سمير عطا الله

التسلّم والتسليم – سمير عطالله – النهار

“أن تقود هو أن تخدم، لا أكثر ولا أقلّ”
-أندريه مالرو

أخرج والتر ليبمان الصحافة الأميركية من السرعة والإثارة الى الفكر. وصار كبار الصحافيين يقلِّدونه، في نجاح أو فشل، في “العمود الفكري” بدل التعليق السياسي العاجل. وحتى وفاته (1974) لم يكن رؤساء أميركا يكتفون بقراءته، بل كانوا يصغون إليه، وبعضهم كان يفاخر بأنه يمنحه صوتاً في البيت الأبيض. واختلف ليبمان أيضاً مع عدد من الرؤساء، وخصوصاً مع ليندون جونسون، الذي كان يتّهمه بتوسيع حرب فيتنام، وبالجهل التام في التاريخ، وانعدام الثقافة. وكان يقول إنه نقل الجيش الأميركي عشرة آلاف ميل الى بلاد لا يعرفها، لكي يقاتل من أجل قضيّة وبلاد يجهلها تماماً. ولذلك، ورَّط الأميركيين في حرب لا نهاية لها، بعكس “الحكمة” المعروفة في مثل هذا النوع من القتال. فالبريطانيون كانوا يدفعون الى المعارك فرق “الغوركا”، والمرتزقة، والأجانب، وكذلك الفرنسيون.




لكن هذا الرجل الذي ختم أسوأ عهد في تاريخ بلاده، كانت له، بحسب ليبمان، حسنة واحدة: لقد عرف كيف ينسحب ويذهب الى مزرعته وحيداً، لا يقابل أيّ إنسان. كيف اتخذ رجل في مثل هذه الفجاجة السياسية والابتذال مثل هذا القرار العاقل؟

أصغى، سرّاً، الى إحصاءات شركة “غالوب”، وقرأ في إمعان التقارير التي تُرفع إليه عن تدهور شعبيته. يقول ليبمان إنه، مثل كثيرين، يطرح الأسئلة على سائقي التاكسي ليعرف المناخ الشعبي، وإن زوجته تنقل إليه ما يقوله حلّاقها عن الأوضاع.

ديغول ذهب الى الاستفتاء المباشر في نيسان 1969، فلمّا رأى أنه لا يتمتع بأكثرية كبرى عند الفرنسيين، كتب استقالة من سطر واحد وغادر إلى كولومبي. أقام مجد فرنسا الحرّة، وترك للرؤساء حول العالم أن يحلموا بشيء من قامته.

يوماً واحداً لم يبق في الإليزيه. اليوم أعلنت نتائج الاستفتاء وغداً مشى، بقامة لم تنحن يوماً واحداً. في تلك الفترة، في بلد صحراوي صغير، ذهب سفيرالسعودية جميل الحجيلان يقدّم أوراق اعتماده إلى أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم. وخلال اللقاء سأله “كيف وقع اختياركم على النظام البرلماني”؟ فكان جواب الأمير “هذا ليس خيارنا. إنه خيار الشعب الكويتي”.

يحاول رجل الدولة أن يصغي الى الناس لأنهم أولاً وأخيراً، مالكو الدولة وأهل الوطن. واسوأ ما يحدث للشعوب والأوطان والدول، أن تعبث بها الخفة أو العند.

تتردّد في #العالم العربي الآن أقوال عن الندم على أيام صدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي. ويقول الناس إنه في ظلهم كانت الضروريات مؤمنة كلها، كالأمن والوظائف والطبابة. وكان الموظف مطمئناً الى أنه باقٍ في عمله حتى يوم التقاعد. وحتى في رومانيا التي عرفت أسوأ أنواع الديكتاتوريين، يحنّ كثيرون الى حكم نيقولاي تشاوشيسكو ويتندّمون عليه.

وهذه ظاهرة طبيعية في الناس، لأن الأمن هاجسهم الأول والأهم. وكلما ابتعدت الذاكرة وساءت أمور الحاضر، نسي الإنسان ما كان فيه ذات يوم. ولم يعد يتذكّر أن صدام حسين قاده الى حروب كبَّدت عشرات المليارات، وأدَّت الى مقتل وإصابة وتشرد ملايين البشر.

ليبيا اليوم غير قادرة على الاتفاق على رئيس حكومة، بعدما ظلت 42 عاماً تحت “استقرار” حكم رجل واحد هو العقيد، وهو الزعيم، وهوالقائد، وهو الأمين العام للقومية العربية، وهو ملك ملوك أفريقيا، وهو باني النهر العظيم، وهو صاحب الكتاب الأخضر والنظرية الثالثة، والمرأة أنثى والرجل ذكر، وحرب تشاد وبوركينا فاسو ولبنان ومصر والوحدة في سوريا والمغرب والسودان، ورئيس تحرير جريدة “الفجر”، وصقر أفريقيا وقاهر العقوبات، والقائد الأعلى للجماهيرية الاشتراكية الليبية العظمى.

أمّا الأمن فكان أمن اللجان الشعبية، وكل رجل مخبر، والدولة بلا موازنة، والنفط للجماهير. أيّ خيار هو ذلك الخيار بين قوّة صاحب الصولجان الذهبي وبين ضعف الجماعة السياسية في ليبيا اليوم؟ أليس هناك من حلّ وسط طبيعي عادي مثل سائر الأمم؟ صحيح أن زين العابدين بن علي كان محاطاً بطبقة فاسدة، قليلة العدد نسبياً على الميزان العربي، لكنه أعطى تونس فترة طويلة من الأمن، وما إن غادر الحكم والبلاد، حتى تحوّلت المسابح الى برك دماء. وحتى الآن لم تعرف تونس الاستقرار الذي كانت فيه. منذ الاستقلال حتى خروج بن علي في غرّة الربيع العربي المشهور.

لا يشعر السويدي والسويسري والكندي والبريطاني بالحنين الى الماضي، لأنهم على موعد مع الحاضر والمستقبل. الحرب الأهلية الإيرلندية التي موّلها القذافي تقوم مكانها الآن لُحمة لم تعرفها في تاريخها. الصين على وشك أن تحتلّ المرتبة الأولى في العالم، بتعاليم “السوق” لا بتعاليم ماو. و”الكتاب الأحمر” مثل “الكتاب الأخضر” نفد. ولا يجد ناشراً يعيد طبعه.

نسي القذافي وصدام وبن علي أن يبنوا دولة تستمرّ بعدهم. بنوا قصوراً يرثها الوريث. وصارت أغنى دول العرب أفقرها، عندما صارت الدولة هي الرجل الواحد والحزب الواحد والملهم الوحيد. صنع ديغول لفرنسا ما لم يصنعه أحد، لا قبل ولا بعد، ومع ذلك ترك كل شيء ومشى عندما فقد الأكثرية التي جاءت به. ومعمّر القذافي وقف يسأل الليبيين بعد 42 عاماً من الفشل والعبث والنظريات الثالثة: من أنتم؟ أنتم جراثيم، من أنتم؟

وضع والتر ليبمان عام 1942 أول وأشهر كتبه “الرأي العام”. خلاصته أن على الرئيس أن يصغي الى الحقيقة لا الى تفاهة الخداع وضعف المخادعين. وقد أمضى جونسون زمناً لا يسمع فيه إلا صوت نفسه وعجرفته وجهله، لكنه عندما أيقن أخيراً أين أصبح مكانه في التاريخ، وأدرك الثمن الذي دفعته أميركا، أرغم نفسه على الانسحاب والانزواء.

بعد ماذا؟ بعد حرب أهلكت سمعة أميركا في التاريخ. يقول ليبمان: “لقد وحَّش جونسون القوات المسلحة الاميركية عندما اعتبر أن لها هدفاً واحداً هو فوزه الانتخابي”.

لم “يُسلِّم” صدام حسين والقذافي وبن علي الرئاسة الى من بعدهم، بل أُخذت منهم عنوة، استولوا على دول موحّدة وتركوها مقسَّمة في الأعماق، منهارة المؤسسات، ومعدومة الأمل والنقد والاقتصاد. وكانوا على اقتناع بأن أربعين أو خمسين عاماً لا تكفي، فانتقوا وريثهم، لا من بين الناس والمستحقين والمؤهّلين وذوي السيرة الوطنية الناصعة، بل من دلال العائلة، من أجل أن يكمل المسيرة، فإذا الاكتمال هو نهاية كل شيء، على النحو الذي نرى.