سمير عطا الله

ليلة البحث عن مولدوفا – سمير عطالله – النهار

“اعتقد أننا نصبح اقوياء حقاً عندما لا يعود هناك اصدقاء نلجأ إليهم أو نطلب منهم التوجه الأخلاقي”
موسوليني

استخدم الوجوديون بعد الأربعينات، ونهاية الحرب العالمية الثانية، كلمة “#العبث” في وصف كل حالة تفوق قدرات الإنسان على مواجهة تسارع التفتت والتفكك والإنهيار والاضمحلال. استخدمها سارتر بعدما عجزت مصطلحاته وعباراته الأخرى عن التعبير عمّا سمّاه اندريه مالرو “الحالة البشرية” من خلال عناوينه اليائسة: “الكائن والعدم”، و”القيء”، و”الذباب”، و”الأيدي القذرة”، و”لا مخرج”، وسواها. أما العناوين التي اختارها رفيق تلك المرحلة، البير كامو، فكانت من نوع “الغريب”، و”التمرد”، و”السقوط”.




على رغم محدودية معانيها في اللغة، استُخدمت “العبث” لوصف كل شيء لا جدوى منه. الحماقة المؤذية واللامنطق واللامعقول واللامقبول واللامبَرّر. استُخدمت في وصف الشر المقصود والشر المولود والشر المجاني. في كل شيء لا تفسير له ولا تبرير ولا يؤدّي إلاّ الى الخسارة واللاشيء، وتسلط الهباء والانكسار.

تحوّل المناخ العبثي الى عنوان لكل انواع الخيبات والهزائم امام التفاهة. ظهر هذا الشعور “بالسقوط والرأفة” في اميركا عبر مسرح تنيسي وليامس و”اربعاء الرماد” (تي اس إليوت)، وفي بريطانيا عبر اعمال سيدهم، جورج اورويل، وفي ايطاليا عبر عبقرية السينما و”واقعية” كبار المخرجين.
صار “اللابطل” هو النجم، في الرواية والمسرح والقصيدة. أناس مسحوقون ولا فروسية ولا فرسان. البلجيكي الرائع جاك بريل يغنّي: “دعيني اصبح ظلاً لظلك. يداً ليدك. لا تتركيني”. الفيلسوف برتراند راسل يتأمل الوضع العالمي والخوف من الانفجار الكبير ويعلن مستسلماً: الأفضل ان نكون شيوعيين بدل ميتين Better red than dead .

في الفن والفلسفة والغناء والفكر، كن خائفا والجميع يستسلمون. لم يعد الكسندر بوشكين يموت في مبارزة من اجل شرف زوجته، أغاني آخر الليل في مونمارتر المترع تردد “…اللعنة على المجد”. بعد حرب عالمية كبرى في اوروبا، تريد ان تحيا وأن تنام بلا ازيز طائرات يتمتع هتلر بصوت قنابلها تتساقط فوق عاصمة الامبراطورية.

بماذا تصف كل هذا؟ اختصاراً لضآلة القواميس امام “الحالة البشرية” يسمى “العبث”. وقد حوّله العبقري الاسباني بابلو بيكاسو الى رسوم مكعبة، يكون فيها الرأس مكان القدم، والعين في الجبين، وتكون الاستدارة الطبيعية مكعبة مثل المكواة. شيء معقد غير مفهوم، يعبّر عن النفس البشرية في ذروة ضياعها. التحف التي تركها دافنشي ومايكل انجلو راسمة الملائكة في سقوف الكنائس، صارت السوريالية في قصائد اندريه بروتون، ورسوم ماغريت، الاخّاذة، والجمع بين وزارتيّ الثقافة والزراعة، في #حكومة الدكتور #حسان دياب.

رجل اكاديمي متخصص في خلاصات “سيليكون فالي” يُستدعى من جامعة المستقبل، لإدارة حاضر سوريالي مكعب الرؤوس، يبسط امامه جهنم، ويطلب إليه أن يركّب منها جنّة، وسدود جنّة، وسائر السدود التي ستترك لبنان من دون مياه، ومن دون كهرباء ومن دون ذرة من ذرات الحياء والخجل والذوق.

يرفض اللبنانيون ان يصدقوا اين اصبحوا وأن يتبلغوا إشعاراً بالوصول. وما زالوا يتحدثون عن #الانهيار المقبل، وكأن الحاصل هو البناء المتماسك، والحصن المنيع الذي لا تقوى عليه نيران جهنم.

لاحظ، جنابك، أننا نتحدث عن جهنم كمثل يوميات في مفكرة. كأنها البيت الطبيعي. لاحظ، إذا سمحت، أننا اكثر بلدان العالم كلاماً عن الدستور والميثاقية والتحقيق الجنائي. ننام على ميثاق ونقوم على دستور، وخلال “السييستا” نبحث عن موقع زحل من المشتري وعطارد. مهمة عاجلة قبل العثور على متبرع بالخبز وإعلان الجفاف في سد شبروح، وبالعربي المشبرح، أو “المجروَح”، أو “المشعور”. يا عيب الشوم، كيف ما خلّوكم تكمّلوا سد بسري؟ ولوحة بيكاسو. ونجوم الاعجاز، والإعجاز في حكومة الدكتور دياب.

اشك في ان احداً يلوم حكومة الدكتور دياب. فقد حققت 97% من مشروعاتها، متسلحة بألمعيات لا مثيل لها منذ جورج نقاش وغسان تويني والمهندس ابرهيم عبد العال، وقامات وطنية لا هالة لمثلها منذ بشارة الخوري ورياض الصلح. أما الجمع بين الزراعة والثقافة، فالعبث حزين والسوريالية مضحكة والخاتمة سفر الرؤيا.

صحيح ان #رئاسة الوزراء مغرية. لكن في هذه الاوقات قلّما تعبر بصاحبها موعد التسلم. وقد بلغ العبث والسوريالية في اضطراريات رئيس الحكومة مبالغ تعدت كليهما. فمن اخراج لبنان (صاحب كلنا للوطن) من عزلته الوبائية، رأينا مشهدين من اقاصي العبث. في الأول، يستفيق الرجل فجأة ويستدعي سفراء الدول الكبرى ويفقعهم بهدلة على مسؤوليتهم عن اسوأ واردأ مرحلة في تاريخ لبنان. لكنه لا يترك لنا ان نسمع بماذا ردوا عليه. في المشهد الثاني، أو التالي، the day after ، نرى العزلة الكبرى وقد سقطت في دويّ يشبه 4 آب: من بين جميع سفراء العالم المعتمدين في الجمهورية اللبنانية وملحقاتها، يطلب سفير جمهورية مولدوفا (وينال) موعداً مع رئيس وزراء لبنان.

مسؤولية الدكتور حسان دياب لا. نتيجة الاهتراء المتراكم. نتيجة التكدس في اللامبالاة الاجرامية تجاه الناس والبشر والدولة والكرامة الشخصية والوطنية والقومية والحدود الدنيا من الانسانية. فما هي مسؤولية حسان دياب في ان لا يبقى من يتذكرنا سوى سفير الدولة الوحيدة المغلقة جغرافياً في اوروبا، الدولة التي خرجت من رحم نيكولاي تشاوشيسكو، الزعيم الاشتراكي الذي اعدم قبل انتهاء قصره الجمهوري المؤلف من الف غرفة، والذي قتل في عملية بنائه 3,500 عامل، ويا عمال العالم اتّحدوا. لا احد يستطيع أن يخبىء سروره بتطوير العلاقات مع مولدوفا وصادراتها الوحيدة: نبيذ طيب، مزّ ورخيص، ومعه مازته، حلوة ومتهاودة. ايام الزمن الشيوعي، طبعاً. طمّنونا عنكم.

للمناسبة، يا عزيزي، لك ان تختار كتابك. كتاب لينين لم يدم طويلاً. وكان الرجل متسرعاً في اعلان موت الله وتنصيب نفسه خلفاً. كذلك تسرع موسوليني وهتلر. القذافي اعلن نفسه مكان الجميع. وضع “الكتاب الأخضر” من دون ان يخطر له التذكير بآية واحدة من القرآن. الغى كتب الجغرافيا والتاريخ لكي لا يحلم الليبيون بخارج يسافرون إليه. ليس هناك ديكتاتور ذكي وديكتاتور اقل ذكاء. هناك ديكتاتور اطول أو اقصر حظاً. وجميعهم يقرأون من كتاب نيكولو ماكيافيللي: انا!

إذا اردت #السلطة، كتب السنيور نيكولو، فعليك أن تنتزعها، واطمئن، فالغاية تبرر الوسيلة. “يمكن القول بصورة عامة إن الرجال متقلبون، خبثاء، جبناء، طمّاعون، وغير اوفياء. إنها عملية خداع مستمرة. والإنسان لا يقدم على عمل جيد إلا مضطراً”.

لاحظ جنابك ما حولك. والخيار لك. و”إن لم تستحِ، فافعل ما شئت” كما في الحديث الكريم. الموقف واحد من الوقاحة، في الاسلام أو المسيحية.