
سركيس نعوم – النهار
بعد بدء #الانهيار الاقتصادي – المالي – النقدي – المصرفي في لبنان، وقبل قطع المملكة العربيّة السعوديّة علاقاتها معه دولةً وقيادات سياسيّة وشعوباً وانضمام شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي إليها وإنْ بنسبٍ مختلفة من الإلتزام، أجرى حكّامه اتصالات مع دولة قطر من أجل مساعدته لاجتياز هذه المحنة الجديدة. وبعد أخذٍ وردّ صدر من عاصمتها الدوحة موقف رسمي يُشير إلى اتخاذ المسؤولين الكبار فيها قراراً بوضع وديعة ماليّة كبيرة في مصرف لبنان تُناهز قيمتها 500 مليون دولار أميركي لمساعدته في معالجة أسباب الانهيار. لكنّ الأسابيع مرّت ثمّ الشهور ولم تصل الوديعة الموعودة، ولم يحصل لبنان الرسمي على إيضاح لسبب ذلك، فقطع أمله فيها وأمله في قطر عموماً. وعندما عاقبت السعوديّة لبنان أخيراً لانحيازه إلى أعدائها في المنطقة الذين تُقاتلهم في اليمن منذ 2015 وهم إيران الإسلاميّة و”حزب الله” اللبناني الذي حوَّل وطنه في رأيها قاعدة سياسيّة – إعلاميّة – تدريبيّة – أمنيّة – علاجيّة للحوثيّين الذين يواجهونها بكفاءة عاليّة في اليمن، وأقنعت شقيقاتها الخليجيّات بالانضمام إليها، ظنَّ اللبنانيّون من سياسيّين ومواطنين أنّ أحداً في الخليج لن يمدَّ يد المساعدة إليهم، وخصوصاً بعدما ساهمت عوامل كثيرة في الأشهر الماضية في إزالة الجفوة بل المقاطعة بين الرياض والدوحة وعواصم خليجيّة عدّة. ذلك أنّ مقاطعة شقيقاتها لها كانت مفاجئة ومؤذية في بدايتها إذ وجدت قطر أنّ طُرق إمدادها بكلِّ ما تحتاج إليه من مواد استهلاكيّة وأساسيّة قد أُقفِلت. طبعاً لم يستسلم حاكمها إذ لجأ إلى تركيا التي يربطه بها تعاطفٌ مهمّ مع “جماعة الاخوان المسلمين”، فلبّت بترحاب كبير وساهمت منتجاتها المتنوِّعة في القضاء على مفاعيل الحصار السعودي لها. لكنّ التعاطف مع “الإخوان” لم يكُن السبب الوحيد أو الأوَّل للتعاطف التركي – القطري. فالرئيس أردوغان له طموحات إقليميّة واسعة تشمل الخليج، وبادر على الفور إلى ترجمتها مُتذرِّعاً برغبته في حماية قطر من أيِّ اعتداء عسكريٍّ سعوديٍّ مُحتمل، فأقام قاعدة عسكريّة على أرضها وربّما اثنتين اعتبرهما كثيرون “مسمار جحا” الذي يُمكِّنه من أن تكون له كلمةٌ أو ربّما دورٌ في الخليج. طبعاً لا يُمكن مقارنة القاعدة العسكريّة التركيّة أو القاعدتين بالقاعدة العسكريّة الأميركيّة الكبيرة والمُتطوّرة جدّاً الموجودة على أرضها، كما لا يُمكن دفع عسكر تركيا وأميركا إلى الاصطدام، إذ إنّ بلديهما حليفان من زمان وعضوان في حلف شمال الأطلسي رغم الاختلافات الموسميّة بينهما الناجمة عن طموحات أردوغان وعن شخصيّته الاستفزازيّة. وطبعاً أيضاً لم تكتفِ قطر بمساعدة تركيا، إذ لجأت إلى إيران الإسلاميّة عدوّة السعوديّة التي تجاوبت معها ومدّتها بكلّ ما تحتاج إليه من مواد غذائية واستهلاكيّة. وبدا في حينه أنّها حظيت وهي المَشْيَخة الصغيرة جغرافيّاً وديموغرافيّاً والهائلة الثروة غازيّاً ونفطيّاً بحماية من دولة تعتبرها المملكة خطراً عليها منذ تأسيس النظام الإسلامي فيها عام 1979، كما تعتبر تركيا جرّاء احتضانها “الاخوان” الذين يُشكِّلون خطراً كبيراً عليها أيضاً.
ما الذي دفع دولة قطر رغم انسجامها مع الموقف السعودي السلبي من لبنان إلى إظهار استعدادٍ للنظر في مشكلاته ولمساعدته، لكن شرط أن يُساعد نفسه بعودةٍ ما إلى اعتماد سياسة النأي بالنفس وعدم الانحياز التام إلى أعداء المملكة، أو بالأحرى عدم سماحه لأعدائها على أرضه من لبنانيّين وغير لبنانيّين بإلحاق أذًى بالغ فيها؟ الجواب عن هذا السؤال سهلٌ إلى حدٍّ ما. فمصالحة الدوحة والرياض لم تُعِد قطر دولةً تدور في فلك السعوديّة. فالأخيرة كانت في حاجة إليها مثل الأولى. وفي وضع كهذا لا يُمكن توقُّع تطابق في مواقف الدولتين بل تعاون صادق لتخفيف الأذى عن بعضهما. ما يجعل الموقف القطري طبيعيّاً أو غير استثنائي هو إظهار دولة #الإمارات العربيّة المتّحدة تعاطفاً ليس مع لبنان الدولة أو “الدول الثلاث” وإنّما مع شعبه أو شعوبه بتأكيدها أخيراً أنّ تنقُّل اللبنانيّين بين أبو ظبي ودبي من جهة وبيروت من جهة أخرى سيبقى مُستمرّاً. ودولة الكويت لا تقلُّ عن قطر والإمارات رغبة في مساعدة لبنان، لكنّها وجدت نفسها مضطرَّة إلى اتّخاذ إجراءات قانونيّة جديّة جرّاء تاريخٍ من استخدام أرضها والتنوُّع المذهبي لشعبها من أجل الإضرار بها أو جعلها قاعدة لتحرُّك موالٍ لإيران يستهدف أعداءها في الخليج. لكنّ المعلومات المتوافرة عن الدوحة لا تُشير إلى أنّ دعوة رئيس جمهوريّة لبنان ميشال عون إلى زيارتها قبل أيّام للاشتراك في افتتاح دورة كأس العرب لكرة القدم كانت لتطييب خاطره فقط، بل هي تعكس عودة الأحلام القطريّة القديمة بلعب أدوارٍ صعبة ومهمّة في لبنان كما خارجه، تماماً مثلما فعلت عام 2008 عندما رعَت اجتماع الأفرقاء اللبنانيّين المختلفين على كل شيء، بل المُتعادين، في عاصمتها الدوحة، وعندما نجح حاكمها في حينه الشيخ حمد بن خليفة والد حاكمها الحالي في رعاية تسوية بينهم سهَّلت انتخاب رئيس جمهوريّة للبنان وكان العماد ميشال سليمان، وأضافت قاعدة أو أكثر إلى قواعد تشكيل الحكومات في لبنان. كما أنّها أخرجت أنصار أحد المُعسكرين اللبنانيّين المُتناحرين من وسط العاصمة بعدما احتلّوها أشهراً عدّة. هذه التجربة القطريّة الناجحة أثَّرت سلباً على الوضع اللبناني في السنوات اللاحقة. أمّا السبب الذي يدفع إلى عودة قطر مُجدّداً للاهتمام بلبنان فهو رؤيتها أنّ الإمارات بدأت تُعدُّ لدورٍ لها فيه ينطلق من مساعدته لحلّ مشكلة ترسيم حدوده البحريّة مع إسرائيل، الأمر الذي يُمكّنه من استثمار الكميّات الضخمة من النفط والغاز المتوافرة في تلك المنطقة من أجل معالجة أوضاعه المُتردّية على كلّ صعيد. ما شجّعها على هذا الأمر “التطبيع” الذي أقامته مع إسرائيل بل السلام. وهذه الأخيرة هي التي تُسهِّل الترسيم أو تُعقِّده، علماً أنّ لـ”حزب الله” وإيران استطراداً ثمّ حكومة لبنان دوراً مهمّاً في التسهيل كما في التعقيد. لكنّ الاختلاف بين تحرُّك الدوحة وأبو ظبي هو أنّ طموح الأولى يتجاوز ترسيم الحدود إلى مساعدة اللبنانيّين على حلّ أزماتهم الداخليّة السياسيّة – الوطنيّة، مثلما فعلت عام 2008. يدفعها إلى ذلك اقتناعها بأنّ لبنان صار في حاجة إلى نظام جديد وصيغة جديدة بعدما قضى اللبنانيّون على اتفاق الطائف وعلى صيغة 1943، وبعدما أساؤوا استخدام اتفاق الدوحة، ونجاح الأخير في المساعدة على ذلك بالتعاون مع الآخرين قد يُعزِّز طبعاً موقعها ليس في لبنان فقط بل في المنطقة كلّها. وهي تعتمد في ذلك على عاملين، الأوّل علاقتها الممتازة مع تركيا أردوغان، والثاني خطوط الاتصال المفتوحة بينها وبين إسرائيل من دون أن تتّخذ طابعاً رسميّاً ومع إيران في وقت واحد. هذا فضلاً عن علاقاتها الممتازة بأميركا.
أيٌّ من الدولتين الخليجيتين الشقيقتين سيُحالفها النجاح؟ هذا سؤال لا جواب عنه عند أحد في هذه المرحلة على الأقل.