أعياد لبنان.. “الحبش” بالدولار وبابا نويل يلفظ أنفاسه الأخيرة

في حي كرم الزيتون في منطقة الأشرفية اللبنانية، تعيش عائلة مارينا عبد المسيح في منزل يفتقد إلى أدنى مقومات الحياة، تحلم بأبسط الأمور وتصطدم بالواقع المرير، لا عيد سيمر من قربها هذا العام، لا تحضيرات ولا احتفالات، إذ كيف السبيل إلى ذلك ولا مال يكفي لشراء ربطة خبز!

الوالدة المفجوعة تحدثت عن عجزها عن تلبية طلبات ابنتيها، حالها كحال عائلات أخرى شرحت لموقع “الحرة” كيف ستحل الأعياد عليها وجيوبها خاوية.




يطل عيد الميلاد على اللبنانيين وسط أزمة اقتصادية حادة عصفت ببلدهم منذ عامين، حيث تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية لمستويات لم يشهد لها مثيلاً منذ عقود.

منذ 2019، فقدت الليرة 90 في المئة من قيمتها بعدما تخطى الدولار الواحد عتبة الـ26 ألف، ما انعكس ارتفاعاً نارياً على أسعار السلع، في وقت انخفض الحد الأدنى للأجور من 450 دولار إلى 25 دولار.

توصلت دراسة أعدتها خدمة تحويل الأموال “WorldRemit” شملت بلداناً عدة لتحديد الإنفاق الحقيقي خلال الميلاد في 14 دولة، إلى أن “الأسر اللبنانية هي ثالث أكثر المتضررين من التفاوت بين دخل الأسرة وتكاليف الأعياد، إذ تنفق 207 في المئة من دخلها الشهري و17 في المئة من دخلها السنوي على موسم الأعياد”، لكن الكثير من العائلات لن تتمكن من شراء أبسط حاجيات العيد، فالدخل محدود جداً، هذا إذا لم تكن البطالة أصابت رب الأسرة.

معدلات الفقر ارتفعت وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان
معدلات الفقر ارتفعت وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية في لبنان

حرمان بلا حدود

حرمت الظروف الاقتصادية عائلة مارينا من كل شيء، هي التي لا تستطيع شراء الأساسيات فكيف بالكماليات، ابنتاها تشتهيان اللحم ومنذ ثمانية أشهر لم تتمكن من شراء أوقية لهما، وقالت: “يبلغ ثمن كيلو اللحم 130 ألف ليرة والدجاج 40 ألف ليرة”. وبعد أن أطلعناها أن الأسعار وصلت الآن إلى 250 ألف ليرة للحم و100 ألف للدجاج، ضحكت بقهر معلقة “لم أقصد القصاب (الجزار) منذ مدة طويلة”.

يقتصر طبخ مارينا اليومي على الحبوب والمعكرونة، والفطور على الزعتر والخبز، فكيف لها أن تحضّر سفرة العيد؟ وتقول: “لا سيما رمزها الأساسي وهو الديك الرومي (الحبش)، سعره كما هو معروف بالدولار كونه مستوردا، وبطبيعة الحال لا هدايا ولا ملابس، بابا نويل لفظ أنفاسه بالنسبة لنا بعدما طعنته الأزمات في مقتلٍ ومعه أحلام الناس”!

لا زحمة في المحال التجارية، نتنقل في الشوارع الصامتة وصولاً إلى سن الفيل، حيث نهش الفقر منزل عائلة العسكري في الجيش اللبناني فريدي، هو الذي كتبت عليه الظروف أن يكون معيل والدته وشقيقته (من ذوي الاحتياجات الخاصة)، حتى الطعام بات تأمينه من خلال راتبه أمراً مستحيلاً، ولولا الجمعيات لكانوا ماتوا جوعاً كما قال لموقع “الحرة”.

مع اقتراب موسم الأعياد ليس بامكان عائلة فريدي إقامة أي من التحضيرات، حيث شرح بغصة وضعاً لم يعد يحتمل: “راتبي مليون و350 ألف ليرة أي ما يعادل حوالي 50 دولار، لا يكفيني بدل نقل، أحياناً كثيرة استيقظ باكراً أتوجه سيراً على الأقدام إلى مركز خدمتي، يستغرق الأمر نحو ساعة ونصف الساعة، وأحياناً أخرى يمر أحد الضباط لإيصالي بطريقه شفقة عليّ”.

بدل إيجار منزل فريدي 700 ألف ليرة، وتساءل “من أين أجلب المال لشراء الهدايا وأطباق سفرة عيد الميلاد، لا سيما اللحوم والجبن والأرز بالدجاج الذي يحتاج هو الآخر إلى مكسرات لم تعد بمتناول الفقراء، سأحاول تناسي ما اعتدنا عليه في السنوات الماضية وسأصلي لله أن تكون السنة القادمة أفضل من الحضيض الذي نحن في الآن”.

قبل أشهر باع فريدي هاتفه لتسديد فاتورة مولد الكهرباء قبل إيقافه نهائياً، جاره حزن على حاله، سمح له بمد سلك كهربائي لإضاءة غرفة الجلوس،  يذكر الشاب الثلاثيني طوال حديثه شقيقته المريضة، التي تحتاج إلى حكيم نفسي كونها مصابة بالاكتئاب، يومياً تستيقظ ليلاً وتصرخ لأسباب لا يعلمونها، وليس بمقدوره دفع كشفية الطبيب، إذ بالكاد يستطيع تأمين أدويتها من الجمعيات كون وزارة الشؤون الاجتماعية كما قال: “غائبة عن احتياجاتها”.

من النعيم إلى الجحيم

كذلك تجد مارينا صعوبة في مواجهة الواقع، قائلة: “زوجي حارس أمن راتبه مليون و100 ألف ليرة، لا يكفي فاتورة المولد التي بلغت الشهر الماضي مليون و400 ألف ليرة، فكيف أضيف عليها 500 ألف لمالك البيت”؟

وشددت “لو أن ابنتيّ لا تحتاجان الكهرباء للدراسة أحياناً أونلاين، لكنت فضلت العتمة على التفكير طوال الشهر بكيفية تأمين المبلغ”.

وتطرقت مارينا إلى حادثة حصلت معها قبل يومين: “قصدت وابنتي محل بيع ملابس لشراء سروال وكنزة لها، سعرهما 220 ألف ليرة، كنت أعلم أنه ليس بمقدوري ذلك لكن أردت إيهامها أن لدي النية بتحقيق ما تحلم به، يحز في قلبي أني أقف عاجزة أمامها وشقيقتها وأحزن عندما لا تتفهمان ما نمر به”.

ستحل الأعياد على مارينا وفريدي من دون أي مظاهر احتفالية، حتى شجرة الميلاد لن تزين منزلهما هذا العام، وقال فريدي: “أرخص شجرة سعرها مليون ونصف المليون ليرة، أي أنها تفوق قيمة راتبي، وحتى لو حصلت عليها كيف لها أن تنتصر على كل الحزن الذي يعتري جدران المنزل وكل شبر فيه؟”

أما مارينا فعلّقت “لأتمكن أولاً من شراء الفواكه التي أستحليها منذ مدة، أو أشتري سريرين لابنتي اللتين تنامان على فرشة موضوعة أرضاً، أو حتى سجادة تقيهما برد الشتاء أصبح صعبة المنال”.

وختمت متمنية “لو أن الأيام الماضية تعود وأتمكن من تحضير سفرة العيد، مشاو وتبولة ورز بلحم وغيرها من المأكولات، كنا في النعيم والآن في الجحيم”.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية دفع إلى الاقتصار على مقومات الحياة الأساسية
ارتفاع أسعار المواد الغذائية دفع إلى الاقتصار على مقومات الحياة الأساسية

مرّ الحياة وعلقمها

قست الحياة منذ زمن على عائلة لونا عاقوري، أذاقتها مرها وعلقمها، بعدما انفصلت عن زوجها لتجد نفسها مجبرة على تأمين احتياجات ثلاثة أبناء، انتظرت بفارغ الصبر أن يكبروا ويصبحوا عكازها، وقبل أن تصل إلى ما تصبو إليه انهارت الأوضاع في لبنان، لتزيد ثقلاً على كاهلها.

وهي المسؤولة كذلك عن والدتها سلوى، العجوز الثمانينية التي كانت ممدة على سريرها تأكل (قرص فلافل) عندما قصدناها داخل غرفة صغيرة جداً هي كل منزلها في منطقة برج حمود.

لونا قالت: “أعمل براتب لا يصل إلى المليون ليرة، من خلاله عليّ مواجهة هذه الظروف الصعبة، لذلك لن نتمكن من استقبال العيد هذا العام، فحتى قالب الحلوى (بوش دو نويل) لا أعلم كم سيبلغ ثمنه، وإذا أردت استبداله بالشوكولا  لن يكون السعر أوفر حيث وصل ثمن الكيلو منه إلى 500 ألف ليرة، أما تبادل الهدايا والورود مع الأقارب فألغيته من جدول مصاريفي”.

العيد بالنسبة لسلوى له شروط مختلفة شرحتها لموقع “الحرة”، قائلة: “عندما لا أفكر فيما إن كنت سأتمكن من الاستمرار باستئجار ماكينة الأوكسجين التي من خلالها لا زلت أتنفس”، إذ حين كان الدولار بـ1500 ليرة كان بدل إيجارها 50 دولار، وتضيف “أما الآن فيتوجب عليّ دفع 300 ألف ليرة، وفاتورة المولد التي تختلف من شهر إلى آخر وإيجار المنزل 200 ألف ليرة”.

لدى العجوز الثمانينية شابان بالكاد يمكنهما “تأمين قوت عائلتهما، أستند على ابنتي، لونا، مادياً ومعنوياً التي تقصدني يومياً لتجلب لي الطعام وتنظف المنزل قبل أن تغادرني للاعتناء بأولادها”.

لم يمر على سلوى مثل هذه الأيام، هي التي انفصلت عن زوجها عندما كانوا أولادها صغاراً، عملت في الخياطة لإعالتهم، وقالت: “كان ذلك أرحم، فلم أتخيل أن يأتي اليوم الذي لا يمكننا فيه شراء اللحم، أصبحنا نضع المنكهات في الطبخة، أي مهزلة هذه؟ فحتى خلال الحرب الأهلية لم نحرم من أصناف مختلفة من المأكولات! ومع ذلك أحمد الله أن حالي أفضل بكثير من جيراني الذين لا يملك بعضهم ثمن ربطة خبز”.

كل ما تحلم به لونا أن يشفي الله والدتها وتتمكن من استئجار منزل أكبر لتصطحبها للسكن معها، حيث أشارت إلى أن “بيتي صغير، حاله يرثى له، لا يقوى على برد الشتاء ومياه الأمطار وكذلك على حرارة الصيف”.

وفي العيد تتمنى أن “تحصل والدتها على حذاء مصنوع من فرو داخلي لتتمكن من التوجه إلى الكنيسة في ظل الطقس البارد، إذ أن أرخص واحد منه يبلغ ثمنه 400 ألف ليرة وهو مبلغ خيالي بالنسبة لي”.

أما سلوى فقالت: “لم أتمكن من ترك ثروة مادية لأولادي لكني أورثتهم ما هو أهم.. أرشدتهم إلى الطريق المستقيم وهو طريق يصعب على الكثيرين الاستدلال عليه في ظل ما يمر به لبنان”، وختمت “كل ما أتمناه أن تحمل الأيام القادمة الخير للجميع وأن تعود الأعياد مصطحبة الفرح معها لا الغصة إلى قلوب الفقراء”.





الحرة