كأنه يرقص جالساً. وهو يعزف على البيانو بأسلوب الجاز في حفلاته، وبمهارة شديدة يعزف الألحان العربية الشرقية على هذه الآلة وبهذا الأسلوب الخاص بالجاز.
لا يقدم ألف أعماله منفرداً، فلديه فرقة موسيقية تسمى فرقة «الفن الثامن» التي تحتوي بدورها على أكثر من عشر فرق أخرى تقريباً، أو يتعامل مع هذه الفرق من حفل إلى آخر. ويلاحظ دائماً ذلك التنوع الكبير في الآلات الموسيقية لدى ألف، والمزج بين المختلف منها، ذلك المزج يكون جميلاً في نهاية الأمر، مهما بدا غريباً بالنسبة لبعض المستمعين في البداية. ومن الأمثلة على ذلك ما فعله في حفل Radio at the Symphony الذي قدمه بمصاحبة أوركسترا سيمفونية كاملة، بالإضافة إلى البيانو بالطبع وبعض الآلات الشرقية الأخرى، ومن بين ألحان كثيرة، جعل هذه الأوركسترا تعزف لحن أغنية «حرمت أحبك» لوردة الجزائرية، وقام هو بالعزف على الأوكورديون في هذه الفقرة بمرح في تفاعل كبير مع الجمهور.
ألولألف أيضاً مؤلفاته الموسيقية الخاصة، التي يقدمها على البيانو بشكل أساسي، مع بعض الآلات القليلة الأخرى المتغيرة على الدوام. ومن أجمل هذه المؤلفات، قطعة بعنوان «أورلا» وقطعة بعنوان «زوينة». أهداهما مع بعض المقطوعات الأخرى، إلى ضحايا تفجير مرفأ بيروت. وللقطع الموسيقية العربية جاذبيتها بالطبع في أعمال ألف، حيث يُصغي المستمع العربي إليها، بطريقة جديدة تماماً، بينما يظل اللحن في بعض أجزائه مألوفاً لديه، بميلوديته المتصلة التي لا تتعرض لتقطيعات الجاز. ومن أجمل المقطوعات العربية التي يقدمها ألف، الموسيقى الافتتاحية لمسرحية ميس الريم. التي يبدأها بالتصفيق وبنغمات متقطعة على البيانو، ثم ينطلق اللحن بثيمته الرئيسية المتكررة، وتنويعاتها المتلاحقة. بمصاحبة الغيتار والكمان والكونترباص والطبلة، والناي الذي ينفرد في منتصف اللحن تقريباً، بينما يخفت صوت البيانو ليكون في الخلفية مرافقاً، بما يبدو كأنها ارتجالات متبادلة. ثم تنتقل هذه الارتجالات لتكون بين الغيتار والبيانو، وتمتد قليلاً، لتنطلق الثيمة الرئيسية مرة أخرى في نهاية اللحن. وكذلك يعزف ألف لحن «عالروزانا الروزانا» تلك الأغنية الشامية العتيقة، التي غناها الكثير من كبار المطربين، كالمطرب السوري الراحل صباح فخري، والسيدة فيروز. وتقول هذه الأغنية في بعض مقاطعها: «يا رايحين ع حلب، حبي معاكم راح. يا محملين العنب، تحت العنب تفاح». ولأغنية عالروزانا حكاية مشهورة متداولة، عن سفينة وصلت قديماً إلى بر الشام، كانت محملة بالعنب والتفاح، بينما كان الناس ينتظرون القمح. وقد امتد تأثير هذه الأغنية الشامية إلى مصر أيضاً وإلى الغناء المصري، وظهر هذا التأثير من خلال بعض الاقتباسات وإعادة الغناء، كما في أغنية محمد منير «يا أسمر اللون» التي يقول فيها: «يا رايحين لحلب، حبي معاكم راح. يا مدوقينا لعنبكم، العنب تفاح».
القدس العربي