“حصل اليوم في طرابلس: بمنطقة الزاهريّة قاعد بسيارتي عم آكل لقمة حدّ مدرسة الروم… رجّال سبعيني لابس بدلة رسميّة وقميص نضيف… مرّ من حدّ مستوعب زبالة… مشي فشختين… رجع ع المستوعب… تطلّع بقلبو… تطلّع يمين وشمال… شال كيس من جيبة البنطلون… حطّ فيه 3 حبّات بندورة شالها من المستوعب وكمّل طريقو…
هيدا الشخص السبعيني هو أستاذ لغة عربية وشاعر كان يعلّمني ها اللغة بمدرسة الطليان بالمرحلة المتوسطة… منظرو عصر قلبي ودمعتي حرقتني حرق” (ممّا نشره الناشط ماهر عوض عبر صفحته الخاصّة على الفايسبوك في 14 كانون الأوّل الجاري)
عشيّة عيدَي الميلاد ورأس السنة، لا يضنينا في شيء أنّنا سنأكل العشب والحمّيضة والخبّيزة والهندباء والفجّيلة والمرمريّة والقرصعنّة وإكليل الجبل، وسنأكل الشوك والبلّان والسيكون، وسنشبع من كلّ ما تُنبِته أرضنا من خيرات متواضعة وغير متواضعة. وسنأكل لا شيء، أيّ شيء، كلّ شيء، ولِمَ لا التراب، لكنّنا لن نأكل إلى طاولاتكم، أيّها الطغاة، والفاسقون، والفاسدون، ولا في صحونكم، وبملاعقكم، ولن نتدشّأ معكم، ولن نعيّد في ظلال مواخيركم وقصوركم، ولن تكونوا منّا، ولن نكون منكم. أهدي المقال إلى أهل الكرامات والنفوس الكبيرة، وأصحاب الأنفة والكِبَر، من فقراء لبنان والعالم، والجياع والمرضى والمشرّدين والمألومين والمنهوبة أموالهم وأرزاقهم والمقتولة طموحاتهم وأحلامهم تحت طاغوت لبنان.
في الخراب المقفر، في الخراب الغفير، في الشوارع، على الأرصفة، في الليالي، في النهارات، في الصباحات، في العشيّات، في منتصفات الليالي، في الأروقة، تحت الأشجار العارية، تحت المطر الحنون، تحت المطر الماجن الأخوت الجارف، تحت السيول الخرقاء، في البيوت، تحت الجسور، في الأنفاق، في ظلمات الشوارع والبيوت، في القلوب الممعوسة، في النظرات المحطّمة، في الخفقات، في اللعنات البكماء، في الكلمات الممزوجة بحبر الدموع المعلنة والخفيّة، الظاهرة والمتوارية، يعيش لبناننا، يعيش أهلنا الوجع الوجوديّ الخطير، ينتمون إليه، يتدفّأون بجمره البارد، يشهقون به، يأكلونه بخبزٍ حافٍ عندما يتوافر الخبز الحافي، وبلا خبزٍ، وبلا فتات خبز، عندما تُسَدُّ السبل إليه، وكم هي مسدودة ولئيمة وكافرة وجاحدة، هنا والآن، في لبنان.
في هذا الموت العميم، في رمال هذا الجرح الجماعيّ، في أملاحه، في الزجاج المتخثّر المتناثر، في الشظايا المكلومة، في الصحراء اللئيمة الناشفة اليابسة، في الخضمّ المغمور بغرق الحياة، باختناقها، بسعالها المهموم، بمساميرها الصدئة، بنعوشها المخلّعة، بأطفالها الموتى، بشبابها الآيل إلى حتفه المبكر، فوق هذه الجلجلة العموميّة، فوق الجبال، في الأودية، في المدن، في الدساكر، في الأرياف، في السهول، في البراري، في براميل النفايات، على حوافي البراميل، في ضواحيها، في القفر، وسط عواء الكواسر والذئاب والوحوش، في الغابة الهمجيّة…، يحيا لبنان. ويحيا أهل لبنان.
لكنّ الأعياد على الباب. على الشبّاك. عند المصطبة العارية. الأعياد تتعثّر تتكرسح في العيون في الشفاه في الأيدي في وجيف القلوب، فكيف لا أقول بكلّ ودّ، بكلّ شفافيّة، بكلّ صدق، بكلّ صداقة، وبكلّ عرفان:
كلّ عيد وأنتم (لستم) بخير، أيّها السادة الأشاوس، أيّها الرؤساء، يا أصحاب الفخامة، والدولة، والعطوفة، والمعالي، أيّها الأوادم، أيّها الذين بعرق جبينكم تأكلون خبزكم الأبيض، وتجمعون مالكم النقيّ النظيف الحلال، أيّها الحاملون أثقال الناس في ضمائركم الرهيفة، على مناكبكم، يا زوّار المتعبين والهالكين والمألومين والجياع والعطاش والمرضى واليائسين والتائهين والمشرّدين والمنتحرين في الليالي المؤرقة، أيّها الحكّام، يا ناقلي بلادي وشعبي – بكلّ راحة بال، وبدون عذاب ضمير، أو تبكيت، أو ندم -، إلى المقبرة الجهنّميّة.
كلّ عيد، يا أبناء (البلا) الأصل والسؤدد والشرف والكرامة والكِبر، كلّ عيد وأنتم وعيالكم وأحلامكم وطموحاتكم وصفقاتكم وحساباتكم وضغائنكم وأحقادكم وصغائركم وكبائركم ومحبّاتكم وأشواقكم ولهفاتكم، كلّ عيد وأنتم (لستم) بألف ألف خير.
لم يمرّ عيدٌ على لبنان وأهله مثل هذا العيد. لن يمرّ عيدٌ كهذا العيد.
هنا، والآن. هنا، والآن. في لبنان.
هنا والآن، نعيّد تحت شجر هذا الحكم غير الرشيد، في عهد الوصاية الإيرانيّة (السوريّة)، في جمهوريّة أهل الذمّة من كلّ مذهبٍ وطائفة، في دولة الذلّ والمهانة والوطاوة والحقارة والسفالة والمسخرة والكراهة والحقد والتباغض والتقاسم واللؤم والنهب والقتل والسرقة والرعب والترهيب، تحت نيترات الإصلاح والتغيير، والقهقهة البلهاء، والضحك الدنيء، والذكاء السخيف المتذاكي، وعرض العضلات المجرم، والاقتتال البارد، تحت سنديانة الليرة القويّة والعهد القويّ والرئيس القويّ، تحت نظام استعادة حقوق المسيحيّين ووريف الاطمئنان والرغد والبحبوحة والأمان والهناء والألفة والصحّة والرحابة، تحت سماء المنّ والسلوى، تحت قمر الحبّ والحلم، في حمى النجوم المطرّزة الساهرة حتّى تهجير آخر لبنانيٍّ حرٍّ وشريف من لبنان.
هنا، والآن، حيث ينام لبنان، والناس في لبنان، قرب تنك الزبالة، قرب البراميل، مع القطط الشاردة، في العتمة الحالكة، تحت البرد، تحت الصقيع، تحت لغة المواخير والقوّادين والسواطير والسكاكين والمسدّسات والبراميل المتفجّرة والصواريخ التي لا أحد يعرف مداها الحيويّ، وأمونيوم القبضات والأصابع التي تهدّد بالويل والثبور، والأشداق التي تتشدّق، في ازهرار هذا العيد نعيّد. كلّ عيد وأنتم (لستم) بخير. وأنتم (لستم) بخير.
صباح الخير، مساء الخير، نهاركم (غير) سعيد، وأحلامكم (غير) سعيدة، أيّها السادة الحكّام.
ليته مات لبنان، قبل أنْ يرى لبنان مصيره على أيديكم القذرة، وفي رعاية استبدادكم وارتزاقكم وارتهانكم وانبطاحكم، وتحت غبرة حنانكم الكاذب الحنان.
ليته لم يكن هذا اللبنان، لكي لا يشهد ما يشهد، ومن أجل أنْ لا تكون أحواله كما هي عليه أحواله الآن. وكما غدًا ستكون، بجرائم ضمائركم، أيّها الطغاة.
ليس عندي ما أقوله للحكّام سوى ما أقوله لكم أيّها الحكّام، ولِمَن وراءكم ومعكم وأمامكم: لبنان حصرمة في عيونكم. والناس غابة حصرم، غابات تلو غابات تلو غابات، في عيونكم، وعيون ذرّيّاتكم وأتباعكم.
لبنان لن يكون إسطبلًا لكم، ولا ولايةً، ولا مقرًّا، ولا ممرًّا، ولا ممسحةً، ولا هؤلاء الناس سيكونون ناسكم.
حصرمٌ. حصرمٌ. حصرمٌ. لن تعثروا إلّا على الحصرم.
يمكنكم أنْ تواصلوا أعمالكم وأحكامكم إلى ما شئتم من عهرٍ وعربدة وقهر وظلم وطغيان.
لن تأكلوا سوى الحصرم. لن يبلّل عيونكم إلّا عصير الحصرم. ولن تحكموا إلّا الحصرم. ولن تستبدّوا إلّا بالحصرم.
أمّا نحن فسنأكل التراب. سنأكل عشب التراب. وضغث العشب وضغث التراب. وسنأكل السراب. وأكرّر: سنأكل الحمّيضة والخبّيزة والهندباء والفجّيلة والمرمريّة والقرصعنّة وإكليل الجبل، وسنأكل الشوك والبلّان والسيكون، وسنشبع من كلّ ما تُنبِته أرضنا من خيرات متواضعة وغير متواضعة. وسنأكل لا شيء، أيّ شيء، كلّ شيء، لكنّنا لن نأكل إلى طاولاتكم، أيّها الطغاة، والفاسقون، والفاسدون، ولا في صحونكم، وبملاعقكم، ولن نتدشّأ معكم، ولن نعيّد في ظلال مواخيركم وقصوركم، ولن تكونوا منّا، ولن نكون منكم. ثمّ لن ننتخبكم إذا كان هناك انتخاب. ولن نعترف بكم. ولن نكون في ذمّتكم. ولن نطأطئ أمامكم. ولن نعيّد معكم.
وأنتم لستم منّا. ونحن لسنا منكم.
وخسئتم أجمعين، وخسئتم مرّةً واثنتين وثلاث مرّات، وإلى أبد الآبدين آمين.
أمّا الآن، عشيّة العيدَين، وفي العيدَين، فاضحكوا وقهقِهوا. وعيِّدوا. وفحِّشوا. وعربِدوا. وعهِّروا. وتعهّروا، على مدّ أعينكم والنظر. لكنّكم ستشهدون، وستعاينون، وستختبرون، وسنرى، من سيضحك ويقهقه ويعيّد أوّلًا وأخيرًا وآخرًا وبين بين.
حصرم. لن تستولوا إلّا على الحصرم.
كلّ عيد وأنتم (لستم) بخير.