“القول إنك لست مهتماً بالسياسة، كالقول إنك لست مهتماً بالحياة”
جول رينارد
تكاثرت في الآونة الأخيرة الدعوات الى التغيير في هيكل الجمهورية ودستورها، وحتى أُسس وجودها. والاسباب واضحة ومنها السنة الأخيرة من العهد، والانتخابات النيابية، وموعد الانتخابات الرئاسية. وقد تنتهي الانتخابات الأولى والثانية الى تغيير في الجوهر، يُغني عن الانقلابات العسكرية التي عرفناها تحت عناوين أخرى خلال الحرب، ومنها “حكومة الجنرالات” التي شكَّلها الجنرال ميشال عون، وشغل القصر الجمهوري وصلاحياته، من دون تكليف، أو موافقة مدنية، أو تعليل دستوري أو توافق عام.
لذلك، تبدو الدعوة إلى الدولة المدنية من قِبل السلطة أمراً مثيراً للفضول، وإنْ لم يكن للاهتمام أو البحث. فالقضيتان، من الأهمية والخطورة بحيث لا يجوز طرحهما في إطار زمني متوتر ومشحون وقصير المدى. والطارحون هذه الخطورات على استعجال، لم يحددوا ماذا يقصدون بـ”الدولة المدنية”، فهل هي علمانية ايضاَ، فيما الشريك الأول في السلطة يعلن الولاء للجمهورية الاسلامية، وهل تلغي الجزء الاسلامي الصريح من الدول ودستورها؟
هذه مسألة احتفالية مطروحة منذ الاستقلال. أو بالأحرى الآن كرنفالية، فيما وجود الوطن والدولة والمجتمع والجمهورية، على المحك. هذه ليست انتخابات عادية رتيبة تثير السخرية أو الشفقة، بل هي الامتحان الأخير في النظرة الى الولاء الوطني ومعاني الجمهورية، ومدى تجمّع الناس حولها.
الانتخابات مجرد مسألة اجرائية. ولا قيمة لها في غياب جوهر الديموقراطية الأول، أي الحرية التي الى زوال. وقبل قيام الدولة المدنية لا بد من قيام الدولة اولاً. أو بالأحرى، الابقاء على اسسها المتداعية سريعاً. أي دولة مدنية يمكن ان تقوم فيما الجمهورية احزاب طائفية أو دينية، وجميعها قائم على الولاء للإثنين. ومن دونهما لا يمكن لأي حزب أو جماعة، الوجود. حتى الاحزاب التي أُسِّست على وعي غير طائفي لم تعد قادرة على الوقوف من دون الاستناد الى قوة سياسية طائفية.
لكن لا بأس من طرح فكرة الدولة المدنية بين الحين والآخر، أولاً، لأنها ترفع قليلاً من مستوى النقاش السياسي، وثانيا، لأنها تؤكد استحالة رفع مستوى السياسيين ومَن يواليهم. فالناخب نفسه هو اول المشاركين في التزوير المكرر والولاء السكران. وهو لم يخرج بعد من وظيفته الموروثة على انه هتّاف في مسيرة الانتحار العام. ولساعاتِ الأوطان علاماتُها، مثل علامات النهايات في كل شيء. ولم أكن انتظر عزوف زياد بارود لكي اعرف على اي نوع من الانتخابات نحن قادمون. لكنها علامة من العلامات. ليس اليوم. بل منذ ان فاز المرة الأخيرة بنسبة ضعيفة، ومنذ ان أبعده السياسيون من الحكومات. تأكد لنا حينذاك، ان العلّة مستفحلة ومقاييس الناس لا تتغير، وأن الدولة والوطن والقيم الجمهورية لا تعني سوى قلّة ضئيلة لا يمكنها أن تغيّر في مَن لا يتغيرون.
سوف نظل نبكي على الموتى ما دام هؤلاء هم الأحياء. بعد انتهاء مهلة الترشح لم نعرض اسماء المرشحين (وعلى كثرَتهم، نسينا أساميهن، كان يقول فيلمون وهبي)، بل الذين لم نجد اسماءهم على اللوائح. مثلاً، بشارة الخوري، رياض الصلح، رشيد كرامي، بيار الجميل، فؤاد بطرس، فيليب تقلا، غسان تويني، شارل مالك، مانويل يونس، جان عزيز، ريمون اده، صائب سلام، عبدالله اليافي.
المقارنة واجب، لا ترفاً. والتاريخ استمرارية، فإذا انقطع فمن علامات الساعة. وعلاماتها شتى، في حمّى الضنك التي نحن فيها، منذ ان انقلب كل شيء بهذه الجلافة وهذا الابتذال، وسُدّت جميع الآفاق، وتقطَّعت السبل وخالفنا قول المسيح، دعوا الموتى يدفنون موتاهم، فقد قلَّ بيننا الأحياء وأغلِق باب التعازي، وانضم العزاء نفسه الى الغائبين.
مديرنا العزيز، فرنسوا عقل، لا يكفّ عن تربيتنا كما منذ 60 عاماً. دائماً يقول، فتشوا عن شيء من التفاؤل عندما تكتبون. ودائما نفتش معه. ودائماً نوزع الاكاليل وباقات الزهر على المدافن. مَن يذكر متى وكيف ناضل كمال جنبلاط في سبيل الدولة المدنية؟ من يذكر ان العسكري فؤاد شهاب حاول بكل قواه إرساء اول جمهورية مدنية، فطاردوه حتى الموت. من يذكر مَن كان القضاء، ومن كان البنك المركزي، ومن كان المجلس التأديبي ايام فؤاد شهاب؟ ومن يذكر انه لم يعيِّن أخاً أو صهراً أو قريباً أو صديقاً أو صاحب ثروة، في منصب أو كرسي؟
كل شيء له علاماته. كل شيء. كان فؤاد شهاب الجمهورية الأولى، وما زلنا في انتظار الثانية. لكي تطلّ، يجب ان يكون هناك فؤاد شهاب آخر. ذروة الحضارة المدنية وقمة النقاء الشخصي ونصاعة العدالة الوطنية بين الناس، ومن دون ذرة طائفية واحدة.
البحث عن فؤاد شهاب اليوم تهمة بالجنون. الحقيقة ان البحث عن اي شيء، مضحك اكثر مما هو مؤلم. وعلينا الابتهاج بالصورة الديموقراطية الباقية مثل “خيال الصحراء”.
صحيح ان الشكل الديموقراطي هلهل وانكشف وكُشف هو ايضاً. لكن لا يزال على رثاثته تذكاراً حزيناً لمن لا يزال يريد ان يتذكر. أما الواقع فهو انتحال صفة. فهل من لبناني يعرف حزباً يصغي الى احد سوى زعيمه؟ هل هناك حزبيون يُسمح لهم بالمشاركة في اي شيء؟ هل في الحزب احد سوى رئيسه؟ وبالتالي هل يمكن ان تشكّل مثل هذه الاحزاب إطاراً ديموقراطياً يُعوَّل عليه في الصورة العامة؟
آخر دليل على ذلك كان عزوف الرئيس سعد الحريري الذي حلَّ حزبه ومنع افراده من الترشح هم ايضاَ. وكان في ظني دائماً ان “محسوبكم سعد” هو الأكثر طيبة وسعة صدر بين السياسيين، فإذا به ينفرد بقرار غامض غير مفهوم، منح خصومه قوة التزكية.
قد يأتي يوم ونفهم، وقد لا يأتي. لكن القرف واليأس والتقزز من المشاهد اليومية، لا تعطيه الحق في عزل الجماعة معه. اللحظات الكبرى لا تحتمل الغموض وأنصاف الغضب: إما مقاطعة وتبين قوة المقاطعين ومكانتهم في النسيج الوطني، وإما توضيح الاسباب الحقيقية التي اوجبت هذا القرار الذي بلبل اهل السنّة وحيّر حلفاءهم وزاد من ابتهاج الثأريين في جميع الانتصارات الصغرى.
أما الهواة بين المرشحين فهنيئاً لهم وطوبى لنواياهم. السيدات منهنَّ والشباب. لعلهم يُفَتِّتون صخرة الغطرسة ويحفرون ابرة في جبل التخلف الفكري واللامبالاة اللاإنسانية المتوحشة. الدولة المدنية لا تهبط على الأرض في قفّة مثل سلة تين. هذه يبنيها مجتمع مدني وأناس مدنيون ونفوس ديموقراطية عالية، تشهد لها صلابتها في التعلق بالحرية والأخلاق والوفاء. والحياة المدنية ليست لعبة شطرنج، تحرك حجارتها بعيداً من أي مبادىء أو أعراف.
الطبقة السياسية في لبنان، أو المزعومة كذلك، لا تمارس من السياسة إلا الاباحة والاستباحة. وكنا نحلم، والجميع يحلمون، بخلاص جزئي من صناعة التدمير والتخريب والقتل المتعمد للوطن، بعد الاجهازعلى الدولة والمجتمع وما بقي من روح الألفة بين حمَلة الهوية اللبنانية. لكن التواطؤ الطبيعي بين أهل النّهم لا يهزّه شيء.
المشهد واحد ومؤلم في ديار الاقوياء جميعاً. الهتّافون يصفقون لقاتليهم، ومن ثم يلطمون لموتاهم. و”العالم ليس عقلاً” قال عبدالله القصيمي. يحيط فلاديمير فلاديميروفيتش بأوكرانيا من كل صوب ويدكّ مدنها ويترك ابواب الهرب مفتوحة للاطفال والنساء. الملايين منهم. والذريعة معدَّة: حماية الخاصرة الروسية. ممن؟ من الاطلسيين. والأطلسيون نيام أيقظهم صوت بوتين يولول من خطر المعتدين والمغتربين.