وسام سعادة - القدس العربي

عن فشل لا يعلّم: الصيغة اللبنانية والزمن المطاط – وسام سعادة – القدس العربي

لا علاقة تلازمية بين الفشل المتمادي للصيغة الطائفية التي تقوم على أساسها الدولة في بلد كلبنان وبين احتمال اندثار هذه الصيغة واستبدالها بما من شأنه إعادة تشكيل الدولة فيه على أسس غير مستلبة بالاستقطابات والمحاصصات بين الجماعات السياسية التي تتعرّف في الطائفية نفسها على أرصدتها الشعبية الولائية المختلفة.
الفشل هنا يتحوّل إلى عقبة مركزية حائلة دون إنضاج بدائل. هذا في منطقة من العالم تشترك تجارب زرع الدولة الوطنية بين بلدانها في امتناع كون الإخفاق الحاصل في عملية بناء تفاهمات اجتماعية ذات مكنة ودول ذات حد أدنى من السواسية القانونية والمواطنية ومن الانصاف الاجتماعي الاقتصادي بين بنيها، امتناع كون هذا الإخفاق الذريع سبباً موجباً لقلب صفحة ما فاته الدهر واستهلكت صلاحيته من عقائد وأنماط حكم، والبحث بجدية وفاعلية عما بمستطاعه أن يتشكّل ويتوطّد كبديل وطني واجتماعي عن متلازمة «إما القهر وإما العماء» التي تكبس بحدّة على التاريخ المعاصر لهذه المنطقة.
أن لا يكون الفشل مدخلاً لإعادة النظر الفعلية فهذه مشكلة يتشاركها فشل الصيغة الرائدة أن تكون في آن واحد دولة مركزية وطائفية في لبنان مع باقي التجارب العربية المجاورة، وهذه أنماط أخرى من الفشل غير المستفاد منه، يتشارك فيها الفشل في تدبر الاختلاف بين الجماعات الإثنية والدينية والأثنودينية مع تفاوت في مستويات القهر الأمني والسياسي وميل الى التقارب في مستويات اللامساواة الاقتصادية الاجتماعية.
وهذا كله من قبيل الفشل المهدور، الفشل الذي لا ينتفع منه لا كدرس ولا كصدمة ثقافية من أي نوع، إن لم يكن في كثير من الأحيان من نوع التلذذ بهذا الفشل وجلد الذات باسمه، والمراوغة على المكابرة عليه بالمحاكاة الدرامية له، للتمرّغ به أكثر، وتوصيفه بأنه عجز لا إفلات منه أو فكاك، بل هجاء له وللذات منه خلاله، وبلا طائل.
فإذا اكتفينا بالنموذج اللبناني من امتناع تحول الفشل نفسه إلى مدخل للاعتبار والمراجعة والانقطاع عما سلف أن جُرّب ولم يفلح، لظهر لنا أولاً كنموذج لدولة نجحت في تحويل الطائفية واللاطائفية إلى مرادفين. فهذه الدولة هي من جهة الدولة التي من خلالها تتعرف كل طائفة على نفسها. كل طائفة تضع كينونتها في الدولة. الدولة المشتركة بين الطوائف. وهي في الوقت نفسه دولة تسعى عبثاً للتوفيق بين مثالين لها. العدل بين الطوائف، وإلغاء الطائفية. حتى أصبحت اللاطائفية نفسها شكلا من أشكال تدوير وتنكيه وزخرفة الخطابات الطائفية نفسها. ما من خطاب طائفي إلا ويقول لك صاحبه إن اللاطائفية هي ما ينشده لو تأمنت الظروف لذلك، وثمة من يستعجلها وفي حسبته تبدّلات الحجم والعدد، وثمة من هو ضنين على استئصالها النفسي، مطمئناً من وراء ذلك بأن الطائفية في النفس متأصلة وراكزة. وثمة، من ذهب حتى إلى أن الطائفية المكتملة هي المعبر لتلاشي الطائفية نفسها، على أساس أن الإشباع هو ضالة هذه الطائفية لتنقلب إلى تفاهم بين الجماعات يغني عنها.

أصبحت اللاطائفية نفسها شكلا من أشكال تدوير وتنكيه وزخرفة الخطابات الطائفية نفسها. ما من خطاب طائفي إلا ويقول لك صاحبه إن اللاطائفية هي ما ينشده لو تأمنت الظروف




والمشكلة أن عدم الاعتبار من فشل الصيغة المركزية الطائفية للدولة يتماشى مع عدم الاعتبار من فشل أو كساد أو ابتذال أجيال من الخطابات والبرامج اللاطائفية. وهذا يتصل بفداحة ما يرتكبه أنصار التغيير بحق أنفسهم وأحلامهم عندما يتنصلون من محك الواقع التجريبي ومقدار استجابته وكيفية تفاعله أو عدم تفاعله مع طروحهم ونضالاتهم ومساعيهم لأجل إعادة توليد ما يمتلكون من وسائل وأدوات ومفاهيم تحبذ أن تكون منخرطة في عملية تحويل الواقع. والأنكى هو عدم القدرة على الإقرار بأن حمل الشعار اللاطائفي ليس ضامناً من تلقائه للتحصين من تطييف هذا الشعار أو حامله.
في العامين الماضيين، وإثر انكفاء موجة 17 تشرين الانتفاضية، لسبب بسيط قبل كل شيء وهو أنه ليس هناك من انتفاضة دائمة، وليس صحيحا أن هناك الحد الكافي من الاتفاق بين المنخرطين في الحالة الجماهيرية وقتذاك على تحديد الخصم الرئيسي والمباشر بشكل منهجي يشمل تحديد نوعية المعركة معه كذلك الأمر. هذا إن لم نضف إلى ذلك ما يمكن اضافته من كون الموجة الانتفاضية لم تكن مسبوقة بتراكم نضالي سابق عليها يحضر لها وإنما بتراكم الفشل وتراكم محاولات التزويغ منه وعدم التعلم.
كيف يمكنك التعلم من فشلك؟ الاعتراف به وتحديد نطاقه بدلا من تعميم الكلام بصدده على نحو مجرد هو مدخل. لكنه مدخل يمكن أن يكون مضللا أيضا إذا ما اعتبرت أن الاعتراف بالفشل وحده هو بداية التعلم والمراجعة. أبدا. الاعتراف بالفشل ضروري لكنه لا يأتي بحد ذاته بأي معرفة جديدة وبأي طاقة جديدة. وأكثر، يمكنه أن يكون محبطاً، ويمكن أن يكون اشباعا ذاتيا، تكيفيا مع الفشل نفسه.
أما أن يكون الوعي بالفشل مزدوجاً، بأنه فشل لصيغة دولة بل ولصيغة مجتمع، وبأنه فشل لعملية توليد البدائل في الوقت نفسه، فهذا يصلح أن يكون مدخلا للتداول، للنقاش حوله. للتشاؤم بداية. وللتحكم بمدى التشاؤم تباعا. أما التفاؤل، وسط كل الكارثة الحالية بأن الكارثة بحد ذاتها تطهرية، وتعليمية، وستنقلب مخاضاً وبعثاً وطائر فينيق وما شاكل، فهو كان ولم يزل مهبطاً للغم في هذه الحالات. التشاؤم المتحسب عندما تحيط بكل النوازل والكوارث هو التفاؤل الحقيقي. التفاؤل «السري» نوعاً ما. التفاؤل الذي لا يرهن نفسه بالرهان على أن تكون الكارثة نفسها هي محرك «عامل السلب» إذا ما استعدنا هيغل. أي العنصر السلبي الذي يصنع الجدل. العنصر السلبي ليس بالضرورة ان يكون حيوياً. أقله حيويته ليس بالضرورة أن تثمر بالشكل الذي نتوخاه.
يتصل كل هذا في لبنان اليوم مع ارتباط عدم التعلم من الفشل مع استعصاء في كل المقاربات المطروقة حتى الآن لحل مشكلة حزب الله والمشكلة معه ومشكلة الانقسام حوله. وهنا أيضا، آن الأوان للاعتراف بأن تكرار نفس المواقف لا يمكن أن يكون تكرارا انضاجيا للحلول بحد ذاته. في مكان ما هذا الحزب هو وليد تناقضات نموذج الدولة المركزية الطائفية وفي مكان آخر هو نقيض «محايث» لهذه الدولة، يتترس بها فيما هي تستند إليه في الوقت عينه الذي تشكو منه. الى متى؟ أقله حتى لحظة إقليمية تكون فعلا جديدة. وهذا قد يكون اليوم وقد لا يكون على يومنا. التشاؤم المتحسب محاولة للتكيف مع الزمن المطاط.