الطائفة السنية في لبنان.. نجم الانتخابات النيابية المقبلة

يشكل أبناء الطائفة السنية في لبنان، القوة الناخبة الأكبر في لبنان، حيث بلغ عددهم 1.081.520 بفارق بسيط عن الطائفة الشيعية البالغ تعداد الناخبين فيها 1.073.650 بحسب لوائح الشطب الصادرة عن وزارة الداخلية اللبنانية، وذلك من أصل 3746483 ناخبا.

ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية اللبنانية، في 15 مايو المقبل، تسلط الأضواء بشكل أكبر على الخيارات الانتخابية التي سيتخذها السنة في لبنان، لاسيما بعد إعلان الممثل الأساسي للطائفة، تيار المستقبل، على لسان رئيسه سعد الحريري، تعليق عمله السياسي في لبنان وعدم خوض الانتخابات النيابية المقبلة، مبررا خياره بانعدام “أي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”.




سعد الحريري أعلن تعليق عمله السياسي في لبنان. أرشيف
سعد الحريري أعلن تعليق عمله السياسي في لبنان. أرشيف

هذا التطور شكل صدمة على الساحة اللبنانية، لحلفاء الحريري وخصومه على حد سواء، إذ أعاد قراره خلط كافة أوراق الانتخابات وتحالفاتها وتوزيع القوى على المناطق، ووصل تأثيره إلى حد تبديل الخطاب الانتخابي في البلاد، لاسيما وان أحزابا عدة تعتمد في إيصال مرشحيها على الأصوات السنية التي كان يمسك بها ويجيرها تيار المستقبل بحكم التحالفات، فضلا عن اعتياد خصوم التيار الأزرق على أساليب المواجهة معه وسقفها، وهو ما سيتبدل مع غيابه، فارضا قواعد جديدة للمعركة الانتخابية.

إلا أن الأبرز من تلك التأثيرات، كان حالة الضياع والتشرذم التي أصابت الساحة السنية، وازدادت تخبطا مع لحاق عدد كبير من الزعامات السنية بالحريري في قراره، وإعلانهم عدم خوض الانتخابات، ما زاد من ضبابية المشهد واهتزاز خيارات الناخب السني، إلى حد بات يهدد حوافز الناخبين على المشاركة في الانتخابات، وأصبح يترأس اليوم لائحة المعطيات التي قد تسهم في تأجيل موعد الانتخابات أو حتى إلغائها.

عودة إلى التعدد؟

منذ العام 2005 الذي شهد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، صعد نجم تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري، الذي استفاد من الزخم الشعبي الملتف حول قضية والده، وانكفاء الزعماء المحليين في الطائفة السنية والعائلات السياسية التقليدية أمام الانقسام السياسي الأكبر الذي شهدته البلاد بين فريقي 8 و14 آذار، وهو ما عزز حضور تيار المستقبل في تمثيل الساحة السنية، وصولا إلى حد بات فيه بعد انتخابات العام 2009 الممثل الأبرز، وشبه الوحيد، للطائفة السنية في لبنان، من شماله إلى أقصى جنوبه مرورا بالعاصمة والمدن الساحلية.

وعلى الرغم من الاهتزازات التي أصابت علاقة سعد الحريري بجمهوره، بسبب خياراته السياسية التي انتهجت التسويات مع خصومه، كحزب الله والتيار الوطني الحر، وأدت في نهاية الأمر إلى فقدانه الدعم السعودي التاريخي لتياره، بقي سعد الحريري خيارا أولا للنسبة الأكبر من الناخبين السنة في لبنان، يطرح فقدانه اليوم أسئلة مصيرية حول البديل والدور الذي يجب أن يلعبه الناخب السني، اقتراعا أو مقاطعة، لاسيما وانه يترافق مع مرحلة مصيرية من عمر لبنان تحدد فيه الانتخابات النيابية الوجه المقبل للبلاد وهويته السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسنوات الأربع المقبلة وربما ما بعدها.

بري تمنى على السنيورة والحريري أن لا يخرجوا من الحياة السياسية. أرشيف
بري تمنى على السنيورة والحريري أن لا يخرجوا من الحياة السياسية. أرشيف

هذا الواقع الجديد، أعاد التذكير بمراحل سبقت اتفاق الطائف ودخول الرئيس الراحل رفيق الحريري على المشهد السياسي اللبناني، حيث لم يكن للتيارات السياسية الكبيرة حضور على الساحة السنية، بل كان تمثيل الطائفة السنية في مجلس النواب اللبناني يعتمد على الزعامات العائلية المحلية في المدن اللبنانية الكبرى، كآل الصلح وآل سلام وآل كرامي وغيرهم، كما أن غياب احتكار التمثيل السياسي في حينها، أفسح المجال أمام شخصيات جديدة من داخل الطائفة كان لهم أدوار مصيرية في مراحل معينة من تاريخ لبنان.

ينظر البعض إلى انسحاب تيار المستقبل من المشهد السياسي والانتخابي المقبل، كفرصة لإنهاء حالة التمثيل الشامل التي سادت على مدى نحو 17 عاما، وبالتالي عدم استئثار جهة سياسية واحدة بمصير طائفة كاملة، وربطها بمصالح واعتبارات هذا الفريق دون الالتفات لمصالح المناطق والمدن وأهلها، لما لذلك من تأثير على مصالح الطائفة وامتداداتها، إضافة إلى عدم حصر التوجه السياسي السني في البلاد بشخص أو زعامة، بعد أن كان التنوع التمثيلي في الطائفة، أحد أبرز مميزاتها ونقاط قوتها في الحضور الوطني والدور التاريخي.

أصحاب هذا الرأي، يرون في واقع الساحة السنية اليوم، مقدمة للتغيير المنشود في البلاد، والذي سينسحب على باقي الطوائف اللبنانية في مرحلة لاحقة، لاسيما وأن المستفيد الوحيد من بقاء الوضع على ما كان عليه، هم أركان السلطة الحاكمة وعلى رأسهم حزب الله.

بينما يرى معارضو هذا الرأي أن غياب التيار السياسي الأكبر (المستقبل) عن التمثيل السني سيفسح في المجال أمام خصومه (حزب الله وقوى 8 آذار) للسيطرة على الساحة السنية وإلحاقها بالمحور الإيراني وقوى الممانعة الذين أوصلوا لبنان إلى وضعه الحالي.

تيار المستقبل أعلن انسحابه من المشهد السياسي والانتخابي. أرشيف
تيار المستقبل أعلن انسحابه من المشهد السياسي والانتخابي. أرشيف

وبين الرأي والرأي الآخر، يبرز توجه ثالث يدعو للتضامن مع خيار سعد الحريري، وتعليق المشاركة في الانتخابات المقبلة على اعتبار أن ما من تغيير قد ينتج عن الانتخابات في ظل سطوة حزب الله على السلطة اللبنانية وسيادة سلاحه على السيادة اللبنانية، وعليه تصبح مقاطعة الانتخابات موقفا أكثر تعبيرا وتأثيرا من المشاركة فيها، على اعتبار أن غياب مكون طائفي رئيسي عن هذه الانتخابات سيفقدها الميثاقية ويظهر حجم الاعتراض على الواقع القائم في لبنان.

وقد زاد من شعبية الرأي الثالث، إعلان عدد كبير من الزعامات السنية الوازنة، ولاسيما نادي رؤساء الحكومات السابقين، عزوفهم عن الترشح الشخصي للانتخابات، الأمر الذي زاد من أزمة الناخب السني في تحديد خياراته الانتخابية وموقفه من الانتخابات برمتها.

من أجل “دم جديد”

وكان رئيس الحكومة اللبنانية السابق، تمام سلام، أول من أعلن عزوفه عن الترشح للانتخابات، من نادي رؤساء الحكومة السابقين، وذلك “إفساحا في المجال أمام تغيير جدي، من خلال إتاحة الفرصة لدم جديد، وفكر شاب ونظيف، يطمح إلى أهداف وطنية صافية ونقية، واحتراما لمطالب الشعب الثائر والساعي إلى التغيير، والذي يستحق أن يعطى فرصة ليتابع مسيرة بناء الوطن بأفكار وأساليب وممارسات جديدة وطموحة”، وفق بيانه.

ومن بعد الحريري، كان الدور على رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، الذي أعلن عشية إقفال باب الترشيحات للانتخابات، عزوفه عن الترشح هو أيضا، مستعرضا الدوافع نفسها التي كان قد قدمها كل من الحريري وسلام، حيث أكد أن خياره جاء إيمانا منه “بحتمية التغيير وبضرورة إفساح المجال أمام الجيل الجديد ليقول كلمته ويحدد خياراته”، داعيا في الوقت ذاته اللبنانيين إلى المشاركة في الانتخابات، معتبرا أنه “واجب وطني إذ لا يجوز التلكؤ عن القيام به لأي سبب كان”.

وقد تباينت الآراء والتقديرات حول الأسباب الموجبة التي دفعت ميقاتي للعزوف عن الترشح، خاصة وأنه يعمل بالتزامن على دعم لائحة مرشحين في دائرة طرابلس لخوض الانتخابات النيابية. وتباينت التقديرات ما بين مراعاة ميقاتي لموقف الحريري وتجنب تصويره كبديل عنه، وبين حسابات شخصية تتعلق بضمان موقع رئاسة الحكومة في الفترة اللاحقة للانتخابات، فيما استذكر ميقاتي في إعلانه العزوف، تجربته مع رئاسة الحكومة عام 2005 والتي أدار فيها عملية انتخابية ناجحة دون أن يكون مرشحاً فيها، وهو ما عبر عنه تحت مبدأ “الفصل بين السلطات” والحفاظ على حياديته من موقعه كرئيس للحكومة.

نجيب ميقاتي أعلن عشية إقفال باب الترشيحات للانتخابات عزوفه عن الترشح. أرشيف
نجيب ميقاتي أعلن عشية إقفال باب الترشيحات للانتخابات عزوفه عن الترشح. أرشيف

وفي هذا السياق، يرى النائب عن كتلة “الوسط المستقل” التي يترأسها ميقاتي في المجلس النيابي الحالي، علي درويش، أن “رئاسة الحكومة تستهلك كثيرا من المجهود لاسيما في الظروف الحالية التي تفرض انكبابا على العمل لمصلحة الناس وحسن سير العملية الانتخابية، وهذا من أهم اعتبارات الرئيس ميقاتي الذي فضل إبعاد نفسه كرأس للسلطة التنفيذية عن انتخابات السلطة التشريعية”.

وفيما جرى حديث عن تجنب ميقاتي إظهار تراجع شعبيته في طرابلس، بعد الاحتجاجات الشعبية وتوقف الخدمات الاجتماعية التي يقدمها ميقاتي في الشمال، نفى درويش تلك الاعتبارات مؤكدا أن “كافة مؤسسات الرعاية الاجتماعية والمستوصفات التابعة لجمعية (العزم)، والتي كانت تقدم المساعدات لأهل طرابلس، لا تزال أبوابها مفتوحة وفاعلة ولا صحة لكل الأنباء التي تحدثت عن إقفالها”.

وقد يكون جزء من عدم ترشح ميقاتي مرتبط بمعرفته بنوعية الخطاب التحريضي المقبل على لبنان في الانتخابات، وفق درويش، “خاصة وأن الرئيس ميقاتي لن يكون جزءا من هذا الخطاب، وليس في وارد أي خطاب تعبوي”. وحول الكلام عن “مراعاة الحريري” يرى درويش في حديثه مع موقع “الحرة” أن ترشح ميقاتي أو عدمه “لا يستفز الرئيس الحريري، الذي اتخذ قرارا شخصيا وعلى صعيد تياره السياسي، ولم يلزم أحد بمجاراته فيه”.

حراك السنيورة… وانسحابه

استفزاز الحريري، وإن لم يأت عن طريق خصومه الانتخابيين والسياسيين التقليديين، فقد جاءه من داخل بيته الأزرق، حيث قاد رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة حراكا سياسيا موازيا لانكفاء الحريري، وذلك بهدف “تعبئة الفراغ” الذي سيتركه غياب تيار المستقبل، ومنعا لفوز “الوصوليين” وإفراغ الساحة أمام حزب الله وحلفائه.

وفي سبيل ذلك، خاض السنيورة مشاورات وجولات على المناطق، ولاسيما في بيروت وطرابلس، من أجل استقطاب شخصيات من تيار المستقبل ومحيطه، لتشكيل لوائح مواجهة لحزب الله تشد عصب الناخبين السنة، بالتحالف مع القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي.

إلا أن الآمال المعقودة على حراك السنيورة سرعان ما اهتزت بعدما أثار نشاطه حفيظة تيار المستقبل، الذي اتهم بممارسة ضغوط على المحسوبين عليه، من مرشحين ومؤيدين وعائلات، بهدف قطع الطريق على السنيورة ومحاولته “وراثة الزعامة الحريرية”، وهو ما انعكس عدم تجاوب كبير مع مبادرة السنيورة في بيروت والمناطق، والتزاما أكبر من قيادات تيار المستقبل بقرار الحريري عدم خوض الانتخابات.

إلا أن السنيورة خالف توقعات تحدثت عن ترشحه الشخصي في بيروت، حيث أعلن في اللحظة الأخيرة قبل إغلاق باب الترشح، نيته عدم خوض الانتخابات النيابية بشخصه. وقال في مؤتمر صحفي أن عزوفه “ليس من باب المقاطعة، بل على العكس لإفساح المجال أمام طاقات جديدة”، مشددا على خياره السياسي بالمواجهة الانتخابية عبر وصف نفسه “معنيا بالاستحقاق بشكل كامل”، معلنا نفسه “منخرطا في الانتخابات لآخر أبعادها دون ترشح”، داعيا للمشاركة الواسعة في الاقتراع “كي لا يتاح للوصوليين تعبئة الفراغ”.

بدوره النائب السابق لرئيس تيار المستقبل، مصطفى علوش، كان من بين الشخصيات الأقرب إلى توجه السنيورة بالمشاركة في الانتخابات من خيار الحريري بالتعليق، وعلى هذا الأساس تقدم باستقالته من تيار المستقبل، معلنا ترشحه للانتخابات في دائرة طرابلس، وهو ما أدى إلى تعرضه لحملة تخوين واسعة شنها أنصار تيار المستقبل ضده على مواقع التواصل الاجتماعي.

حملة لم تكن منسجمة مع موقف قيادة تيار المستقبل في تعاملها مع علوش، والتي أبلغته رسالة واضحة بأن لا علاقة لها بتلك الحملات وأنها لا تكن له إلا كل احترام وتقدير.

علوش من ناحيته، ينفي تعرضه لأي ضغوط من ناحية قيادة تيار المستقبل لثنيه عن خطوة الترشح، مضيفا أن “الموقف الرسمي للتيار، الذي أصدره سعد الحريري، كان واضحا بدعوة كل من يرغب بالترشح إلى الاستقالة من تيار المستقبل. وهذا ما فعلته”.

ويشير إلى أن اتخاذه خيار المواجهة في طرابلس يأتي “بكل بساطة، بغية عدم تسليم البلاد لحزب الله، وهذه القضية الأساس التي دفعتني للترشح”. معتبرا أن “الوفاء لسعد الحريري ولدم رفيق الحريري ومسعاه في حياته، هو التوجه بقوة أكبر إلى الانتخابات ومنع حزب الله من السيطرة على البلاد”.

وعن موقف الحريري بتعليق مشاركته في الانتخابات يسأل علوش “ماذا بعد المقاطعة، ومن سيقاطع الانتخابات؟ لو كان قرارا على صعيد الطائفة السنية بمقاطعة الانتخابات، لكان البحث مجديا، ولكن بالأساس تيار المستقبل يمثل جزء من الساحة السنية، والدليل أن حزب الله في الأصل لديه 6 نواب سنة في المجلس النيابي، وبالتالي لن يكون هناك مقاطعة للانتخابات، وإنما سيكون فقط خروج تيار المستقبل منها”.

علوش يضرب مثالا بالدائرة المرشح عنها في طرابلس، والتي يحظى فيها حزب الله بنائبين محسوبين عليه، “إذا تركنا الساحة له، بإمكانه تحقيق مكاسب أكبر ومقاعد أكثر، ولكن سيبقى هذا التمثيل سنيا، وبالتالي المقاطعة لا قيمة لها، وعلى المستوى الدولي لا أحد مهتم بذلك وإنما الاهتمام بإجراء الانتخابات النيابية وما ستفرزه من نتائج”.

وعما إذا كان خيار الرئيس السنيورة بالعزوف عن الترشح قد أضعف جبهة المواجهة التي سعى لإقامتها، يرى علوش أن “العكس تماما، لأن الرئيس السنيورة لم يكن يسعى للترشح بقدر ما يسعى لإدارة المعركة الانتخابية ودفع الناس لعدم الاعتكاف في بيوتها عن التصويت، وبالتالي عدم ترشحه تأكيد على أنه لا يسعى لشخصه”.

المقاطعة المحرمة

ومع عزوف هذا الكم من القادة السياسيين السنة، تطرح علامات استفهام حول انعكاس هذه الخطوة على مستوى المشاركة السنية في العملية الانتخابية، وانعدام حوافز التصويت، إضافة إلى الرسالة المراد إيصالها من ذلك، وشكل التمثيل السني القادم، إذا ما كان سيأخذ منحا تغييريا أو أنه سيكون ملحقا بقوى السلطة السياسية الأخرى على غرار التجارب الماضية.

ولا بد من الإشارة إلى أن عددا كبيرا من نواب المستقبل توالوا في الأيام الماضية على إعلان التزامهم قرار الرئيس الحريري بعدم الترشح، وهو ما أوحى بقرار مقاطعة غير معلن رسميا، قد يلقى مزيدا من الآذان الصاغية لدى الجمهور المرتبط وجدانيا مع الحريري، رغم نفي تيار المستقبل سعيه لذلك.

هناك خشية من "الفراغ" نتيجة مقاطعة تيار المستقبل مما يخلق عدم حماسة لدى الجمهور للتصويت
هناك خشية من “الفراغ” نتيجة مقاطعة تيار المستقبل مما يخلق عدم حماسة لدى الجمهور للتصويت

هذا الواقع دفع بدار الفتوى للتدخل المباشر على خط حث الجمهور على المشاركة في الانتخابات ورفض أي دعوة صادرة للمقاطعة، وقد عبر مفتي الجمهورية اللبنانية، عبد اللطيف دريان، عن ذلك خلال رسالته الموجهة للبنانيين بمناسبة ذكرى “الإسراء والمعراج” والتي دعا فيها الجميع إلى “التصويت الكثيف والنزول إلى صناديق الاقتراع” لما في ذلك من “رسالة أمل ورجاء وإيمان بمستقبل الوطن والدولة” الأمر الذي وصف وكأنه “أمر شرعي” بعدم المقاطعة.

وكررت دار الإفتاء موقفها هذا في أكثر من مناسبة ماضية، من بينها لقاء جمع المفتي دريان والرئيسين ميقاتي والسنيورة في الجامع العمري الكبير، غداة مغادرة الحريري للبلاد في فبراير الماضي، تم خلاله الإعلان صراحة أن “لا مقاطعة للانتخابات، بل حرص للحفاظ على دور وموقع الطائفة السنية في المعادلة الوطنية”.

وكان لبنان قد اختبر تجارب مماثلة مع مقاطعة طائفية للانتخابات النيابية عام 1992، حين قررت الأحزاب المسيحية في لبنان مقاطعة الانتخابات النيابية بعد إخراج ميشال عون (رئيس الجمهورية الحالي) من البلاد إلى فرنسا، وسجن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وارتدت المقاطعة في حينها سلبيا على الأحزاب المسيحية، حيث خسرت تمثيلها لنحو 15 عاما، اقتصر فيها التمثيل المسيحي على تأمين الميثاقية للسلطة الحاكمة تحت وصاية النظام السوري في حينها.

ويخشى متابعون أن تتكرر التجربة نفسها مع الطائفة السنية في حال مقاطعتها للانتخابات، ويرون أن “هناك فراغ سيخلق نتيجة مقاطعة تيار المستقبل وعزوف الزعامات السنية عن الترشح”، وأن ذلك “سيخلق عدم حماسة لدى الجمهور للتصويت بالانتخابات”، وأنه يجب “تشجيع الناس على المشاركة، لأن تجربة العام 1992 كانت واضحة المعالم والتبعات ولا يجب تكرارها في هذا الوقت، لاسيما وأن مشاركة الناس هي من سيصنع التغيير عبر خياراتهم”.

المستقبل يراهن على “وعي الناس”

ويُحمَّل تيار المستقبل، من قبل خصومه، مسؤولية الدعوة لمقاطعة الانتخابات على صعيد الطائفة السنية، لاسيما وأن جمهوره كان قد شن سلسلة حملات تخوين وهجوم على كل من بادر للاستقالة من التيار من أجل الترشح للانتخابات، بالإضافة إلى رصد نشاطات لبعض المسؤولين فيه وفي بعض المناطق، تصب في خانة حث الناس على المقاطعة، وذلك في سبيل التأكيد على أن الحريري هو الوحيد القادر على الإمساك بالساحة السنية التي ستكون مشرذمة من دونه بلا خيار أو قرار.

وفي هذا السياق صدرت اتهامات إعلامية عدة، تتحدث تارة عن رسالة عتب من الحريري على المفتي دريان واتهامه بالانحياز لصالح الرئيس السنيورة وخطواته التي يتخذها، وتارة أخرى تتحدث عن اتصال بين الحريري والسنيورة للتعبير عن انزعاج الأول من محاولة تعبئة الفراغ على الساحة السنية. وهو ما نفاه تيار المستقبل ببيانات صادرة عنه.

ومع عزوف عدد من نواب تيار المستقبل عن الترشح للانتخابات في اللحظات الأخيرة قبل إغلاق باب الترشح، سرت أنباء تتحدث عن ضغوط مارسها تيار المستقبل على هذه الشخصيات، لاسيما أن بعضها كان قد عبر عن نيته بالترشح سابقا رغم قرار الحريري.

هذه الاتهامات ينفيها منسق الإعلام في تيار “المستقبل” عبد السلام موسى، الذي يؤكد أن التيار لم يدع بأي شكل من الأشكال إلى مقاطعة الانتخابات، “نحن قلنا فقط أننا في تيار المستقبل لن نخوض الانتخابات، وغير معنيين بها، وهنا نقصد التيار بما يمثل. وقلنا إن الساحة السنية لديها وعي وطني ما يكفي ويزيد لتدرك كيف تتصرف مع هذه الانتخابات سواء اقتراعا أو مقاطعة أو التصويت بورقة بيضاء، وبالتالي نرفض وضع اليد على توجهات الناس وخياراتها”، لافتا إلى أن “المستقبل” أعلن في 3 بيانات، استقالة أشخاص من التيار من أجل الترشح في الانتخابات، “وبالتالي كيف نكون نمارس ضغوطا لمنع الناس من الترشح؟”.

كلام موسى يحمل نبرة مختلفة عما صدر عن مستشار الرئيس الحريري لشؤون منطقة البقاع، علي الحاج، الذي وجه نداء لجمهور المستقبل عبر الإعلام مع انتهاء المدة القانونية لتقديم الترشيحات في وزارة الداخلية، قال فيه: “بعد العزوف الذي أعلن عنه العدد الأكبر من قياديي المستقبل على امتداد الوطن وأيضا في بقاعنا العزيز فإنني أناشد أهلي من جديد والذين هم أهل الوفاء والثقة والشرف والشهامة والتضحية أن نلتزم بتوجيهات الرئيس سعد الحريري، وأن يكون التعليق هو هدفنا”، واصفا الخطوة بأنها واحدة من “أوجه التعبير الحضاري السياسي السليم” معتبرا كل ما عدا ذلك “اجتهادات جانبية وفذلكات سياسية”.

وحول هذا الكلام يرد موسى في حديثه لموقع “الحرة” أن “كلام الحاج أو غيره ممن قد يصدرون بيانات شخصية دون العودة إلى قيادة التيار، لا تعنينا”، معتبرا أن “تصريح الحاج لم يكن موفقا ونقلت إليه هذا الكلام، خاصة في هذا التوقيت”، داعيا إلى العودة إلى بيانات تيار المستقبل المتعلقة بالانتخابات والتي طلب فيها المستقبل من كل الراغبين بالترشح من داخل صفوفه تقديم استقالتهم من التيار، وعدم التحدث باسمه واستخدام شعاراته في الحملات الانتخابية”.

ويضيف المنسق الإعلامي لتيار المستقبل “لو كنا نريد المقاطعة لكان الرئيس الحريري أعلن عن ذلك بوضوح، نحن على صعيد خاص لا نرى فرصة للتغيير من خلال هذه الانتخابات، إن كان هناك نائبا أو 128، هناك وضع شاذ في البلد، يتعلق بالهيمنة الإيرانية وسلاح حزب الله وما ينتج عنه من تعطيل شهدناه طيلة الفترة الماضية، وعلى مدى 15 عاما حاول الرئيس الحريري بكل السبل التعامل مع هذه الحالة، من التسوية إلى المواجهة”.

“ومن قال أننا نمثل 100% من السنة؟” يسأل موسى مذكرا بالكلام الصادر عن الخصوم والحلفاء والقائل إن “تيار المستقبل انتهى”، ويضيف “لماذا بات الجميع يتباكى علينا والكل يريد أن ينسق معنا ومع جمهورنا بعد إعلاننا تعليق المشاركة، وبات الجميع مربك بحساباته الانتخابية، الآن بات موقفنا يعني أن السنة لن يشاركوا في الانتخابات؟”.

ويلفت موسى إلى أن “هناك جمهور سينتخب وهناك جمهور منسجم مع دعوتنا ولا يرى مرشحين يمثلونه من خارج تيار المستقبل، وبالتالي حكما ستتدنى نسبة المشاركة بعد قرارنا لأننا في النهاية زعامة وحزب طويل عريض له امتداده، وفي النهاية الناس ليس بحاجة لمن يدلها لمن تصوت ولمن تقاطع، لديها الوعي السياسي الكافي وبطبيعة الحال تيار المستقبل لن يدعو الناس إلى التصويت لخصومه”.

من خارج السرب

من جهة مقابلة، يشدد النائب فؤاد مخزومي، المرشح للانتخابات المقبلة أيضا عن دائرة بيروت الثانية، أن “قرار سعد الحريري بالاعتكاف والابتعاد عن العمل السياسي لحسابات واعتبارات خاصة، لا يعطيه الحق أن يأخذ معه طائفة كاملة ويدفعها نحو مقاطعة الانتخابات”، لافتا إلى أن الطائفة السنية “ليست مأزومة اليوم بخياراتها السياسية كما يروج إعلام المنظومة الحاكمة” وإنما كل لبنان بجميع طوائفه مأزوما بمنظومة فساد تحكمه ومنظومة سلاح تحميها.

ويعتبر مخزومي في حديثه لموقع “الحرة” أن “زعماء السنة هم من ساروا بالتفاهمات مع حزب الله، مقابل أرباح وحسابات ومصالح شخصية على حساب مصلحة السنة والبلاد”، ويتابع “تيار المستقبل لم يكن يوما خصما لحزب الله، والدليل بالاتفاق الرباعي الذي ضرب الأكثرية والأقلية التي أفرزها انقسام 14 و8 آذار، من ثم استحقاق المحكمة الدولية التي رفضوا فيها اتهام جهة وانتهت باتهام أشخاص كسليم عياش بمعزل عن حزب الله، ثم اتفاق الدوحة الذي أتى بعد احتلال الحزب لبيروت بقيادة فؤاد السنيورة وحلفاؤه، وهناك تم تكريس مفهوم (الجيش والشعب والمقاومة) الذي تحول إلى بند أساسي في كل بيان وزاري لكافة الحكومات المتعاقبة ما شكل اعترافا رسميا بحزب الله فوق سلطة الدولة، وصولا إلى سيطرة الحزب على مجلس الوزراء والنواب ورئاسة الجمهورية”.

ويسأل مخزومي “في دائرة بيروت الثانية التي تمثل أم المعارك، وفي ظل تشكيل الثنائي الشيعي للائحة منافسة رغم أن حضورهم فيها لا يتجاوز الـ 18٪ من القوى الناخبة، لماذا يأتي السنيورة ليشكل لائحة هو الآخر، ستأخذ من حظوظ باقي اللوائح ولن تمس بحصة لائحة حزب الله؟ من هنا نفهم لماذا كان الرئيس بري يتمنى على السنيورة والحريري أن لا يخرجوا من الحياة السياسية، لأنهم منظومة واحدة تحمي أركانها”.

كلام مخزومي ليس الاتهام الوحيد لتيار المستقبل بتحقيق إرادة وأهداف حزب الله، بما في ذلك خطوة تعليق العمل السياسي، التي رأى فيها كثيرون تحقيقا لمصلحة حزب الله في السيطرة التامة على البلاد والأكثرية النيابية فيه، من أجل إثبات صحة خيارات الحريري وأنه الجهة الوحيدة القادرة على مجابهة حزب الله على الساحة السنية.

هذا الكلام يرد عليه موسى بالتذكير أن “حزب الله لديه بالأساس ما يسمى باللقاء التشاوري السني، ولديه 6 نواب، هذه أقصى طاقة لحزب الله على الساحة السنية، وحجمه معروف دائرة دائرة، من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي، حتى لو لم نترشح، فإن أهل عكار وطرابلس لن يقبلوا بمرشح سني محسوب على حزب الله”.

ويضيف “ثم حتى ولو حصل حزب الله على 128 نائبا، ماذا سيفعل أكثر مما هو الوضع حاليا؟ أليست رئاسة الجمهورية بيد حزب الله؟ أليس متحكما اليوم بحكومة بأمها وأبيها؟ ألا يملك أكثرية في مجلس النواب؟ وبالتالي ما الذي سيتغير؟ أصحاب هذه الاتهامات بأننا نسلم البلاد لحزب الله، هم أنفسهم من كانوا مسؤولين عن الحال التي وصلنا إليها اليوم، لاسيما من خاض تسويات رئاسية على حساب قانون الانتخاب وموقع رئاسة الجمهورية، ووضع البلاد بين يدي حزب الله وحلفائه فيما ارتضينا كل ذلك على مضض”.

وتابع مخزومي “أكبر خطأ حصل في لبنان هو حين ألغينا مرجعياتنا وأعطيناها لشخص واحد، وحزب الله استثمر في ذلك وساهم به. تيار المستقبل بدوره لا يعترف بأي شخص موجود على الساحة السنية، حاولنا توحيد بيروت وأن يكون المدخل دار الفتوى، ولكن لسوء الحظ، تيار المستقبل لم يكن مستعدا للاعتراف بوجود غيره على الساحة السنية، وتعامل بعنجهية لا تصب إلا في مصلحة حزب الله الذي يريد ضرب التعددية في التمثيل لتبقى الميثاقية محصورة بينه وبين تيار المستقبل”.

مخزومي يقلل من فعالية الدعوات لمقاطعة الانتخابات، معتبرا أن “جزء كبير من جمهور تيار المستقبل قد يقاطع الانتخابات، ولكن قسما آخر ولاسيما المحسوبين على العائلات البيروتية سيصوتون لمرجعية تحمي مصالحهم، لذلك لن يقاطعوا لكونهم يسعون لتحقيق مصلحتهم ومصلحة أولادهم. ولا ننسى أن 60% من أهالي بيروت لم يشاركوا في انتخابات العام 2018، حيث كانوا يعتبرون أن لا تغيير قد يطرأ في تلك الانتخابات، ولم يكن أحد مزعوج من تلك الطبقة السياسية إلى هذا الحد وبالتالي لم يكن هناك اهتمام حقيقي بالتغيير أو الانتخاب، ولكن بعد كل ما جرى بعد تلك الانتخابات الرهان سيكون على الشريحة التي لم تقترع حينها، حيث بإمكانهم اليوم النزول للاقتراع وبإمكانهم قلب الطاولة لمصلحة القوى التغييرية التي تقوم على برنامج واضح”.

الوريث الأكبر

وكانت الأنظار قد اتجهت إلى بهاء الحريري بعد عزوف شقيقه سعد وتياره السياسي، على اعتبار أن النجل الأكبر لرفيق الحريري قد يكون الجهة الأنسب لحمل إرث الحريرية السياسية وتمثيلها الشعبي. إلا أن بهاء بدوره، ومنذ أن أطلق حراكه السياسي في لبنان كان واضحا بعدم وجود نية لدخوله مباشرة على خط الترشح أو الترشيح للانتخابات، مكتفيا بإطلاق حركة سياسية “تغييرية وطنية” تحت شعار “سوا للبنان” وهدفها دعم لوائح ومرشحين للقوى التغييرية على نطاق لبنان ككل معلنا مواجهة مع المنظومة السياسية من جهة، وسلاح حزب الله من جهة أخرى.

لا يعتقد المتحدث الرسمي باسم “سوا لبنان” هادي مراد، أن الطائفة السنية في لبنان بغالبيتها اليوم تبحث عن زعيم، وإنما وضعها كباقي الطوائف اللبنانية الممثلة بثنائيات وثلاثيات “مهمشة مدمرة تبحث عن أبسط الحقوق”. معتبرا أن كل ما يشاع عن أزمة وفراغ في الطائفة السنية “هي محاولات ذر للرماد في العيون وبالعكس هي لتيئيس الناس من اتخاذ خياراتها”.

ليس بالضرورة أن يؤثر غياب الزعامات السنية التقليدية سلبا على مشاركة الناخبين، وفق مراد، الذي يرى أن المواطن الذي يتجه للتصويت أيا تكن طائفته، “إن شعر بإمكانية التغيير في الانتخابات سيتجه للتصويت، وإن لم يكن مؤمنا بالانتخابات كسبيل للتغيير أيا يكن المرشح لن يشارك”، موضحا أن تلك ليست حال الناخب السني فقط، “بل هي قضية مواطنين إما يؤمنون بالانتخابات سبيلا للتغيير أو لا من الأساس، وعلى العكس أعتقد أن الناخب السني تحديدا اليوم مشجع أكثر على الذهاب إلى صناديق الاقتراع لأن تعطشهم أكبر لإظهار نواب وقدرات بناءة وشبابية أفضل من ألف زعيم موجود سابقا على الساحة”.

الأنظار اتجهت إلى بهاء الحريري بعد عزوف شقيقه سعد وتياره السياسي
الأنظار اتجهت إلى بهاء الحريري بعد عزوف شقيقه سعد وتياره السياسي

وعن خيار تيار المستقبل بتعليق العمل السياسي وعدم خوض الانتخابات يشدد مراد على أن “سوا للبنان” تؤمن “أن الانتخابات النيابية هي مدخل دستوري وديمقراطي لأجل إعلاء الصوت وإثبات المواجهة حتى النهاية، وأن المعركة الانتخابية ليست معركة وجود شخص أو فوز فرد، ونحن مؤمنين بمشروع مواجه لكل من يتعرض للسيادة اللبنانية، نحن مع حياد لبنان واعتداله مع الفكر والنهج العربي”.

وبينما يلتقي بهاء الحريري مع شقيقه سعد على الموقف الرافض لوجود سلاح حزب الله، لا يرى مراد أن هدف مواجهة حزب الله هو نفسه لدى تيار المستقبل، مضيفا “لا بل نفتخر أن الخلاف شاسع بعد المشرق عن المغرب في موضوع مواجهة حزب الله وسلاحه، لأن من أدخل البلد في الحلف الرباعي الذي نعتبره كفرا سياسيا حقيقيا بوجه اللبنانيين والشعب اللبناني، والذي ضرب الوطن بخاصرته ومن بعد كل التسويات التي حصلت وإيصال عون إلى سدة الرئاسة، على حساب مصلحة البلد، كل ذلك يناقضنا بالمباشر، ولا نستطيع أن نلتقي مع من كان مسؤولا عن كل هذه الأمور التي أفقدتنا الاحتضان العربي”.

وعن سبب عدم ترشح بهاء الحريري للانتخابات، يلفت مراد إلى أنه “ليس لـ “سوا للبنان” أو بهاء الحريري أي مطلب مباشر أو شخصي من الشارع اللبناني أو الانتخابات، لا نيابة ولا وزارة ولا رئاسة، وإنما توجهنا فقط لدعم المرشحين التغييريين ونقف وراءهم، لا أمامهم ولا إلى جانبهم، لنكون سندا يساعدهم بكل ما يلزم من إعلام انتخابي أو ماكينة انتخابية ومشاريع، ومشروعنا لا يقف على شخص واحد فالأشخاص يرحلون والمشاريع هي التي تبقى، وبهاء الحريري من غير الوارد أن يترشح لا اليوم ولا بعد 100 عام”.

“الجماعة”: لملء الفراغ

من جهتها تبدو الجماعة الإسلامية من أبرز المتحمسين لخوض الانتخابات النيابية، هي التي حسمت خيارها مبكرا قبل كل التطورات الطارئة، بالترشح في مختلف المناطق اللبنانية ذات الثقل الشعبي للطائفة السنية، لعلها تعوض غيابها التام عن التمثيل بعد انتخابات العام 2018.

يرى المسؤول السياسي للجماعة الإسلامية، إيهاب نافع، أن قرار تيار المستقبل قد “ترك فراغا بلا شك وأوجد إشكالية أساسية على الساحة السنية، لكن بعدما شهدناه خلال ثورة تشرين (أكتوبر) أن هناك نقمة شعبية كبيرة على مختلف الأحزاب السياسية ومن ضمنهم تيار المستقبل، لذلك أظن أن نسبة كبيرة من الناس ستشارك في العملية الانتخابية انتقاما من الطبقة السياسية، ولن يغير في ذلك انسحاب تيار المستقبل على الساحة السنية”.

التفات الجماعة الإسلامية للنقمة الشعبية على التيارات السياسة لم يمنعها من إعلان استعدادها لإبرام تحالفات على امتداد المناطق مع أحزاب السلطة السياسية، وهو ما عبر عنه أمين عام الجماعة، عزام الأيوبي، عن انفتاح على التحالف مع تيار المستقبل قبل انسحابه، أو حزب الله إذا سمحت الظروف الانتخابية والتحالفات بذلك، وهو ما يراه نافع كضرورة انتخابية في ظل القانون الانتخابي الحالي، والذي يفرض عقد تحالفات من أجل تشكيل لوائح والاستمرار في السباق الانتخابي ويمنع الترشح بشكل منفرد، وبالتالي “نحن مضطرون والناس تقدر ذلك”.

وعن سبب عدم توجه الجماعة للتحالف مع القوى التغييرية يقول نافع “اتجهنا إلى هذا الخيار بشكل مكثف وحاورنا الكثيرين ولا زلنا على تواصل مع بعض هذه المجموعات، ولكن اصطدمنا بخلافات مبدئية وجوهرية مع مجموعات المجتمع المدني لاسيما في بيروت على مطالب وشعارات لا تشبهنا ولا يمكننا الالتقاء معها، كالمناداة بالمثلية الجنسية أو الزواج المدني، وبالتالي لا يمكننا التلاقي معهم على لائحة واحدة”.

لا ينكر نافع في حديثه لموقع “الحرة” أن غياب رموز وشخصيات سنية وازنة عن المشهد الانتخابي سيترك أثرا سلبيا على المشاركة، “ولكن لكي لا نضخم الأمور، رؤساء الحكومات هم فريقين في النهاية، السنيورة وسلام والحريري يمثلون تيار المستقبل، فيما الرئيس ميقاتي انسحب بشخصه ولا يزال يخوض الانتخابات عبر دعم لائحة له لاعتبارات تتعلق بترؤسه للحكومة والحرص على الحيادية، وبالتالي المجموعة ليست كبيرة، ونحن نؤمن أن الانسحاب من الانتخابات سيؤثر على الساحة السنية فيما المشاركة هي التي تصنع تغييرا وتمثيلا”.

ولا يخفي نافع كذلك، سعي الجماعة الإسلامية لملء الفراغ الناتج عن غياب تيار المستقبل “وهذا حقنا إذ لا يمكننا أن نترك فراغا في الساحة السنية، ونرى أن الشارع كان يريدنا في أكثر من مرحلة إلا أنه وجد في المستقبل تلبية لتطلعاته، واليوم من الطبيعي أن نكون خيارا آخر للناس بقدر ما نستطيع، لنسترد مكانة الطائفة التي فقدتها بسبب مسار من التنازلات”.

سعد.. “غير معني”

أما لناحية النائب الحالي عن مدينة صيدا، ورئيس التنظيم الشعبي الناصري، أسامة سعد، فقد أثار جدلا خلال الفترة الماضية بابتعاده الواضح عن حليفه التقليدي في الانتخابات النيابية حزب الله، الذي سبق أن خاض إلى جانبه دورتين انتخابيتين. نقل عنه كلام ينتقد تحالفات حزب الله مع من وصفهم بـ “الفاسدين” ويعلن عدم استعداده للتحالف معهم بسبب ذلك.

أسامة سعد أثار جدلا بابتعاده الواضح عن حليفه التقليدي في الانتخابات النيابية حزب الله
أسامة سعد أثار جدلا بابتعاده الواضح عن حليفه التقليدي في الانتخابات النيابية حزب الله

وعلى ما يبدو فإن سعد متجه للعودة إلى الثنائية التقليدية التي سبق أن جمعته برئيس بلدية صيدا السابق، عبد الرحمن البزري، الذي يحظى بحيثية سياسية عائلية في مدينة صيدا.

ولدى تواصل موقع “الحرة” مع النائب سعد، أوضح الأخير أنه “غير معني بالحديث عن الساحة السنية وتمثيل الطائفة”، واصفا نفسه بالمرشح “الوطني”، مشيرا إلى أن “قانون الانتخاب هو ما يفرض علي الترشح عن المقعد السني، ولكني لست في هذا الموقع”.

المقاطعة قد تؤجل الانتخابات؟

في تصريح صحفي له، قال رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، إن “الحالة الوحيدة التي يخشى فيها أن تتأجل الانتخابات بسببها هي المقاطعة السنية للانتخابات”، وهو ليس الكلام الأول في هذا الإطار الذي يرى أن تأثيرات المقاطعة السنية للانتخابات النيابية قد تطيح بكل العملية قبل انطلاقها لتفادي ما قد ينتج عنها من واقع غير ميثاقي يهدد مصير البلاد.

وفي هذا السياق يرى الكاتب السياسي، خلدون الشريف، أن “الانكفاء السني في الترشيح واضح، وهو ما سينعكس انكفاء سنيا في التصويت بكل تأكيد”، لافتا إلى غياب تام للحماسة الانتخابية لدى الناس في طرابلس أو في بيروت، “وهذا مؤشر يمكن الاستدلال عبره”.

ويضيف الشريف في حديثه لموقع “الحرة” أن الانتخابات إن جرت في موعدها “سيدخل لبنان في مأزق كبير، حيث لن يستطيع تشكيل حكومة أو تسمية رئيسها وسيصل إلى عجز عن انتخاب رئيس جمهورية في مرحلة لاحقة”.

تأثيرات المقاطعة السنية للانتخابات النيابية قد تطيح بكل العملية قبل انطلاقها
تأثيرات المقاطعة السنية للانتخابات النيابية قد تطيح بكل العملية قبل انطلاقها

ويرى الشريف أن هناك عوامل عدة تتحكم بتأجيل الانتخابات أولها الانكفاء السني ترشيحا واقتراعا. أما الثاني فيتمثل بعدم رغبة الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) بالحصول على الأغلبية المطلقة، لا هم ولا حلفائهم، “إذ أنه ليس لديهم مصلحة في ذلك خاصة في ظل الانكفاء السني، الذي سيعطيهم نحو 14 نائبا سنيا من أصل 27 مقعدا، ما يعني أنهم سيحددون هوية رئيس الحكومة المقبل، وستنعكس هذه الأكثرية على تقرير هوية رئيس الجمهورية المقبل أيضا، يعني عمليا سيصبح حزب الله في الواجهة بشكل أكبر، وهو لا يريد هذا الواقع”.

أما العامل الثالث فيتمثل بحسب الشريف بالتردد المسيحي بسبب الأوضاع الإقليمية والأوضاع الداخلية لكل فريق مع جمهوره وشعبيته. فيما الرابع يتجسد باستشعار، وليد جنبلاط، للخطر في بيروت والجبل، “حيث سيفقد مقاعد من حصته، وهذا ما سيدفع كافة الفرقاء للوقوف خلف ذريعة الغياب السني لتأجيل الانتخابات”.

وعلى الصعيد الدولي يشرح الشريف أن الجهات المعنية بالانتخابات اللبنانية هم الولايات المتحدة والفرنسيين، الإيرانيين والسعوديين، ويضيف “السعودية اليوم منكفئة عن المعركة الانتخابية، أما إيران فهي تمثل رأي الثنائي الشيعي الذي لا يرغب بالأكثرية في المجلس، بينما فرنسا ستراعي مصلحة السعودية وإيران من أجل التشبيك معهما في المرحلة المقبلة بالشأن اللبناني، وبالتالي لا يبقى إلا الولايات المتحدة التي تهتم بالانتخابات وإجرائها من منطلق مبدئي وشكلي، وليس اهتماما عضويا، لأنها تدرك أن الانتخابات لن تحمل أي تغيير كبير على الساحة اللبنانية وعلى مستوى القيادات السياسية في هذه الظروف. لذلك إمكانية التأجيل كبيرة وموجودة”.

ويختم الشريف باعتقاده أن “ليس من مصلحة لبنان ككل اليوم الذهاب نحو انتخابات، فحتى لو وصل 100 نائب معارض لحزب الله، لا يمكن لأحد أن يحكم بدونه ولا يمكن تأليف حكومة بدونه، وفي الفترة الماضية أوقف اجتماع الحكومة لـ 3 أشهر، وبالتالي لا قيمة للأكثرية النيابية أو الأقلية أو ما سينتج عن الانتخابات المقبلة في تغيير الوضع القائم حاليا”.