الدكتور داود الصايغ

الجفاء العربي القاتل – داود الصايغ – النهار

لم يكن اللبنانيون نياماً حتى يُقالُ إنهم استيقظوا اليوم، وإنهم سيُحدثون التغيير بعد ثلاثة أشهر، وأن التغيير الأكبر سيحدث في الخريف المقبل لدى انتهاء الولاية.

على طول التاريخ الاستقلالي، لا بل على طول تاريخ التجربة، كانت الأحداث هي التي تعصف بالناس. وكانت مشاريع الثورات والانتفاضات هي التي تُجهَض.




الأخطاءُ تراكمت من داخلٍ ومن خارج، من خارج بخاصةٍ. وبعد ذلك يُطلب من اللبنانيين أن يتمرّدوا ويزيحوا رجال السلطة جميعهم. وذلك في بلدٍ ورثَ من تاريخه القديم منظومةَ الزعامات. الزعامات الطائفية والمناطقية، في مختلف مناطق هذا البلد الصغير الذي حوّلته المصالح بعد التألّق المعروف، إلى بلدٍ مُستعطٍ لا يثق أحدٌ به، ليس من منظار التطلّع إلى شعبه المِعطاء بل من منظار رؤية سياسييه وقياداته الذين في أبسط الأوصاف تسببوا بفقدان ثقة العالم بنا.

الولايات المتحدة الأميركية تُخصص مائة دولار في الشهر لكل جندي بعدما كاد تماسك أفراد الجيش أن يهتز. والسفارات في الخارج مدعوة إلى تمويل ذاتها. والمباحثات مع صندوق النقد الدولي مهددة للأسباب نفسها: لا ثقة في دولةٍ تعجز عن إصلاح ذاتها. فالدولة مشغولة بهموم مصالح المسؤولين فيها.

صمتَ العرب وقاطعوا. جمّدوا العلاقات إلى أن جاء وزير خارجية الكويت وطرح ورقةً وتحدّث “عن لبنان أيقونة المشرق العربي”. شكراً للوزير الصديق. ولكن أين هي الأيدي الممتدة لبلدٍ له أفضالٌ على العرب. نقولها بالفم الملآن، وهو ما يعرفه العرب وما أشار إليه الوزير الكويتي. صحيحٌ أن أخطاءً قاتلة حصلت. أوّلها ذلك الحلف الذي يُصرّون على تسميته بـ”تفاهم مار مخائيل” والذي أدى فيما بعد إلى إطلاق يد إيران. ثانيهما تجميد العمل بالدستور لمدة سنتين ونصف السنة حتى لا يصل إلى الرئاسة سوى شخصٌ واحد فقط. ثالثها مسؤولية الذين فتحوا الأبواب أمامه. هنالك من عطّل العمل بالدستور، وهنالك من أعاد النظر وعقد التفاهمات الجديدة مع خصم الأمس التقليدي، وهنالك من وجد أن الفراغ لا يُفترض أن يستمر. إلى أن بان المستور مع فتح الأبواب وهو لم يكن مستوراً، حسبما يدلّ التاريخ القريب في مجال العجز عن تحقيق أي إنجاز.

نعم. صمتَ العرب وقاطعوا. ومقاطعتهم شديدة القسوة. لأنه لم يحصل في السابق أن حصل هذا الجفاء المؤذي. كان هنالك ثلاثة مليارات دولار خصصتها المملكة العربية السعودية لمساعدة الجيش اللبناني أيام الملك الراحل عبدالله عام ٢٠١٣ في عهد الرئيس ميشال سليمان لمساعدة الجيش اللبناني وهي الأكبر في تاريخه تقوم على شراء أسلحةٍ له من فرنسا البلد الصديق فأوقف العمل بها عام ٢٠١٦. وذلك بالإضافة إلى المليار دولار الإضافي الذي سعى به الرئيس سعد الحريري لمساعدة قوى الأمن الداخلي. وعندما تغيّرت أحوال الحكم تغيّرت النظرة إلى لبنان. لم يعد بعض العرب الذين عُرفوا على طول التاريخ الاستقلالي بصداقتهم للبنان واللبنانيين، يتعرفون على لبنان الحالي. نعم هنالك مسؤولية داخلية، مسؤولية السياسيين والزعماء الذين نعتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأقسى الأوصاف في أيلول ٢٠٢٠. نعم. هذا أدركناه ونلمسه كلّ يوم، في غياب تلك الحكمة التي كانت تقضي بعدم الوصول إلى المشكلة لأن المشكلة في لبنان عندما تقع لا يعود لها من حلّ.
نعم، لقد افتقدنا الحكمة في الطبقة الحالية من المسؤولين. وبتـنا في زمن الشوق إلى الكبار. هنالك كبارٌ صنعوا لبنان وأدركوا معنى واجب الأمانة للحكم. لأنهم قرأوا في ذواتهم أولاً بأن أعمالهم تتبعهم، وإن الناس هم إنتاج أفعالهم. فالأوطان تُبنى على الأفعال إذا ارتفعت المقاصد وتـنحدر إذا انحدرت.

هذا كلّه لمَسه اللبنانيون من حكامهم الأمس واليوم. مما شهده التاريخ منذ الاستقلال وحتى الآن، وما أورثـته إيانا سنوات الحروب وقياداتها وميليشياتها. هذا عرفناه. ولكن ما لا نعرفه وما نرفض أن نعرفه، وما نُعيب به على العرب، إخواناً كانوا يُصنّفون أم أصدقاء، هو أن يعتبرون بأن لبنان صار موقع نفوذٍ لإيران، وإنهم صاروا يبنون سياستهم اللبنانية على هذا الأساس. كلا، أيها الإخوة كلا يا أصحاب الجلالة والسمو والسيادة والفخامة. لبنان كان متلألأً ولا يزال كان حراً ولا يزال كان سيداً ولا يزال. فلبنان أقوى مما يظنّه الكثيرون، حتى وإن مال قسمٌ غير قليلٍ من أبنائه إلى القنوط. إيران حدثٌ عابرٌ في تاريخ لبنان. افتحوا أعينكم جيداً، لا مكان لهذا الجسم الغريب في كياننا اللبناني ولا في تدخلاته في المنطقة. هذا كلّه سوف ينتهي. ولكن لا معجزات في السياسة. وهي قضية ظروف والظروف تتغير وبالأخص إذا كانت بين أيدي القادرين والعارفين.

إنكم أدركتم منذ البدء خصوصية لبنان واحترمتموها. وكان أوّل المدركين مؤسـس المملكة الملك عبد العزيز الذي كان يردد أن لبنان لو لم يكن موجوداً لوجب إيجاده. وأدركه ملك مصر فاروق وسائر مؤسـسي الجامعة العربية الذين من أجل لبنان، لبنان هذا الذي عرفتموه وأحببتموه قررتم إدخال التصويت بالإجماع في المادة السابعة من ميثاق الجامعة العربية وليس بالأكثرية حتى لا يُحرج لبنان هذا بالقرارات المتخذة بالأكثرية، واحتراماً لخصوصيته.
هذا البلد صاحب أفضال حفظ العربية وناشر الفكر والأدب والصحافة والثقافة في الأقطار حوله. والذي أحببتم نموذجه الإنساني المميز، هذا البلد هل ترضون بأن تروا فيه صورة مصغرة لإيران؟ كيف تقاعستم عن الوقوف إلى جانبه في محنته المستمرة. ما هي هذه الأخوة؟ “أيها الإخوة الأشقاء” كنتم تُنادون في خطبكم العلنية بعضكم للبعض الآخر للدلالة على عمق الروابط. فما هو نفع هذه القرابة إذا تعثّر الأخ الشقيق وتركتموه لخصمكم. لا لإسرائيل التي طبّع قسمٌ منكم العلاقة معها، بينما لبنان لا يزال يدفع أثمان العداء معها وحده، بل لعدوّتكم الطارئة إيران. ألم تُدركوا أن الواجب يقضي بأن تقفوا إلى جانبنا حتى نقف.

شكراً أيها الوزير الكويتي الصديق. بنود الورقة ممتازة. وبيان مجلس الأمن الأخير الذي أعاد التذكير بوجوب النأي بالنفس ممتاز هو أيضاً. والقرارات الدولة جميعها لصالح لبنان منذ عام ١٩٦٧ وحتى اليوم. فلبنان لم يؤذِ أحداً في تاريخه ولم يتسبب بالأزمات مع أحد. أنصفته الأمم المتحدة دائماً، وقرارات مجلس الأمن كلّها بدون استثـناء هي لصالح لبنان. ومن أراد فليبحث عنها قراراً قراراً ويشهد لها.

فالجامعة العربية يُفترض أن تجمع. ولبنان العضو المؤسـس هو اليوم في أزمة أمام العالم كلّه. ومن المشروع التساؤل: أين هي الجهود الجامعة العربية للمساعدة، في أخذ لبنان كما هو، كما عرفه المؤسـسون، وكما لم يتغيّر يوماً. تغيّر الآخرون ولكمن لبنان بقيَ على حاله. وهو اليوم بحاجة إلى من يدعم ثوابته. والطريق واضحة وسهلة: خذوا لبنان بالجملة. كما هو. وليس بالتعامل مع بعض مكوناته. لبنان لم يُخطئ في حقّ أحد. العديدون أخطأوا معه. لم ينسَ أحد بعد سنوات الوصاية وسنوات التفرقة حتى تبقى الوصاية مرجعية الخلافات. إنه استضاف الثورة الفلسطينية كلّها وتسبب ذلك له بالحروب الطويلة القاتلة والمدمرة. أنسيتم؟ نحن لم ننسَ ولكننا تطلّعنا دائما إلى الأمام. هكذا هو لبنان هذا هو لبنان: تطلعٌ دائم إلى الأمام.

في تلك الأجواء الشديدة الاكفهرار كان أحد أهم القيادات الوطنية في لبنان، سعد الحريري، يُعلن تعليق عمله السياسة في هذا البلد الذي سبق للأيدي القاتلة إياها أن امتدت إلى والده الرئيس وإلى مشروعه الذي يمكن اختصاره بأنه يهدف إلى أن يضع لبنان في مكانه الصحيح. ومكانه الصحيح يختصر بكلمتين: لبنان أولاً. وكم ذكراه البارحة كانت أليمةً في الشوق إلى الكبار مثله والذي كان بمستطاعه أن يجنّب اللبنانيين اليوم كلّ مآسيهم. وإذ بهذه الأيدي من داخلٍ ومن خارج تتعرض لسعد الحريري أيضاً. وإلى إكمال تحقيق المشروع. فتَوجَّهَ يوم الأول من أيلول عام ٢٠٢٠ إلى الرئيس ايمانويل ماكرون والمجتمعين معه في قصر الصنوبر بقوله: “هذه آخر فرصةٍ للبنان في هذه المبادرة الإصلاحية. وإذا تعثّرت فلا يعتمد أحدٌ عليّ لكي أبذل المزيد من التضحيات. لقد ضحيّتُ كثيراً…” والباقي معروف. وفي كلمته المختصرة يوم ٢٤ الشهر الماضي توصيفٌ كافٍ يتجاوز معاناته الشخصية إلى معاناة اللبنانيين في هذه الظروف المصيرية.

إنه أراد أن يتمرّد على الطريقة التي بقيَت متاحةً أمامه، وهي الابتعاد وتعليق العمل. هكذا قضى مفهومه لمعنى القيادة وهو في رأس قائمة القادة. فالقائد هو من القدوة في الأصل اللغوي. إنه يعطي المثل. رئيس وزراء بريطانيا الحالي بوريس جونسون حاسبوه في مطلع هذا الشهر على إخفاقه في القيادة عندما سمح بأن يُقيم حفلاتٍ في مقرّ إقامته وقت كان يدعو هو نفسه البريطانيين إلى التقيّد بواجب الاحتواء إزاء جائحة الكورونا. فاتهموه بأنه أخفق (Failures of Leadership).

ولكن في ما عدا إخفاق القادة والمسؤولين هنالك القيادة اللبنانية. قيادة هذا المكوّن الذي خُلق منذ البدء ليكون علامةً مميزة. وهي بارقةٌ جادت بمائها طويلاً ولن يصيبها الجفاف مهما حصل، أو لعلها أيقونة مضيئة لا بد أن تطوف مجدداً في سماء الشرق. لبنان رائدٌ ولا يزال.