أُدخلَ الرئيس الأميركي جو بايدن المستشفى لفحوص تتطلّب بعض التخدير، فسلّم نائبته الصلاحيات الرئاسية كاملة، لأنّ الدستور يحظر الفراغ لحظة واحدة. من هنا مسارعة رئيس الجمهورية في ذكرى الاستقلال إلى القول إنّه لن يسلّم البلاد إلى الفراغ. في هذه الدولة المفعمة بعطر الدساتير وفوح المواثيق، يمكن تقبّل أيّ شيء، إلّا الفراغ. دولة الامتلاء والملء. وما من أحد يشكّ لحظة في كلام الرئيس، القِسم الأول منه، بأنّه لن يسلّم الرئاسة. لن يوقّع مراسيم القضاء. لن يوقّع الانتخابات، ولا أحد في الكون يأخذ توقيعه. المشكلة هنا أنّ تَسَلُّمَ الرئاسة من صلاحياته، أمّا تسليمها فصلاحية الدستور، كما في سائر الجمهوريات.
وما هي مشكلة الفراغ في أيّ حال؟ لقد ثبت في أحيان كثيرة، أنّه الحلّ، فيما الملء هو المشكل. وهذا ما حدث في نهايات رئاسية كثيرة. عندما يزداد الرجل اقتناعاً بأنّه أهمّ من البلد، وأعلى من الدولة، وليس على الشعب سوى الاختيار بين الهجرة وجهنّم.
خلال الحرب شاع في العالم مصطلح “اللبننة” بعد “القبرصة” و”البلقنة”. وكانت اللبننة تعني يومها الانقسام والخراب وتحويل الجيش الوطني إلى فرقة عسكرية خاصّة، وتشكيل أول وآخر حكومة من دون مسلمين، مؤلّفة من ثلاثة ضبّاط. آنذاك أجريتُ في أوتاوا لقاءً مع رئيس وزراء كندا وأهمّ رجل في تاريخها، بيار إليوت ترودو. وقد سألته عن مسألة مقاطعة كيبك، فأجاب، راسماً تلك الابتسامة العبقرية: “لا تهتمّ. لن نسمح بلبننة كندا”. يرأس حكومة كندا الآن ابنه الثاني، جاستن. لم يجئ بعده مباشرة. لكنّه “تسلَّم” من بعده أحد أرقى النُظُم الجمهورية في العالم. تسلّمها من الشعب. تعلَّم في منزل والده، أو تربّى، على أنّ السياسي يجب أن يكون أولاً رجل وطن، ثمّ دولة، ثمّ سياسة. وتعلّم أنّ الجمهوريات هي التي تسلّم نفسها، لأنّها ليست ملكاً لأحد ولا إرثاً ولا إقطاعاً. وهذا خصوصاً ما كان يبشّر به الرئيس ميشال عون في مرحلة طانيوس شاهين.
ما من شك في أنّ الأزمات التي نمرّ بها “مصطنعة” كما يصفها رئيس الجمهورية ويقصد طبعاً أنّها مفتعلة، لأنّها في حجم الجريمة. وعندما تتجمّع الأزمات إلى هذا العدد وهذه الأحجام يصبح لزاماً تسميتها بالكوارث. انفجار 4 آب كان كارثة كبرى. والتعامل معه كان سياسة كارثية، والعنبر الرقم 12 في المرفأ هو المفاعل الرقم 4 في كارثة تشرنوبيل. والذي ضخّم الأثر الكارثي في تشرنوبيل هو الكذب ومحاولة إخفاء الخبر عن الناس إلى أن بدأت أجسامهم تهترئ وأجساد رجال الإنقاذ تتفتّت و… الخراف تنفق وصولاً إلى تركيا.
رأى الكثيرون من المؤرّخين أنّ انفجار تشرنوبيل كان السبب الأهم في انهيار الاتحاد السوفياتي. فقد كشف مدى الفساد والإهمال والتخلّف العلمي في بناء المفاعل. لكنّ كلّ التحقيقات انتهت بأحكام بسيطة بالسجن على عدد قليل من الموظفين. أمّا ميخائيل غورباتشوف فقطع فوراً زيارة كان يقوم بها للخارج لكي يتفقد المصابين. هكذا فعل من قبله حسني مبارك عندما ضرب زلزال قويّ القاهرة. لا أهمّية أكثر أهمّية من حياة أهل العاصمة، أو سائر المناطق.
كنّا نأمل أن نتعلم من دولة كبرى مثل روسيا. هل تعرف ماذا حدث؟ أبدعت موسكو العد من كلّ حدود بأنّها تعلّمت منّا. أقوى وزير خارجية في العالم منذ هنري كيسنجر، الرفيق لافروف، استقبل ندّه عبد الله بو حبيب وسلّمه، شخصياً، صور تشرنوبيلنا كما التقطتها كاميرا “لايكا” الحديثة.
هل يُعقل هذا؟ وزير خارجية دولة كاملة السيادة يعامله لافروف كأنّه مندوب DHL؟ خذ هذا الشريط وضعه في خزنتك، ومن دون تحديد، خزنة قصر بسترس، أو خزنة رومية؟ زيادة في البروتوكول والمراسم والأصول الديبلوماسية والعلاقات الدولية، قال وزيرنا إنه لن يترك لرئيس الجمهورية أن يطّلع على هديّة لافروف. فاتته في ذلك ثلاثة أمور:
الأول، لماذا جاء من موسكو مباشرة إلى بعبدا، لا إلى رئيسه المباشر في السرايا؟
ثانياً، هل هو من يقرّر من يحق له أن يطَّلع ومن لا يطَّلع؟
ثالثاً، هل كان في إمكانه أن يلفت مضيفه في موسكو، إلى أنّه حتى الدول المنتهية تفضّل الحرص على الحدّ الأدنى من المظاهر.
ذهبت العدوى في الاتّجاه المعاكس. وثمّة من أفسد علينا الفرحة ونحن “نفرجي” أميركا حسن العلاقة مع موسكو، فيما هي مصرّة على معاقبة حلم الجمهورية. نحن الدولة التي يحمل وزير خارجيتها من وزير خارجية الكرملين صندوقاً مرمَّزاً مختوماً بالشمع الأحمر، ثمّ نكتشف أنّ الشريط سلّمه الرجل الخطأ إلى الرجل الخطأ، وكان بالإمكان إرساله بالبريد الديبلوماسي. أعمانا القضاء. “على ردّ، على مخمَّس مردود، على المادّة ستة على سبعة على 44”. لذلك لم يعد أحد يتذكّر أنّ الشريط الذي نعرف من صوَّره ومن أنتجه، ولا نعرف من أخرجه، لا يُرسل من وزارة عدل إلى وزارة عدل، بل في خوشبوشية خفيفة الظلّ، يُسلّم أمانة شخصية إلى وزير الخارجية لكي يضعه في خزنته. وعملاً بالدساتير المعمول بها في #لبنان، والآن في روسيا، يحظر الوزير القويّ على الرئيس القويّ أن يطّلع على تشرنوبيل الشعب القويّ. 70% منه تحت خطّ الفقر، والباقي على خطّ الاستواء.
تتبنّى الجماعات سياسة الكوارث عندما يسيطر في صفوفها انعدام الكفاءات والوصوليون المعدومو المواهب والمصفقون المعدومو الأخلاق. قبل أن يُهزم نابوليون في واترلو، هزمه تولستوي في روسيا عندما قال إنّ حملته “مناقضة للعقل البشري والطبيعة البشرية”. بدل أن يفيد العسكري الصغير أدولف هتلر من تجربة العسكري الكبير، كرّرها وكأنّه يكزّها كزّاً. الذي لا يثق بحركة التاريخ يتحوّل تاريخه كلّه إلى كوارث ومجموعة انتحارات، تُكلّل في النهاية بالنجاح. ويُحتفى بها، وبضحاياها، وتُرسل جثث الجنود إلى أهاليهم وعلى صدورهم ما يليق من الأوسمة.
لن يدلّنا لافروف على طريق التحقيق. سوف يرمي لنا الأدلّة ويترك لنا الحلّ والتحليل. وإلّا اعتُبرت مساهمته تدخّلاً خارجياً. وهذا ما لا يريده أحد. جبران باسيل قال في بلاد البترون إنّ روسيا لم تتدخّل في شؤون العرب. هل يعرف أحد ماذا طلب منها في زيارته العائلية برفقة الجنرال؟ أو هل يعتبر الوجود الروسي في سوريا أهل بيت ببعضهم وليس تدخّلاً خارجياً؟
يجب المسارعة إلى القول إنّ تاريخ الدعم الروسي للعرب وقضاياهم القومية لا يكافأ. وقد قوبل إمّا بالجحود مثل أنور السادات أو بالتعامي. واستثمر الاتّحاد السوفياتي أموالاً وأسلحة ومساعدات أخرى، قوبلت بالنكران. المسألة هنا أن يتحوّل كلّ ذلك التاريخ إلى شهادة حسن سلوك في نضال سلعاتا.
والمشكلة أن الأكثرية الساحقة من الناس في العتم والقهر والفقر وآثار تشرنوبيل، فيما الهمّ الوحيد هو الهمّ الأوحد. أمضى لبنان نصف قرن مع نضال الجنرال عون في سبيل الرئاسة، ولمّا وصل بدأ الحملة للخلافة قبل أيّ شيء آخر. وأعلن وريثه “متقدّماً” في معركة لم تكن بعد في خاطر أحد. والآن يحذرنا رئيس الجمهورية من الفراغ وكأنّما السنوات الماضية كانت السنوات السمان. كلّ قضيّة في لبنان، قضيّة شخصية. وأحياناً عائلية. ومن المؤسف أن يحوّل الجنرال، العام الأخير، إلى عام قتال ومعارك وملء فراغ وتدمير اتفاق الطائف، الذي أخرج لبنان من المدافع والموت والتوحّش وحروب الطوائف.
إنّ لبنان اليوم ليس في حاجة إلى من يحميه من الفراغ. فالسنوات الأخيرة أمضيَت في صنعه. ضرب الناس والطوائف ومطاردة الزعامات والعجز عن وقف التدهور الاقتصادي المميت وعروض مؤسفة للرحلات البحرية من أجل النفط والغاز، فيما كلّ المطلوب تنكة بنزين وأنبوبة غاز وموتور كهرباء. من شاهد منكم فيلم “الفهد” لفيسكونتي، لا يزال يذكر أهمّ جملة في الحوار، عن مسألة الفراغ “من أجل أن يبقى كلّ شيء، يجب تغيير الجميع”، أو على الأقلّ الخجل من كلمات مثل استقلال واحتفال.
كفّوا عن إهانة هذا الشعب المنكوب. استحوا من حزنه. على الأقلّ لا تطالبوه بالاحتفال وهو يحمل نعشه.