ترجمة: سمير عطاالله
منذ تقاعدي عن التدريس، قررت ألا أخرج من بلدتي ايستوريا دي ليبرداد، إلى أي مكان. اكتفيت من العالم، والآن سوف اغلق على نفسي ابواب هذه الجنّة من الشجر والصخور وطرق الاحراش والقطط الناعسة، ولن اذهب حتى الى باهيا، عاصمة القضاء، من اجل استلام راتبي التقاعدي. فقد اعطيتُ توكيلاً بذلك الى فرناندو، ساعي البريد، الذي يأتمنه الجميع على كل شيء، وخصوصاً الرجال الذين يتلقون رسائل عشق من عشيقاتهم في المدن القريبة. وبعض هؤلاء لا يجيدون القراءة، فيتولى فرناندو نقل مشاعر الهيام إليهم على هواه. وفي أي حال، فإن الرسائل كلها تنتهي بلازمة واحدة: ارجو أنك لم تنسَ رقم حسابي في مصرف سانتو اسبيرتو! ثمة سر لا يعرفه احد، سوى عشيقات لشبونة وماديرا ومدن الجنوب: تلك العلاقة بينهنَّ وبين الروح القدس. لماذا لا يثقن بشفيع محلي؟ ربما كان السبب قلّة الفروع في المصارف الصغيرة. مصرف الروح القدس، مثل شفيعه، في كل مكان.
لا يهم. الخطايا البعيدة، تخفف من حجم عقدة الذنب، كما تقلل من احتمالات الفضيحة. وبحسب فرناندو، فمنذ ان بدأ العمل شاباً لم تحدث سوى فضيحة أو إثنتين. غالباً بسبب ضعف الذاكرة عند الزوج المخادع عندما يتأوه للأسم الخطأ في لحظة الحقيقة السامية.
عدا ذلك، الحياة هادئة وساكنة في ايستوريا. تمر الفصول بطيئة ولا خلل في مواقيت الليل والنهار ومواعيد الغروب الارجواني واوراق الخريف الجافة التي تشبه اوقات التقاعد على الشرفة. اقصد جميع الشرفات. فما من احد لا يزال في الخدمة الفعلية هنا. الجميع في انتظار المعاش وبقية العمر. وكم يتشاءمون من عدّاد الأيام الذي تتولى الديكة شحنه كل فجر، ديكة مبتذلة، تنام واعناقها واقفة، مثل الادعياء الذين يتباهون بمنديل ملون في جيب سترتهم العليا.
في اي حال، هكذا يبدو جميع الرجال صباح الأحد، عندما يرتدون جميعاً طقماً كحلياً لا يزالون يحتفظون به من ايام افريقيا، يوم كان بلدنا شريكاً في استعمار العالم والمتاجرة بثرواته. هكذا افقت على الدنيا. لقد عشت مع اهلي اكثر الوان الحياة فرحاً في لواندا. وما حسبنا ابداً أننا سوف نعود إلى هنا للبحث عن وطن وبيت واصدقاء. نشأت على ان افريقيا هي الوطن الأخير مهما كانت بشرتنا بيضاء. لكن ذات مساء، وأنا احتفل بعيدي الخامس عشر مع اصدقائي واساتذتي وعمي، الذي هو مدير الشرطة ايضاً، سمعنا ضجيجاً وضوضاء وجلبة في الخارج. وعندما فتح عمي الباب بفضوله الأمني، رأى مجموعة من الصبية والبنات يهتفون: عودوا الى دياركم ايها البرتغاليون. ايها البيض الملاعين.
اغلق عمي الباب ونادى على امي في المطبخ: انسي قالب العيد يا سنيورا ماريا، ولنبدأ جميعاً باعداد حقائب الرحيل. ثم التفت الينا وهو يعتمر قبعته ويخرج قائلاً: كان لا بد ان يحدث هذا ايها الشبان، وقد حدث على حظكم. إذا تمعنتم من النافذة جيداً، سوف تتأكدون ان الأرض لا تكف عن الدوران. مجرد دورة أخرى.
وسوف تعلن نهاية الامبراطورية البرتغالية من هنا بسبب النفط. اعدوا انفسكم لذلك اليوم.
منذ يوم ميلادي الخامس عشر، بدأ عمي يُعدّنا للحظة الحمراء. من موقعه كان يعرف الى ماذا سوف تتطور الأوضاع في لواندا، ويعرف من خبرته، كيف ينقلب البشر، في لحظة الى ذئاب جائعة. واللون ليس مهماً. فالأفريقيون خلف بشرتهم، مثلنا خلف بشرتنا. لكن ربما اكثر عصبية قليلاً واكثر ازدراء بالحياة. لذلك، يرقصون في الجنائز كما يرقصون في حفلات مساء السبت. يرقصون حتى تتفتت كل عروق اللذة في اجسادهم المنقوعة بالخمر الرخيص واليأس وكره الرجل الأبيض.
وكنا نعرف ان هذا اليأس سوف يقرع جميع الأبواب البيضاء في انغولا. لكننا نحب حياتنا فيها. ومثل الأطفال نحاول اقناع انفسنا بأن معجزة قد تحدث ونصل الى اتفاق ما. غير ان فابيوس الذي امضى حياته في دائرة الشرطة، كان يرفض ان نستسلم لسذاجة التفاؤل. وكل يوم آخر كان يبدو لنا انه على حق.
اصعب شيء علينا كان فكرة العودة الى الوطن القديم.لا احد يريدنا هناك. فنحن غرباء، وحتى اللغة البرتغالية لا نجيد لفظها. وهم يكابرون في بلد صار فقيراً، ويهاجرون ونساؤهم يعملّنَ خادمات في بيوت اوروبا. لقد زالت البرتغال في ارضها
وفي بحارها الاستعمارية. ولم يبق شيء من الكنيسة، فالناس تذهب جماعات الى الحزب الشيوعي.
شكراً لفابيوس. لم ننتظر الهروب الجماعي. عدنا في هدوء وعلى مراحل. وبدأنا نبحث عن حياتنا الجديدة بصعوبة، لكن في هدوء. إلا ان الحنين الى لواندا ظل طاغياً على كل خطواتنا. وعندما توفي عمي فابيوس بعد سنين، ادركنا كم انار درب العائلة في الوطنين. وقد وجد كل منا عمله المناسب. وتزوجت شقيقاتي الثلاث، بقيتُ عازباً، اكتب الشعر للأطفال وقصائد الأغاني للحب والنساء. وعندما غنت اماليا رودريغز بعض قصائدي، حملت اسمي معها الى كل مكان فيه لغة برتغالية والحان الفادو.
لماذا اكتب كل ذلك الآن؟ لأنني ولدت تحت برج الخيبة. مجرد تمهيد، أو مقدمة، كالذي يلتزمه الناشرون كتقليد سقيم. انا لم اقرأ في حياتي مقدمة او تمهيداً. أذهب مباشرة الى النص. وماذا يفعل التقديم في نص بائس سوى فضحه مسبقاً؟ لقد كتب الشاعر الاسباني الكبير رامون سييرا دوس باسوس، عشرات المقدمات للعشرات من “خاملي” الشعر والرواية، ولم تلق واحدة منها نجاحاً. كأنه كان يكتب للتلف أو للمستودعات أو للجمعيات الأدبية السقيمة التي امتلأت بها البرتغال. وقيل في الاشاعات الخبيثة ان رامون كان يكتب المقدمات الفارغة للناشئات من اجل خدمات اخرى. فما همه ما دام الكتاب نفسه لا يحمل توقيعه. وعندما بدأتُ اشتهر قليلاً في صحف لشبونة، حاول أن يسرق مني شيئاً من الشهرة، فقال لأحد النقاد أنه يريد ان يقدم لي مجموعة نقدية جديدة. فقلت لصاحبنا، انا اؤمن بقول جول رينار”الناقد عالم نبات. انا صانع حدائق”. فسألني من هو رينار هذا؟ قلت، الرجل الذي قال سارتر ان معه بدأ الأدب الفرنسي. قال، ومن هو سارتر؟
زادني كلام هذا السيد قناعة بأن زرع الورود اجمل من معرفة عروقها. كما زادني اقتناعاً بأن المرء يتقبل الحياة اكثر إذا نظر اليها بعيني جول رينار. وعندما قررت العودة الى منزلنا القديم في ايستوريا، أي ليبرداد، من اجل ان اكون قرب نفسي وقرب حديقتي، اعتبرت ان جميع الفصول اصبحت ورائي، وبقي لي فصل واحد بلون واحد، اعيشه كما اريد. وداعاً عواصف العشق. وداعاً اغاني اماليا الباكية وصراخات “الفادو” الحزينة. ولا قصائد بعد اليوم. لا قراءة ولا كتابة. لكن ماذا ستفعل إذا دهمك حب من الذي لا مفر من الكتابة له؟ ما فعله جول رينار: سوف احبس الدمعة في زاوية العين اليسرى واشد عليها نزولا. هي وحريقها ومشاعري. كانت هناك امرأة ذات زمن، وقد نزلت بي مثل إعصار ، غرزت نفسها في جميع جوارحي وحملتني الى عالم آخر من المشاعر والنرفانا والانتشاء، ثم رمتني في بقايا الريح. كنت في الخامسة عشرة، والإعصار يأتي مرة في العمر. لذلك يسمونه الحب الأول، ولم يعثروا الى الآن على عنوان للحب الأخير.
اعتقدت ان هذا الاعصار لا يضرب إلاّ مرة واحدة. لا تعود هناك قوة في الانسان تحتمل مروره العاصف في الشرايين وأوعية العيون. لذلك يعشق المرء في الخامسة عشرة، ثم يمضي بقية العمر في تذكرها. ولا داعي للقول انها كانت افريقية. وعندما ادركت أمي ان المسألة ليست نزوة عادية بين مراهق ابيض وجمال افريقي، لم تعد تعرف النوم. وسارعت الى ابلاغ عمي فابيوس بالأمر. ومنذ ان توفي ابي ونحن صغار اصبح هو الأب البديل. ولأول مرة سمعت فابيوس يتحدث بلغة رجال الشرطة. واكتشفت ان هذا الرجل الطيب اللائق يخبىء رجلاً ابيض عنصرياً وشتاماً: اسمع يا رودريغز، الافريقية لا تعرف الحب. تولد لكي تكون جارية في الأدغال.
شعرت وأنا اصغي الى فابيوس ان الأبيض في افريقيا مجرد رجل شرطة يتكلم مثل هراوته أو مثل كلابه الألمانية. وفي اي حال، انتهت النزوة لتصبح ذكرى تسمى في ارشيف الحياة، الحب الأول. أنا اسميه “ويندا”. امرأة كل الفصول. عندما طردت امي “ويندا” من المنزل وطلبت منها ألا تعود ابداً، قررت ان اطرد من حياتي جميع النساء.
بدأت علامات القلق تتسع في لواندا. وذات يوم عادت شقيقتي الصغيرة غاضبة الى البيت، ورمت حقيبتها المدرسية على الأرض صائحة، متى سنغادر هذه البلاد؟ وهرعنا جميعاً إليها. كانت ميموزا تعرف ان هذا ما سيحدث. الوديعة الجميلة التي تركها والدي لعنايتنا جميعاً. تولّت امي تسمية جميع ابنائها. ولما حملت الحبل الاخير، قال لها ابي: الآن جاء دوري في الأبوة، إذا كانت انثى، سوف نسميها ميموزا.
وأثار ذلك شكوك امي كالمعتاد: ماذا يعني له هذا الإسم؟ كيف يشرح لها مدرّس الأدب المسكين انه استعاره من جملة لجول رينار؟ “الميموزا للزهر مثل الكنار للعصافير”. وظلت امي تلح عليه وهي ترضع مولودتها “من هي ميموزا هذه”. لكنها سوف تحبها وتدللها اكثر منا جميعاً.
عندما تزوجت ميموزا بعد سنوات قليلة من عودتنا الى البرتغال، انتقلت للعيش مع زوجها في دوس سانتوس. وانتقل عمي فابيوس الى هناك ايضاً ليكون قريباً منها. وعاش سنواته الأخيرة سعيداً مثل كنار جول رينار، يلاعب اولادها ويروي لهم ذكرياته في لواندا. وكانت هي وزوجها وابناؤها ينادونه بأحب كنية لديه: Papa Fabius . ولعل ذلك كان يعوضه عن حياة العزوبية التي عاشها من اجلنا،
وخصوصاً من اجل ميموزا. فقد كانت العودة من لواندا صعبة جداً في البداية. وكان الجميع ينظرون الينا في حذر، واحياناً في اضطهاد.
هذه السنة سقط عهدي على نفسي بألاّ اخرج من ايستوريا اي ليبرداد مرة اخرى. اتصلت ميموزا اسابيع قبل رأس السنة بلهجتها الآمرة المدللة، وقالت لي، سوف تخرج من عزلتك رغماً عنك هذا العام. الأولاد يصرون على تذكّر مرور السنة الأولى على غياب فابيوس. وقد دعوا جميع افراد العائلة، واصدقائهم وصديقاتهم، وارباب عملهم واساتذتهم القدامى، وكل من عرفه. لا يمكن ان تغيب.
برغم ما تعنيه لي ميموزا وعائلتها، وبرغم ما تعنيه ذكرى فابيوس، ترددت كثيراً. اصبح السفر يتعبني بمجرد ان افكر فيه، والتحدث الى معارف جدد يشعرني سلفاً بالملل. كلما كبر الإنسان، صغر عالمه وضاق. وكلما زاد عدد السنين قل اعترافه بها. الاحتفال بالسنة الجديدة، في مثل سني، يؤكد انك إنسان قديم. وماذا يمكن ان تتمنى الناس لك؟ أن الجميع يطرحون سؤالاً واحداً: كيف صحتك. وعندما تجيب انها جيدة، يطرحون السؤال من جديد، كأنهم لا يصدقون ما تقول. جميع الإهانات تقال بالكثير من التهذيب والعطف، كما يقول جول رينار. أو لعله فرناندو بيسوا. أو لعله انا. لعله ولعلّ. والذاكرة تتعب وتتأنى. وتنؤ، مثلها مثل الاكتاف التي تهزّها الى فوق، علامة اللامبالاة. وبعد عمر معيَّن، تهز كتفيك لجميع الأشياء. لا يعود لك التجلد حتى على قول ذلك بالكلام.
كانت ميموزا في انتظاري على رصيف الميناء. وكعادتها راحت تكمل حديثاً كأنه بدأ امس مع أننا لم نلتق منذ وقت طويل. واعتذرت بسرعة عن عدم مرافقة البنات لها: “إنهنَّ يعددن العشاء مع رفيقاتهنّ”. ثم، ايضاً كعادتها منذ كانت طفلة، انهالت
علي بالتأنيب: “متى ستخرج من عزلتك السخيفة وتعود إلى الحياة، ألم تعلمك السنين بعد ان العمر بضع لحظات جميلة والباقي تشبيه بالحياة؟ عناء وتعب ولا شيء. ثم مكدسات منه. أي اللاشيء”.
لا شيء يغّير ميموزا. وقد كبرت وصارت أماً ولها ثلاث بنات في مثل جمالها، لا تزال طفلة العائلة. الطفلة التي غاب والدها عن الحياة قبل ان تتعلم كيف تناديه باسمه. سألتها في الطريق الى المنزل “كيف حال الثلاثي الجميل”؟. “لن تعرفهنَّ. كبرن واصبحن كانهن من عمر واحد.آه وسوف تتعرف اليوم على لارا اندريا ريبيرو، مذيعة القناة الثانية في لشبونة، فقد دعتها الى الحفل”.
عبرنا المدينة في جو احتفالي. وقد مضى علي الآن زمن لم اسمع صخباً أو ارى حشداً. وبرغم الفصل كان الطقس ربيعياً مضيئاً بشمس غير مرتفعة. وعندما وصلنا الى منزل ميموزا كان المدعوون في الحديقة يتمتعون من هذه الهضبة الجميلة بمنظر دوس سانتوس وسطوحها القرميدية ومينائها التاريخي، الذي يقال ان القراصنة كانوا يخبئون فيه كنوزهم المسروقة.
قدمتني ابنة ميموزا الكبرى الى الحضور. ولم تنتظرلارا اندريا ان نصل إليها، بل اندفعت نحونا يسبقها عطر ويتبعها عطر، قائلة: “دعني اقدم نفسي”. تقدمين نفسك يا لارا اندريا؟ أنا لا انام قبل ان ترسلي الي التمني بليلة سعيدة. قالت لارا اندريا: “كم كنت اتمتع بقصائدك للاطفال من الاذاعة عصر كل احد. ثم قيل فجأة انك انقطعت عن الكتابة. هذا عمل سيء تجاهنا وتجاه الصغار من بعدنا”.
انصرفت ابنة ميموزا الى الضيوف الآخرين، وبقيت لارا اندريا لي. وفي صوت مرتفع، كأن لا احد سوانا في المكان، راحت تذكرني بعناوين تلك القصائد التي لم اعد اذكرها: “لون العسل في مروج ماديرا” و “الكابتن دلغادو يسلم سفينته للحرية والريح” و “العشاق يختبئون في مراكب نهر التاجو”.
ثم كدت ابكي عندما استندت لارا اندريا الى سياج الحديقة وراحت تتلو من الذاكرة:
“ايتها المروج التي بلون عيني حبيبتي،
“ايها الصنوبر الأخضر مثل عيني حبيبتي،
“ايها الليل الفاحم مثل عيني حبيبتي،
“يا مرافىء البرتغال، اعيدي إلي حبيبتي”
ضحكت لارا اندريا: “ما رأيك في ذاكرتي”؟ كانت النشوة لا تزال تهزني وأنا اتأمل عينيها. “كأن هذه القصيدة كُتبت لكِ، قبل اربعين عاماً.
وأخذت اغرق في هذه المخلوقة النازلة من الغمام. ثم اخذت ارتجف كما حدث لي في حب الخامسة عشرة في لواندا. لماذا اسقط دائماً في حب يًمنغ على حتى البوح به. من اي غابة جاءت هذه الرموش ؟ ماذا تفعلين في خريفي يا لارا اندريا، أنت وعذوبتك وآهات اماليا رودريغز. وإلى اين اذهب من هنا بعد اليوم، وكيف يمكن ان تتسع ايستوريا، اي ايبرداد الصغيرة لعزلتي؟ ما هذا القدر الذي يرسل بهجة مثلك الى حضن خشبي جاف؟
كان صوت اماليا يأخذنا الى كل مكان. افراحنا واحزاننا وصرخات الحب اليائس. فيه نحلم وفيه ندفن احلامنا وفي دفء حنجرتها المقدسة، تُشعرُ اماليا كل برتغالي انها تغني له وحده، سواء سكر فرحاً أو كأبة، بدأ قصة حب أو انهته قصة. وها صورتها تحضر الى هذه الحديقة مع جميع احزان البرتغال. هي وقصائد فرناندو بيساوا وتمرد دلفادو ومنتحرو نهرالتاجو في القصص الحزينة.
بدأنا نشعر بالبرد. لكن لارا اندريا اصرت على البقاء في الحديقة: “انها ليلة لن تتكرر. ابق انت هنا وسوف ادخل واعود بما يكفي من الصوف”. وكان الليل يتسارع في سدوله ويلف الأودية وسهول اللافندر وطبقات البحر خلف الميناء واضوائه الشاحبة، وكأنما تكاثرت عجائب الأرض والسماء هذه الليلة، فظهرت من الضباب نجمة الصبح بشعاعها الدائم. وبعد قليل تبعها قمرها. وازددت قرباً من لارا اندريا خائفا أن يخطفها مني احد.
لطالما كانت نجمة الصبح حارستي منذ ايام الطفولة في لواندا. وقد كتبت لها عشرات قصائد الاطفال، هي وغيرها من النجوم السارحة في الأعالي. لكن “فينوس” كانت نجمتي الوحيدة. الى مشاعري، يدخل ضؤها القوي. واحس انها رفيقة من الماضي. ولطالما اضاءت عليّ، ليس بالنور فقط، بل ايضاً بالشعر والفرح.
خرجت ميموزا الى الحديقة وقالت بين المزاح والتأنيب: “على العاشقين ان يقطعا هذه الخلوة. حان وقت العشاء”. والقت ابنة ميموزا الصغرى كلمة تحدثت فيها عن فابيوس، الأب البديل، وشعرت باعتزازعندما نقلت من قصيدتي، “العودة”، هذه الأبيات: “لقد عدتُ الى تراب البرتغال، أنا ملاّح المحيطات وخيّال الأرض، “عدت
يا ماريا ماغدالينا بوشاحك الأسود المطرز بالذهب لنغني معاً للقلاع المنعزلة، الباقية على جهات الأرض”.
صفق الجميع. وشربوا نخب العم فابيوس. وازدادت لارا اندريا اقترابا، عيناها مثل مطرتين من الماس . ثم راحت تداعب باناملها الشعر الأبيض على عنقي. وبدا المشهد طبيعياً للحضور كأنه يتكرر منذ مائة عام. أو كأنه موضوع الحفل. ثم شبكت لارا اندريا يدها في يدي ونفخت في عروقي ذلك الدفء الاسطوري الذي يقال ان نهر التاجو يمنحه للعشاق الجدد. وتطلعت بزاوية عين جول رينار فوق يدها فرأيت من تحتها عروقي الخضراء الضخمة وآثار انفجارات الستين فيها. واعادني الى طفولتي، يوم كنت اتأمل وأنا عائد من المدرسة، رواد المقاهي في لواندا وهم يلعبون الورق، وظاهر يد كل منهم، منتفخة بالعروق والعمر والضجر الطويل. وكأنما شعرت لارا اندريا بكل ما افكر فيه، فمسحت خدي براحة يدها الصغيرة. وكانت ميموزا قد وضعت اغاني اماليا. وتفرق المدعوون في المكان. وبقينا جالسين: “هل تذكرين، لارا اندريا، ماذا قال ايفان لحبيبته في “الاخوة كارامازوف”؟ غروشنكا، إنني اعطي حياتي من اجل سنة أو شهر أوساعة أو ثانية من حبك”.
كانت الساعة قد اصبحت منتصف الليل. وامتلأت سماء الجزيرة بالمفرقعات. واطلقت السفن الراسية في الميناء ابواقها. وقام الجميع الى الرقص. وضعت لارا اندريا رأسها فوق كتفي. وقلت هامساً: “والان؟ الآن سوف تعودين غداً إلى عطرك وشبابك، وأنا اذهب الى اين؟ اجمل الاحلام اقصرها. تذكري دائماً ما قاله ايفان لغروشنكا.