لبنان وصندوق النقد: وفدٌ بمنازل كثيرة – غسان العياش – النهار

ذكرنا سابقا أن أهمّية الاتّفاق مع #صندوق النقد الدولي لا تنحصر بتوفير جزء من حاجات لبنان بالعملات الأجنبية وحسب، ولا بفتح أبواب التمويل من الدول الراغبة بدعم لبنان. الأهمّ من ذلك هو إجبار الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان على الالتزام ببرنامج حقيقي للإصلاح، بعد تلكّؤ دام قرابة ثلاثة قرون.

إن الإصلاح في لبنان عملية طويلة ومتشعّبة ومتعدّدة الهدف. فأي برنامج، مع صندوق النقد أو بدونه، يجب أن يهدف إلى هيكلة الدين العام، وتجديد دور القطاع المصرفي، وإصلاح المالية العامّة، بإيراداتها ونفقاتها، وتوحيد سعر الصرف، وضمان استقرار الليرة اللبنانية من خلال سياسة نقدية جديدة بآفاق جديدة. والغاية البعيدة لهذه العملية الشاملة هي إعادة الحياة إلى الاقتصاد اللبناني لكي يخرج من أزمته القاتلة، فيستعيد النموّ ويكبح الفقر ويقلّص البطالة.




ولكي تنطلق هذه العملية بمساعدة صندوق النقد الدولي لا تكفي النوايا الحسنة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بل على الحكومة أن تتخطّى تحدّيات وعقبات، يعرفها لبنان بحكم تجاربه القديمة والحديثة.

أوّل التحدّيات هو تحدّي الوقت. فليس لدى الحكومة إلا أسابيع معدودة لكي تحضّر مشروعها وتعرضه على صندوق النقد. ومع اقتراب الانتخابات النيابية سيفقد الصندوق اندفاعه لعقد اتفاق مع لبنان، لأن من تقاليده غير المعلنة عدم الاتّفاق مع سلطة قريبة الزوال. وهو يفضّل انتظار حكومة ما بعد الانتخابات القادرة على التعهّد بالتزامات متوسّطة وطويلة الأجل.

من أهمّ التحدّيات أيضا توحيد كلمة لبنان في مفاوضاته مع الصندوق. خلال المفاوضات السابقة مع حكومة الرئيس حسّان دياب، وجد صندوق النقد الدولي نفسه أمام وفود لبنانية متعدّدة وتصوّرات مبعثرة ومتناقضة. كانت أمامه الحكومة، وبيدها “خطّة لازار”، ولجنة المال النيابية ومصرف لبنان وجمعية المصارف، ومعها الهيئات الاقتصادية.

الحكومة الجديدة قرّرت في اجتماعها الأخير توحيد الوفود في وفد لبناني موحّد. لكنّها ضمّت إلى هذا الوفد الأطراف التي كانت في المفاوضات السابقة تتقاتل حول تشخيصها للأزمة والحلول. فهل يضمن رئيس الحكومة أن تتوحّد كلمة هذه الأطراف وتصوّرها للحلول قبل أن تبدأ مفاوضاتها مع صندوق النقد؟ وهل يضمن ألا تنتقل المتاريس بين الوفود السابقة إلى متاريس في قلب الوفد الموحد؟

يرأس وفد لبنان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، وهو صاحب خبرة اقتصادية طويلة في صندوق النقد الدولي وشركة ماكنزي وبنك الكويت الوطني، قبل أن يصبح الأمين العام لهيئة الأسواق المالية في لبنان. ورغم خبرته الطويلة، لا نعرف توجّهاته بخصوص الأزمة المالية والمصرفية في لبنان، سوى أنه كان على علاقات سيّئة مع الحاكم رياض سلامة. والحاكم نفسه عضوٌ في الوفد المفاوض الذي يرأسه الشامي، وكان معارضا رئيسيا لـ”خطّة التعافي” التي ساهم في تحضيرها عضوٌ آخر في نفس الوفد هو الخبير الاقتصادي المعروف شربل قرداحي.

أصرّ التيّار الوطني الحرّ، مدعوما برئيس الجمهورية، على أن يتمثل بمستشاريْن في الوفد المفاوض، رغم الطابع التقني لمهمّة الوفد. وهنا يكتمل الغموض، لأن التيّار خلال المفاوضات السابقة لم يفصح عن وجهة نظره حيال “خطة التعافي”. حتى أن المستشار قرداحي كان من أبرز المدافعين عن مشروع الحكومة (لازار)، فيما النائب إبراهيم كنعان كان من أبرز معارضيها، وساهم مع زملائه في لجنة المال والموازنة في احباطها ووقف التفاوض حولها مع صندوق النقد الدولي.
ما هو الوقت الذي يتطلّبه توحيد الأطراف المتناقضة والمختلفة حول تشخيص واحد وأرقام موحّدة بغية تقديم مشروع واحد إلى صندوق النقد.

على ذكر الأرقام، فإن المعطيات التي ارتكزت إليها خطة حكومة دياب أثارت عاصفة في البلاد لأن الأطراف القريبة من مصرف لبنان والمصارف شكّكت في فرضياتها وتقديراتها، خصوصا تقديرات خسائر النظام المالي التي بلغت حسب الخطّة 84 مليار #دولار اقترحت تحميلها لمودعي المصارف ومساهميها فقط.

أيا كانت المواقف من أرقام خطّة التعافي، لا يملك الوفد المفاوض إلا إهمالها وعدم إضاعة الوقت في درسها وتمحيصها. فمنذ ولادة الخطّة تبدّلت المؤشرات والمعطيات بفعل التغيّرات الهائلة، على صعيد موجودات مصرف لبنان بالعملات ومستوى التضخّم وحجم الناتج المحلي والدين العام وموجودات المصارف ومطلوباتها وحجم الكتلة النقدية وخسائر المصرف المركزي. ونشير خصوصا إلى التغييرات الكبيرة في سعر الصرف، الذي قدّرت خطّة لازار أنه لن يتجاوز 3000 ليرة سنة 2024، فوصل إلى مستويات خيالية قبل ثلاثة أعوام من الموعد المشار إليه.