على وقع التحولات الكبرى في السياسة الخارجية لعدة دول تتسلط الأضواء منذ مدة على تركيا والسعودية، وعما إذا كان هناك أي بوادر لإعادة تطبيع العلاقات بين هذين البلدين، خاصة بعد الخطوات الأخيرة لدولة لإمارات والبحرين، وقبلهما مصر، على نحو أقل وبشكل غير مكتمل.
وفي تقرير نشرته “وول ستريت جورنال” الثلاثاء، تحدثت الصحيفة الأميركية عن وساطة قطرية لعقد اجتماع بين ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.
وقالت الصحيفة إن نجاح الجهود القطرية في عقد الاجتماع كان سيشير إلى انفراجه محتملة في الخلاف الذي قسّم المنطقة لسنوات.
ونقلت عن مصدرين قولهما إن المسؤولين القطريين حاولوا، دون جدوى، جمع إردوغان ومحمد بن سلمان معا في الدوحة الأسبوع الماضي، عندما كان كلاهما يزور قطر في غضون يومين.
وأضاف المصدران أن “المسؤولين يبحثون عن الوقت والمكان المناسبين لعقد هذا الاجتماع خلال الأسابيع المقبلة”.
ورغم أن الحديث عن الوساطة القطرية بين تركيا والسعودية “خطوة لافتة” في التوقيت الحالي، كونها تتزامن مع تحولات السياسة الخارجية للدول، إلا أنها ليست بجديدة.
وفي 11 من شهر يناير الماضي، وبعد أيام من “صلح العلا” بين الدول الخليجية أعرب مطلق القحطاني، المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري لمكافحة الإرهاب والوساطة في تسوية المنازعات، عن استعداد بلاده للوساطة بين تركيا والسعودية، وكذلك بين الرياض وطهران.
وردا على سؤال بشأن هذا الاستعداد، أجاب القحطاني: “هذا يرجع إلى مبدأ الموافقة كمبدأ أساسي في العلاقات الدولية”.
هل الظروف مهيئة؟
وتشير معظم المعطيات التي فرضت نفسها خلال الأشهر الماضية إلى أن دول الإقليم باتت تقبل على مرحلة جديدة في العلاقات التي تربطها بين بعضها البعض، وذلك يرتبط بعدة اعتبارات تتضارب آراء المحليين والباحثين السياسيين بشأنها.
وقبل أسابيع طرأ تحول على صعيد العلاقة بين أنقرة وأبوظبي، وأنقرة والبحرين، وقبل ذلك كانت هناك خطوات “محسوبة” مع القاهرة.
في المقابل، وبينما شهدت الساحة عدة تحركات من أجل فتح قنوات حوار سعودية- تركية، إلا أنها لم تتوّج كما هو الحال بالنسبة للإمارات وباقي الدول.
وفي مايو الماضي، لم تحظ الزيارة التي أجراها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى العاصمة الرياض بزخم إعلامي ودبلوماسي داخل الأوساط السياسية السعودية، وهو ما بدا من قبل الساسة أو من جانب وسائل الإعلام الرسمية، التي تنطق بلسان المملكة.
وبعد هذه الزيارة لم يستجد أي شيء، حتى الخامس والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، حيث استضاف مركز المؤتمرات في مدينة إسطنبول مباحثات “رفيعة المستوى “بين تركيا والسعودية بخصوص العلاقات الثنائية بين الدولتين.
وذكرت وكالة “الأناضول” شبه الرسمية حينها أن نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي، بحث خلال هذا الاجتماع مع وزير التجارة السعودي، ماجد بن عبد الله القصبي، العلاقات الثنائية بين الدولتين، لاسيما في المجال التجاري.
“العلاقات على نار هادئة”
لم يصدر أي تعليق رسمي من جانب الرياض أو أنقرة حتى الآن عما تحدثت به “وول ستريت جورنال”، وكانت الخارجية القطرية قد أشارت في وقت سابق إلى أن وصول إردوغان إلى الدوحة ومن ثم محمد بن سلمان كان ضمن “إطار المصادفة”.
ويقول المستشار السابق في الخارجية السعودية، سالم اليامي، إن “قطر تتمتع اليوم بعلاقات ممتازة مع السعودية، وهناك درجة واضحة من الانسجام بين الجانبين حتى على مستويات شخصيات القيادة”. في المقابل، تعتبر علاقات الدوحة “جيدة تقليديا” مع تركيا.
وهذه الخصائص، بحسب اليامي: “ترشح قطر للعب دور المقرب بين وجهات النظر، خاصة وأن المنطقة تعيش حالة مصالحات تكاد تكون شاملة”.
ويضيف اليامي لموقع “الحرة” أن الرأي المذكور يعززه “الرغبة التركية في استعادة العلاقات مع الجانب السعودي القوى الأكبر في دول المجلس، والأكثر تأثيرا على العلاقات الاقتصادية السعودية التركية”.
وفي الواقع، قدمت تركيا خطوات وإشارات مهمة تجاه السعودية، تنتظر منها إنهاء حالة القطيعة غير المعلنة في العلاقات.
ويتابع اليامي: “من المعتقد أن الرياض التقطت تلك الإشارات الإيجابية، لكن ربما تحتاج إلى بعض الوقت لاستعادة العلاقات مع تركيا، وإنجاح المساعي القطرية التي يعتقد أنها ستنجح في نهاية المطاف”.
في مقابل ذلك، يشير مدير معهد إسطنبول للفكر، باكير أتاجان، إلى أن جهود الوساطة بين الرياض وأنقرة لا تقتصر على الدوحة فقط، بل تنسحب إلى دول خليجية أخرى، بينها الكويت وسلطنة عمان، معتبرا أن “قطر في الواجهة”.
ويقول أتاجان لموقع “الحرة” إن “علاقة تركيا والسعودية ضرورية في الوقت الحالي”.
وبينما تسعى أنقرة إلى “أن تكون علاقتها جيدة مع الدول كلها”، يشير الباحث التركي إلى أن “السعودية دولة مهمة في دول الخليج ومن أهم الدول، لذلك هي بحاجة لتطبيع علاقاتها مع أنقرة أيضا”.
“تحركات بعد العلا”
وكانت علاقات تركيا مع السعودية توترت بسبب دعم أنقرة لقطر في نزاع بين البلدين الخليجيين، ثم تصاعد التوتر إلى مرحلة الأزمة بعد اغتيال الكاتب والصحفي، جمال خاشقجي، الذي كان معارضا لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، عام 2018.
وعقب تلك التطورات، تأزمت العلاقات أكثر، ووصلت إلى حد المقاطعة التجارية للمنتجات التركية في السعودية، التي انعكست آثارها بالسلب على نسبة الصادرات التركية إلى أراضي المملكة، منذ أكتوبر العام الماضي.
لكن وبعد محطة “صلح العلا” في مطلع العام الحالي “تغير الكثير واختلفت الظروف”، بحسب المحللين الذين تحدثوا إلى موقع “الحرة”.
وفي هذه المحطة، عززت أنقرة من حضورها في الساعات الأولى، عندما رحبّت وبعثت برسائل إيجابية بشأن المصالحة الخليجية التاريخية.
واعتبرت أنقرة في ذلك الوقت نفسها بأنها “شريكة استراتيجية” لهذا لمجلس التعاون الخليجي، وهو مصطلح يحمل عدة أبعاد، تبعه تصريحات للمتحدث باسم الخارجية التركية، تانجو بيلغيتش، أبدى فيها رغبة بلاده في تطوير التعاون مع دول الخليج والمنطقة.
“لم يحن بعد”
وكانت رغبة أنقرة المذكورة سابقا قد انعكست مؤخرا في تصريحات إردوغان خلال زيارته إلى الدوحة، بقوله إن بلاده تعمل على تطوير علاقاتها مع كافة دول الخليج العربي، مرحبا بالجهود الدبلوماسية الرامية إلى إعادة فتح أبواب الحوار بالخليج وإزالة سوء الفهم.
وأضاف: “سنواصل تطوير علاقاتنا مع أشقائنا في الخليج دون تمييز، في إطار مصالحنا المشتركة والاحترام المتبادل، وأعتقد أن مباحثاتنا في الدوحة ستسهم بشكل كبير في تعميق علاقاتنا مع قطر”.
ولا يرى مدير معهد إسطنبول للفكر، باكير أتاجان أي بوادر قريبة لعقد لقاء بين محمد بن سلمان وإردوغان، لكنه يشير إلى تطورات في هذا الصدد قد تنعكس على مستوى الوزراء.
ويقول أتاجان: “اللقاء بين محمد بن سلمان وأردوغان من المبكر. الوقت لم يحن بعد، والظروف ليست مهيئة لأسباب عديدة، على رأسها قضية خاشقجي التي لم تنته”، مضيفا: “البلدان يريدان علاقات جيدة في الوقت الحالي، لكن ليس على مستوى إردوغان وبن سلمان”.
من جانبه، يقول المستشار السابق في الخارجية السعودية، سالم اليامي، إن العلاقات التركية السعودية “تطبخ على نار هادئة كما يقال”.
لكنه يضيف مستدركا: “هناك فرق في توجه الجانبين لإنجاز هذه الخطوة، حيث تسعى تركيا للوصول بسرعة لاستعادة العلاقات لأنها تعرف أن ذلك سيعزز من الاقتصاد المتعب”.
ويوضح اليامي أن المملكة “ربما تتريث لاكتمال محاور معينة في العلاقة، أو رغبة بأن تتقدم تركيا بمزيد من الإشارات الإيجابية ولن نقول التنازلات”.
وإن تم خلال المرحلة المقبلة سيكون لقاء إردوغان بولي عهد المملكة “مهما للقيادة التركية التي تريد تحقيق إنجاز في استعادة العلاقات على أعلى مستوى مع السعودية”، بحسب اليامي.
ويشير: “خلال زيارة إردوغان ومحمد بن سلمان للدوحة أعتقد أن القيادة السعودية أقنعت الدوحة بأن الوقت لم يحن بعد لإطلاق مصالحة تركية سعودية، ولكن في أوساط كثيرة يعتقد أن هذا اللقاء وعودة العلاقات لن تستغرق كثير من الوقت”.
هل تنجح قطر؟
على مدى السنوات الماضية دخلت قطر في دور “الوسيط” بعدة ملفات، كان آخرها الوساطة المتعلقة بملف أفغانستان، إلى جانب أخرى تتعلق بفلسطين.
وفي تصريحات له في سبتمبر الماضي، قال وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إن “بلاده شريك موثوق به في تحقيق السلام في المنطقة”، معتبرا أن “قطر لعبت دور الوسيط النزيه بين مختلف أطراف النزاعات”.
وبشأن الدور الحالي في العلاقة بين السعودية وقطر، يقول الأكاديمي القطري أستاذ العلوم السياسية، علي الهيل، إن “الدوحة حريصة على إنجاز التقارب بين تركيا والسعودية، لأن الانسحاب الأميركي ترك فراغا كبيرا في الخليج العربي وفي الشرق الأوسط”.
ويضيف الهيل لموقع “الحرة”: أعتقد أن زيارة محمد بن سلمان للدوحة تمت مناقشة هذا الأمر (إعادة العلاقات مع تركيا). أعتقد أيضا أن الأمر سيتم إنجازه قريبا في إطار التقارب التركي السعودي”.
وبوجهة نظره حول عما إذا كانت ستنجح الدوحة في هذه الوساطة، يرى الأكاديمي القطري أن “احتمالات النجاح كبيرة، خاصة أن وزير التجارة السعودي كان في تركيا قبل أسابيع، ومهد لاستثمارات ضخمة”.
ويوضح الهيل أن “السياسة فيها تقاطع مصالح”، مرجحا أن “تتخلى تركيا عن قضية خاشقجي، وفي المقابل ستستثمر الرياض بأموال ضخمة كما فعلت الإمارات”.
وتصاعدت حدة التوترات بين الرياض وأنقرة، بعد اغتيال خاشقجي، يوم 2 أكتوبر 2018، والموقف التركي الحازم المطالب بمحاكمة المسؤولين عن اغتياله.
لكن في هذا الملف كانت أنقرة قد أبدت انعطافه غير مسبوقة فيه، وفي تغير ملحوظ في لهجتها، رحب المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، ولأول مرة، بالمحاكمة التي أجرتها السعودية، والتي قضت العام الماضي بسجن 8 متهمين بقتل خاشقجي بين 7 سنوات و20 عاما.
وأضاف كالين لرويترز، أواخر أبريل الماضي، أن “لديهم محكمة أجرت محاكمات. اتخذوا قرارا، وبالتالي فنحن نحترم ذلك القرار”، كما دعا الرياض في سياق حديثه إلى إنهاء “المقاطعة”.
بدوره يقول الهيل: “إن كانت زيارة وزير التجارة السعودي إلى تركيا كسر بعضا من الجمود، فإن حظ قطر من النجاح في هذا المجال سيكون كبيرا”.
واعتبر أنه “وبعد الانسحاب الأميركي، لا بد من دول الخليج أن تضع أوراقها مع تركيا. الجمود انكسر بين تركيا والإمارات والآن بقي أن يكسر بين تركيا والسعودية بشكل كامل”.