قد يكون أخطر ما أدّى اليه التراكم الدراماتيكي للأزمات في إطار الانهيار التاريخي الكبير الذي أصاب لبنان منذ عامين ولا يزال متدحرجاً، أنه عمّم الانطباع عن تلاشي النبض المقاوم لدى الغالبية الساحقة من النخب التي غالباً ما يُتكأ عليها في قيادة حركات التغيير المجتمعي والسياسي. حصل هذا واقعياً ويحصل الآن وفي كل لحظة مع إفراغ لبنان من فكرة التألق التي كان عليها ومع تبديل قاتل لطبيعته وحتى نكاد نقول لهويته. لذا، مع كل 12 كانون الأول منذ 16 عاماً وخصوصاً في السنتين الأخيرتين، نظلم الشهيد جبران تويني ونعيده الى حواضرنا الأشدّ بؤساً حتى من ظروف اغتياله المتوحّش، ونروح نسقط كل إرثه الصحافي والفكري والثقافي والسياسي على ما نظن أن جبران ما كان يوماً ليتصور أن لبنان سيبلغ يوماً ما بلغه من مستويات الانهيار والهبوط والدمار الشامل لواقع الدولة والمجتمع كما الحاصل الآن.
والحال أنه مع ارتفاع مستويات الهجرة اللبنانية الجديدة الى مقاييس مفزعة غير مسبوقة في بلد الهجرات التاريخية، لا نتمالك في الذكرى الـ16 لاستشهاد جبران، وبعدما بات من باب العقم المطلق أن نثير مسألة التحقيق المستحيل أو العقيم أو الممنوع أو المجهّل في ملفّ اغتياله، إلا أن نتأسى حتى على دماء زكية أهرقت بذاك القدر من الشغف والإيمان بقضيّة بلد سيادية واستقلالية وتغييرية، لينتهي الأمر بلبنان الى هذا الدرك بأيدي “حرّاس الجمهورية” بعدما صار لبنان حرّاً متحرّراً من الاحتلالات والوصايات.
بل لعلها المأساة الموصوفة بذاتها أن تجد معظم الناس يتحسّرون على “زمن الكرامة” ذاك، قبل 16 عاماً، الذي تعاقبت فيه بسرعة جنونية غير مسبوقة شهادات الشهداء على درب أثمان وأكلاف التحرر والانعتاق في حرب مرعبة، فيما ينتهي لبنان اليوم الى صورة البلد الأشد قتامة أمام العالم بأسره بفعل طبقة ساقطة وارتهان متجدّد وتبعية متوالدة.
ولسنا في معرض مقارنة بين زمن كرامة وزمن انحطاط إلا لأن أقدار اللبنانيين أبت إلا أن تذيقهم مرّ العبور العكسي الى الأسوأ بدل التطور البديهي الى الأفضل. نخال الشهيد جبران تويني، ولا نقول الصحافي أو السياسي فيه، لا يصدّق أن “قسمه الميثاقي” ذاك الذي صار أيقونة أعظم ثورة سيادية استقلالية (ولو كره الناضحون حقداً أسود تسميتها هكذا) في تاريخ لبنان وفاقت بدلالاتها وأثرها وظروفها الثورة الاستقلالية الأولى التأسيسية للجمهورية اللبنانية أهمية… نخاله لا يصدق أن 16 عاماً مرت لكي يتجسّد البعد الميثاقي والمجتمعي لذاك القسم في وحدة معاناة اللبنانيين الآن أكثر من أي وقت مضى ليس من زمن ثورة 14 آذار فحسب، بل حتى منذ ما قبل قيام لبنان الكبير. فأيّ بعد أعمق من لبنانيين، مسلمين ومسيحيين، “باتوا” موحّدين تحت مستويات إفقار ومعاناة وجوع ومرض بنسبة قد تكون الأكبر إطلاقاً بين البلدان المصنفة عالمياً دولاً فاشلة في طور الانهيار. في عز أزمان الازدهار كما في أسوأ حقبات الحروب، لم يتوحّد المسلمون والمسيحيون كما يحصل منذ عامين تحت وطأة أعتى ظلم تاريخي لهذا الشعب الذي تحمّل منذ أكثر من أربعة عقود ما لم يتحمّله شعب في العالم.
كان جبران تويني مهجوساً في تلك اللحظة التي كتب فيها قسمه بوحدة لبنانية لمقاومة الفتنة التي هي الحليف الأكبر والأخطر لكل احتلال ووصاية، فإذا بنا نحيي ذكرى استشهاده “بوحدة قهر” تاريخية.. أيّ قدر هذا؟!