سمير عطا الله

لا صوتك ولا وطني – سمير عطالله – النهار

سافرت الاسبوع الماضي الى “بلاد البدو” بادئاً في #دبي، تاركاً خلفي عاصمة الحضارات بالسيارات المتوسلة وقوداً، وبالجمهورية المتوسلة اشارة من بنان صاحب المشرقية وسائر الديار المسيحية، كي يقرر لها ان تعيش من لدن وزيرين مسيحيين، يُسمَّيان أو لا يسمَّيان، كمن يؤلف ولا يؤلفان. سجع.

تُعتبر تسمية الوقائع في عالمنا إضعافاً للمعنويات القومية. منها ذكر #فساد العملة وفساد الخلق وفسوق حديثي النعمة، وربط مصائر الاوطان بشهوات لجاجة الاطفال. في “بالنسبة لبكرا شو” يرسم زياد الرحباني مشهداً لطفل مدلل يستوقف أمه امام واجهة ألعاب ويروح يبكي عالياً: ماما بدّي هيدي!




أو البلد، أو “هيدي”! رسم الرحابنة الآباء طباعنا القابلة للستر، ورسمنا زياد بلا سترة ولا ستر. طفل منزوع يُتنحِر امام واجهة العاب: سواء ملك والداه ثمن الدمية أم لا، فليس من شأنه. هو له ان يشتهي وأن “يُتَمسِح” امام لعبته وأن يلجّ.

عرفتُ دبي يوم كانت صحراء بلا مدينة، ويوم كانت #بيروت مدينة بلا منافسة على مدى الشرقين. دبي، رزقها الله محمد بن راشد. هي، اليوم، جوهرة من جواهر الاقتصاد في العالم. هي تسرح سعيدة على الأرض وتنمو فرحة في السماء. وهي، دبي، تطلق اليوم “الأسبار” إلى المريخ. واسم قاعدته، سعادتك، الخوانيج، اسم لمساقي الجمال، أي “الخوانيق”، والجيم لهجة محلية عند اهل “العويرة”. سلّم على كيب كانافيرال.

لست احاول المقارنة على الاطلاق. فهذا عيب في حق بلدك وأين اصبحت، وعيب في حق بلادهم، ومبروك عليهم، وعلى كل ناجح وحرٍّ في الأرض. ولا تتكرم عليّ بالقول ان ال#لبنانيين ساهموا في إعمار دبي. الهنود، ايضاً ساهموا. النيباليون. المصريون. وجميع هؤلاء لم يبنوا دبي أخرى في بلدانهم. المستقبل يحتاج الى مستقلين. إلى محمد بن سلمان، ومحمد بن راشد، ولي كوان كيو، ومهاتير محمد، وزايد بن سلطان. جميع هؤلاء، “بدو”، بمن فيهم كيو، الذي حوّل سنغافورة من مستنقع ذباب الى جوهرة اممية.

نحن، “حضاريون”. نحن علّمنا اميركا وبريطانيا كيف تعملان من دون موازنة، والآن علينا ان نتعلم كيف نمشي بين الناس بلا شناتين، خام أو كتان.
تركت مطار بيروت خاوياً. رحلتان أو ثلاث. ووصلت الى دبي لأكتشف أنها هزمت الكورونا والركود والحجْر والسياحة وظلت ملتقى الأمم، وأنها أنظف بقعة على الكوكب، وبحرها مثل “بحر الستات” ايام فيلمون وهبي، فيما اصبح بحرنا في المندلون، في البترون، في مركز التواضع والنزاهة على الكرة الأرضية.

المقارنة في مثل هذه الحال من السقوط، اعتداء على العقل وتمادٍ في الحمق الذي اصبح صفة وطنية. لست اقارن. أنا اروي حكاية رحلة من بيروت الى دبي في اول العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. وقاعدة اطلاق “الاسبار” الى المريخ اسمها “الخوانيج”. وفي المساء تبدو دبي مثل معرض للأبراج المضاءة، واعلاها هو ايضاً اعلى برج في العالم. كأنك في هذا المهرجان من الانوار في سلعاتا. سبحانه تعالى.

تعلِّق دبي على جبينها خرزة زرقاء كل يوم وتقوم الى الحياة. ومعها 150 الف لبناني يعملون في الامارات، يعيشون الحياة كما هي الحياة، ويساعدون اهلهم، في بلاد حكومة الفقر والعجز في عالم الأصفار والإنهيار وحقوق المسيحيين، كلها.

مَن هم المسيحيون وما هي المسيحية؟ فلنبدأ بالجواب الأول: ليسوا فرنسيس الأول، ولا البطريرك الراعي، ولا المطران عوده. أما المسيحية فهي الحروب القائمة منذ اربعين عاماً على كل مسيحيّ ذي اعتبار، والبحث في المجاهل عن النكرات والبلادات وخلوّ الكفاءات المطلق. سجع.

يسهل عليك جداً اليوم ان تعثر على مسيحيّ يبحث عن قوته في القمامة، او لا يبحث، لأن الوجبة المجانية تصل إليه، أو تصل إليه مساعدة الأقرباء من دبي. أو من افريقيا. أو من بلاد “الانتشار” التي اصبحت جميعها تخجل بنا. قال لي طبيب من شباب #الهجرة الأخيرة: كنت اتلهف لكي أُسأل من اين انا، الآن ارتعد من السؤال، لشدة ما هو الجواب مخجل.

بماذا أردّ؟ أنا من البلد الذي لا حكومة فيه لأن مار جريس العصر يصر على تسمية وزيرين لا يملكان تنكة بنزين؟ بأي عين يمكن فيروز ان تغنّي اليوم “أنا من لبنان”؟

كتبتُ لك يوم كان الوطن حضناً والغربة قسوة، أن “صوتك وطني”. صار صوتك بلا وطن. والغربة فرج. وخطفت الزمرة معاني الأوطان واللون حتى من ابديات حنجرتك. حاولي ان تسألي الامهات إذا كنَّ يردنَ لأبنائهن العودة الى بلد الوزيرين المسيحيين والرغيف المنهوب.

والرجل الذي يغضب لكرامته من صوت سيدة من ضحايا المرفأ، وما اهتز الكحل في جفونه وهو يشاهد آلاف الناس ينادون بإعفائه مما كلّف به نفسه حتى الآن. حتى مع صوتك، لم تعد الحياة تطاق في صدّه الجهنم. اصغي اليّ جيداً ايتها الايقونة المستحية: عندما يتحول “بلد الشبابيك” الى سجن وزاروب حرامية، تفقد الحياة معانيها، ويصير للصغار قاموس خاص وجاف ومقتضب للتعامل العاجل: لا يستقيم الحنين العذب مع وجبات القمامة. لا يبقى مع الجوع شيء.
سامحيني. لقد “اصبحتُ لا شمسي ولا قمري”. و”لا صوتك ولا وطني”. لا هو الوطن الذي غنيت له، ولا القمر الذي اضئت فيه على الناس. ما ابعد هذه الضحالة عن خصب لبنان.

ألم يعد لشعبكَ حديث آخر؟ لا. لم يعد. حاول أن تتذكر السنوات الخمس الماضية ومن بينها كم يوماً مرَّ من دون ان يتصدر الأخبار: داخلية وخارجية واقليمية. وعبارة “الأخبار” هنا في حاجة الى توضيح سريع: كلام. زيارات. طائرات. وطزطزات على ما كان يقول ملك الضحك، فيلمون وهو المعروف بسبع! وطزطزات، وهي ما تعرف به مواكب السخرة اليوم. وعندما كان فيلمون يشير الى الطزطزات الفارغة التي تتحدى كرامات الناس، لم يكن عددها يزيد على الأربعة أو الخمسة. الأخيرة في التصليح.

منذ ان تعرفت الى الرجل الذي بنى في الرمال إحدى جواهر العمران، وأنا ارى محمد بن راشد يقود سيارته المرسيدس “البوكس” بنفسه. وقد ادرج هذه “الموضة”. وذات يوم التقيت وزير خارجية الإمارات الدكتور #محمد بن زايد في ابو ظبي، فسألني اين عشاؤك؟ قلت في دبي بسبب “لبكة” الإقامة. قال نذهب معاً ونكتشف معاً مطعماً يابانياً جديداً. ووقفت امام الفندق انتظر الموكب، الذي سيرافقنا، ابن زايد وأنا، الى دبي. وكان موكب وزير الخارجية مؤلفاً منه ومن ضيفه الى المطعم الياباني. بعكس بلادكَ، كل شيء حقيقي هنا: الحكم والشعب والعلاقة التاريخية بينهما. تماماً بعكس ما هو الحال في بلاد وزير خارجيتك، ونظراته الى بلاد البدو. جميعنا نعرف ان هذه العجرفة ليست عجرفة شربل وهبي. و”البدو” ايضاً يعرفون. ويعرفون اكثر بكثير مما نعتقد اننا نعرف. مجرد ضحية من ضحاياه شربل وهبي. موظف في دار الآلهة، والآلهة لا تناقش. تغضب ولا ترضى. وتبث النار من افواهها في جميع الاتجاهات. في حق جميع الناس. تغرِّق وتهدد وتنقل الناس من حافة بركان الى آخر. وليمُت الآخرون من أجل ان يحيا مغرداً فوق صدور الجميع.

اعتقد، مع كثيرين، ان الافضل للبنان أن يسلّم هذا الرجل الجمهورية قبل ان تزول ببقاياها. فلتعطَ له مكافأة لكفاءاته وسيرته و”نضاله”. ألم ترَ كيف يتحدث عن النضال ما بين الرابية وباريس. نضال وقداسة ومشرقية وسائر المسيحيين خونة وعملاء. والشيعة الذين يعارضونه والسنّة الذين يفكرون في الاعتراض عليه.
اكاد اقسم أنه يجب تسليم لبنان الى هذا الرجل. نحن جميعاً راحلون لأن هذا وطن لم نعد نتعرف إليه ولا عاد يعترف بنا. هذا وطن يطلب مسيحه من مسيحييه المشرقيين أن يشتموا ويهينوا ويردّوا بالعنف الجسدي. هذا وطنه وليس وطننا. ووطن مواكبه وتابعيه. ولم نعد نطيق حتى سماع فيروز في هذا الذل. لا صوتك ولا وطني. الوطن ليس إهانة.