يشكل اللبنانيون اليوم جزءاً من الضغط الشعبي العالمي الممارس ضد شركة فيس بوك المشغلة لتطبيق واتساب، اعتراضاً على سياساتها الجديدة المنتظر اتباعها، والتي من شأنها المس بخصوصية المستخدمين.
شاركوا في الحملات وتصدرت وسوم المناصرة لهذه القضية قائمة الأكثر استخداماً في لبنان، كما هو الحال في دول كثيرة، ما انعكس أيضاً في الإعلام اللبناني اهتماماً متزايداً بمسألة الخصوصية والأمن الرقمي على غير العادة، وبالتالي ارتفع الاهتمام الشعبي بالمسألة التي لم تكن تشكل أي أولوية لا على الصعيد القانوني والحكومي ولا على الصعيد الشعبي ومستخدمي الإنترنت الذين يبلغون اليوم حد الـ 80% من السكان في البلاد.
ترى الجهات المعنية بالأمن الرقمي والخصوصية في لبنان، كما هو حال منظمة “سميكس”، إيجابية في هذا التوجه الشعبي نحو مزيد من الوعي تجاه خصوصيتهم الرقمية، وتعتبرها فرصة يمكن استغلالها لتخطي حاجز اللامبالاة العامة بهذه المسائل، بحسب ما يؤكد مدير المحتوى في المنظمة عبد قطايا في حديثه مع موقع “الحرة”.
هذا الحاجز جعل من اللبنانيين ضحية خروقات فاضحة لخصوصيتهم وأمن معلوماتهم الشخصية في أكثر من مناسبة، وصلت في السنوات الماضية إلى حد فضح عمليات تجسس ضخمة واختراقات الكترونية من قبل أجهزة أمنية وعسكرية في البلاد، لم يجرِ أي تحقيق فيها أو تعليق رسمي عليها ولم تحرك في المقابل أي اهتمام شعبي أو دعوات للمحاسبة والمساءلة.
هذا الواقع، يفرمل بالمقابل الآمال المعقودة على صحوة اللبنانيين إلى خصوصيتهم وأمنهم الرقمي، ويذهب تحليل بعض المراقبين إلى انقياد الرأي العام اللبناني خلف “الترند” العالمي بشأن سياسات واتساب الجديدة، في حين أنهم يتعرضون يومياً لشتى أنواع خرق الخصوصية من قبل السلطات والمؤسسات الرسمية والشركات الخاصة، ولا أحد يحرك ساكناً.
فضيحة الأذونات
بالتزامن مع الاعتراض الذي سجله اللبنانيون على سياسات واتساب الجديدة، كان خرقاً فاضحاً لخصوصيتهم يجري أمام أعينهم، من خلال المنصة الإلكترونية التي أطلقتها الدولة اللبنانية لحصول المواطنين على أذونات خروج من المنازل في ظل حالة الطوارئ الصحية ومنع التجول المفروض في البلاد بسبب انتشار فايروس كورونا.
المنصة أثارت موجة سخرية عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي بعدما تبين أن منح الأذونات عليها، يتم بشكل آلي دون مراجعة من قبل المعنيين، إلى حد دفع اللبنانيين للاستحصال على أذونات بأسماء وهمية ومعلومات مغلوطة وأسباب مثيرة للسخرية، ونشرها على مواقع التواصل، ما شكل فضيحة وأثار مساءلة لدى الرأي العام حول تكلفة هذه المنصة والجدوى منها والفشل في إدارتها.
ما غاب عن جزء كبير من الرأي العام اللبناني، هو الفشل الإداري للمنصة الممتد إلى حماية خصوصيتهم ومعلوماتهم الشخصية وانكشاف تحركاتهم وسلوكهم خلال أيام الحجر الصحي أمام أي جهة مستفيدة من جمع تلك المعلومات لأي دوافع أمنية كانت أم تجارية أو حتى شخصية.
فبحسب الخبير في الأمن الإلكتروني غسان بلطه جي، انطلقت المنصة في أول يوم عمل لها دون أن تكون مكتملة وجاهزة للاستخدام، ودون أدنى معايير الحماية المقبولة في روابطها وبرمجتها من اجل حماية الداتا المدخلة عليها من السرقة والتلاعب، حتى أن ألف باء الحماية لم تكن متوفرة كأن يكون الرابط المؤدي إليها محمياً https وكانت الروابط الداخلية مكشوفة ويمكن تحفيظها واستغلالها، بالإضافة إلى ثغرات أمنية عدة تمنح المهاجمين “باباً خلفياً” للدخول إلى البيانات والتلاعب بها. في حين ان المنصة تطلب من اللبنانيين معلومات عدة من شأن انكشافها أن ينتهك خصوصيتهم بشكل بالغ، كأرقام هواتفهم وأسمائهم ووجهتهم وأسباب تحركاتهم وتوقيته والمنطقة المتواجدين فيها.
الشركة المشغلة سرعان ما تجاوبت مع الملاحظات التي وجهها عدد من المتخصصين لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فأعادت نشر روابط الموقع محمية لتؤكد احترامها خصوصية المواطنين، إلا أن ذلك لم يطمئن اللبنانيين إلى مصير تلك المعلومات ووجهتها النهائية خاصة أن لا شفافية في وجهة البيانات المدخلة والجهات المخولة إدارتها والاطلاع عليها.
The government website that you must use to get an exemption/permit is not secured, meaning that “you should not enter any sensitive information on the site.”
However, the authorities request you to fill your name, phone number, address, destination, expected mobility time, etc pic.twitter.com/FiqGKVECxU
— تبع الExcel (@OmarTamo19) January 13, 2021
يتساءل رئيس مركز المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات في نقابة المحامين الدكتور شربل القارح في حديثه مع موقع “الحرة”، “إن أردت اليوم كمواطن أن أعود للقانون وأتساءل، من يعالج هذه المعلومات، أي وزارة وأي مديرية؟ هذا حق المواطن اللبناني القانوني أن يتساءل عن وجهة بياناته والمعلومات ذات الطابع الشخصي والجهة المعالجة لها، وإن كانت شركة خاصة أين هي موجودة وما مصير البيانات بين يديها؟ لماذا نتهاون في حماية هذه المعلومات التي تكشف سلوكنا وأطباعنا وأسماءنا وأرقامنا كمستخدمين، وهذه كلها مخالفات تتجاوز بأشواط ما تنص عليه أصلا المادة 94 من قانون المعاملات الإلكترونية والمعلومات ذات الطابع الشخصي؟”.
في الثورة أمثلة أخرى
المفارقات في تعاطي اللبنانيين مع خصوصيتهم لا تقتصر على هذا المثال، مثال آخر كان أكثر شهرة ورسوخاً في ذاكرة اللبنانيين. عشية السابع عشر من أكتوبر 2019 اكتشفوا نية حكومتهم فرض ضريبة مالية على استخدامهم لتطبيق واتساب تبلغ 6$ في الشهر الواحد. شكل هذا الإجراء الحكومي الشرارة التي أطلقت حالة اعتراض يعتبرها البعض الأكبر في تاريخ البلاد الحديث.
ضخامة ردة الفعل الشعبية سلط الأضواء على القرار الحكومي والآلية التي كانت تنوي عبرها الحكومة اللبنانية تطبيقه، ليتبين انه كان يجري الإعداد لكشف المجتمع اللبناني أمام واحدة من أكبر عمليات انتهاك الخصوصية الرقمية، بحيث كانت وزارة الاتصالات، بحسب ما تكشّف من معلومات حينها، قد جهّزت المعدات وحضّرت المستلزمات مسبقاً عبر شركات الاتصالات لاعتماد تقنية الـ DPI الفحص العميق لحزم الإنترنت (deep packet inspection) في مراقبة استخدام المواطنين لتطبيق واتساب، وبالتالي كشف نوعية نشاطاتهم والجهات التي يتواصلون معها إضافة إلى تفاصيل حول طبيعة المراسلات، ولا يقتصر ذلك على اللبنانيين فقط بل على كل أنواع الاتصال التي تتم من وإلى لبنان عبر هذا التطبيق.
شكل آخر من أشكال انتهاك الخصوصية المتعمد في زمن الثورة، كانت تنتهجه عن سابق إصرار وتصور الضابطة العدلية في البلاد ولا سيما قوى الأمن الداخلي، تتمثل في إكراه المواطنين المعتقلين خلال الاحتجاجات واجبارهم على فتح هواتفهم المضبوطة بحوزتهم للتفتيش فيها دون أي اذن من النيابات العامة وفق ما ينص القانون.
يرى القارح أن “هناك مشكلة في الذهنية البوليسية التي ورثتها أجهزة الدولة اللبنانية من حقبة الاحتلال السوري للبنان، ولم تعد قادرة على الخروج منها، فهي لا تأبه ولا تضع أي اعتبار لخصوصية المواطنين، فما يحصل خلال السنتين الماضيتين وخلال الثورة من إجبار المواطنين على تسليم هواتفها وفتحها بعد إكراههم على وضع بصمتهم أو كلمة المرور هو تعدٍ صارخ على خصوصية المواطنين والمعتقلين، وهذه سابقة عالمية أن تكره دولة ديمقراطية مواطنيها على كشف خصوصيتهم. كل ذلك والنيابات العامة والمدعين العامين آخر من يعلم بما يحصل على الأرض او بالطريقة التي تتعامل بها الضابطة العدلية وكيف ترغم المواطنين بالضرب والتهديد والترهيب”.
ويتساءل رئيس مركز المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات في نقابة المحامين عن مصير المعلومات المسحوبة من هواتف المواطنين والمعتقلين، حتى ولو تم ذلك بإذن قضائي، “هناك حالات يكون فيها 10% من المعلومات تتعلق بالجرم او القضية المطروحة و90% من المعلومات التي تستخرجها الضابطات العدلية لا يعرف مصيرها أو لزوم استخراجها وتخزينها وتجميعها عن المواطنين.”
“لا رادع ولا من يسأل ومعظم الحالات لا يعرف بها المدعي العام، ولا تراعي ما تنص عليه المادة 121 من قانون المعاملات الإلكترونية التي تنص على اتباع القواعد عند ضبط الأدلة المعلوماتية بناء لقرار النيابة العامة او المرجع القضائي المختص. وبالتالي يمارس الموظفون اليوم خرقاً للقانون عبر خرق أنظمة معلوماتية والاطلاع على بيانات الأنظمة المعلوماتية للمواطنين. ضبط الأدلة الجنائية لا يتم بهذا الشكل، وقد لوحظ في الفترة الماضية مع عدد كبير من الحالات تقوم الضابطات العدلية بمسح بيانات المواطنين عن اجهزتهم لإخفاء ما قاموا به وحجم اختراقهم وكشف خصوصيتهم.
خروقات متعددة
قبل أن يهتم اللبنانيون بمصير خصوصيتهم على تطبيق واتساب، لا بُد أن يعلموا أنهم مخترقون بخصوصيتهم في مراحل متقدمة أكثر من سياسات الخصوصية للتطبيقات العالمية. يشرح مسؤول المحتوى في “سميكس” عبد قطايا كيف ان الدولة اللبنانية تنتهك خصوصية اللبنانيين منذ سنوات وتعرض معلوماتهم وبياناتهم لمخاطر الاختراق عبر ربطها لهويتهم الشخصية بأرقام الـ IMEI الخاصة بالهواتف المشغلة على الأراضي اللبنانية. ورقم الـ IMEI يعني الهوية الدولية للأجهزة المتنقلة، وهو عبارة عن 15 رقما تسلسلياً يمثل بصمة الهاتف التي لا يمكن أن تتكرر في هاتف آخر.
بدأت القضية مع وزير الاتصالات السابق بطرس حرب الذي فرض تسجيل كل هاتف خليوي باسم المواطن الحامل له وربطه برقم هاتفه من خلال رقم الـ IMEI الخاص بكل هاتف، وذلك في سبيل مكافحة تهريب الهواتف الخليوية بحيث تبقى هذه الهواتف مقفلة على الأراضي اللبنانية إن لم يتم تسجيلها باسم صاحبها، ثم جرى تعديل هذه السياسة في عهد الوزراء اللاحقين لتصبح من مسؤولية المواطن تسجيل رقم الـ IMEI لدى شرائه للهاتف من أجل تبيان إذا ما كان “مجمركاً” أم لا، وذلك عبر موقع مخصص لذلك. بحسب قطايا انطلق الموقع مفتقداً أدنى معايير الحماية والأمن المعلوماتي ومليء بالثغرات الأمنية ولا يزال كما هو حال كل مواقع الدولة اللبنانية.
هذا الموقع في حال تم اختراقه، وقد يكون حصل ذلك، من شأنه أن يعرض كافة المعلومات المتعلقة بهواتف اللبنانيين وانواعها وتحركاتهم وسلوكهم على الهاتف وطبيعة استخدامها إضافة إلى موقع الهاتف وكل المعلومات التقنية المتعلقة به والمخزنة عليه، لخطر التسرب وبالتالي سوء الاستخدام من أي جهة كانت ولأي غاية، كذلك يعرض المواطنين لخطر الاختراق والتجسس والمراقبة لهواتفهم الخليوية التي باتت مربوطة بأسماء أصحابها وعناوينهم وأرقام هواتفهم، وبالتالي انكشاف تام لا يزال قائماً حتى اليوم.
تاريخ أسود
يصف قطايا تاريخ الدولة اللبنانية بالأسود لناحية التعامل مع بيانات المواطنين، وهذا ما يؤسس مسبقاً لانعدام ثقة المواطنين بها في أي استحقاق مقبل، فالدولة اللبنانية نفسها المعنية بحماية خصوصية اللبنانيين، سبق وان فرطت بداتا اتصالاتهم على مراحل منذ العام 2005 في سبيل التحقيق الدولي الذي جرى في تلك المرحلة. وهي خطوة غير مألوفة لدى الدول حتى انها اثارت في السابق (عام 2012) استغراب واستهجان السلطات القضائية الفرنسية التي عبرت عن ذلك أمام قضاة لبنانيون زاروها لتبيان مدى قانونية كشف داتا الاتصالات للبنانيين في حينها.
الدولة نفسها أيضاً، لم تجر أي تحقيق جدي ولم تعلق حتى على كل قضايا التجسس وخرق خصوصية اللبنانيين التي مرت على التاريخ الحديث للبلاد في السنوات الماضية. ففضيحة بحجم “دارك كاراكال” التي انكشفت عام 2018 وتظهر تجسساً منظما على هواتف اللبنانيين تجري من خوادم تابعة لجهاز الأمن العام اللبناني وتمتد في عملية التجسس ومراقبة الهواتف إلى ما بعد الحدود اللبنانية لتطال دولاً في الشرق الأوسط. كذلك الأمر بالنسبة إلى فضيحة “خليل الصحناوي” الذي تبين أنه يستحوذ عبر الاختراق على كل داتا الدولة اللبنانية ويخزنها ويحتفظ بها لأسباب مجهولة، بررها في حينها بوصفه لنشاطه الجرمي بأنه “هواية”، ليتم بعدها لفلفة القضية ووضعها في ادراج النسيان.
لا تنته الأمثلة التي يستعرضها قطايا لسلوك الدولة اللبنانية مع خصوصية مواطنيها، من تسريب وزارة الداخلية للوائح الشطب وكشف أسماء المواطنين وعناوينهم ومعلوماتهم الشخصية والانتخابية، إضافة إلى تسريب أرقام لوحات السيارات وأسماء أصحابها وقضية اللوحات البيوميترية وجوازات السفر البيوميترية، وواقعة الصراع الداخلي بين السلطات اللبنانية (فرع المعلومات وبلدية بيروت) لإدارة وتشغيل كاميرات بيروت للمراقبة التي تنتهك خصوصيات المواطنين في تحركاتهم داخل العاصمة، وصولاً إلى شركات توزيع الإنترنت التي يتجاوز عددها ال150 شركة فيما 3 منها تنشر سياسات الخصوصية التي تنتهجها والباقي لا يكترث، وليس انتهاءً عند سلسلة الاختراقات وعمليات التجسس التي طالت شركات الاتصالات MTC وALFA اللتان لم تعتمدان سياسة خصوصية لحماية البيانات قبل العام 2018 مع صدور قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي.
القانون أصل البلاء!
انتظر لبنان 14 عاماً قبل صدور قانون يعنى بحماية خصوصيتهم وينظم معاملاتهم الإلكترونية. في العام 2004 بدأ العمل على القانون بهدف تنظيف التجارة الإلكترونية، في شهر أيلول 2018 أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي. وبالرغم من تغيير نصّ القانون بين عامَي 2004 و2018 بقي الهدف منه على حاله: تسهيل توسّع التجارة الإلكترونية من دون إيلاء أي اهتمام لتأثير هذا التوسّع على حماية البيانات ما جعل بنود حماية البيانات الشخصية للمواطنين اللبنانيين الواردة في هذا القانون قديمة وغير فعالة.
ويكفي الاطلاع على القفزة الهائلة التي شهدها عالم البيانات والأنظمة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي بين العامين 2004 و2018 لتبيان عدم ملاءمة القانون للزمن الصادر فيه. عام 2004 كانت نسبة مستخدمي الإنترنت في لبنان نحو 9% باتت اليوم تتجاوز الـ 80%، في حين أن التطبيقات والهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على كافة تفاصيل حياة المواطنين اليومية لم تكن بمعظمها موجودة أصلاً.
يشوب القانون غموضاً كبيراً لناحية المصطلحات المستخدمة وتعريفاتها وتصنيفات البيانات إضافة إلى الجهات المشرفة عليها. فبعكس معظم الدول التي أقرت هذا النوع من القوانين يضع لبنان مسؤولية حماية هذه البيانات بيد السلطة التنفيذية وتحديداً وزارة الاقتصاد، ومنها تتفرع المسؤولية إلى وزارتي الداخلية والدفاع كل حسب اختصاصه وحسب نوعية البيانات المطلوبة، في حين أن معظم الدول لجأت إلى هيئات خاصة ومستقلة تتألف من جهات قضائية ونيابية ووزارية بمشاركة القطاع الخاص.
المشكلة باستلام وزارة الاقتصاد لهذه المسؤولية بحسب المحامي شربل القارح، انها تجعل الدولة اللبنانية الحكم والخصم في الوقت نفسه، لا يمكن أن تتسلم وزارة الاقتصاد هكذا ملف وإنما بحاجة لجهة حيادية تقوم بدور الحكم بين المواطنين والدولة التي تعالج بياناته ليكون المواطن والدولة معاً تحت سقف القانون.
هذا كله في وقت لم تظهر الوزارة أي جهوزية او جدية في التعامل مع هذه المسؤولية الموضوعة على عاتقها، فبحسب ما تكشف منظمة “سميكس” من معلومات تقول إنّ الوزارة لم توظّف أحداً من أجل تنفيذ هذه التدابير، ولم تخطّط للتعامل مع هذه الطلبات خلال السنوات السابقة التي كان فيها القانون مسودة، كما أنّها لا تملك خططاً عاجلة لإنشاء موقع إلكتروني ليتمكّن الناس من البدء بتقديم هذه الطلبات. وبالتالي، تكشف قلة التحضيرات من قبل الوزارة خطر وضع الصلاحيات والسلطة بين يدي وزارة واحدة، بل حتى حصر هذه السلطة بالجهات التنفيذية.
هذه المعلومات يضيف إليها المحامي شربل القارح معلومات تفيد بأن الوزارة، على مدى 3 سنوات مضت من عمر القانون حتى ما قبل شهرين من اليوم، لم تكن قد أعدت أصلا نموذجاً لطلبات الحصول على ترخيص معالجة بيانات، ولم يكن هناك موظفين لهذه المهمة. الأمر مشابه تماماً لما حصل مع قانون حق الوصول إلى المعلومات الذي أقر قبل 4 سنوات، فحتى اليوم لم ينجح مواطن لبناني بالحصول على معلومة واحدة من الإدارات الرسمية والوزارات. وحتى اليوم أيضاً لم يصدر أي ترخيص لأي جهة لمعالجة البيانات.
ويسمح القانون لعدد من الوزارات الأخرى بالإشراف على عملية معالجة البيانات الشخصية، أبرزها وزارات الداخلية والدفاع والصحة، إلّا أنّه إشراف محدود وخطير على هذه العملية. تمنح المادة 97 الوزارتين صلاحية منح التراخيص لأيّ بيانات متعلقة بـ “الأمن الخارجي والداخلي للدولة”، من دون تعريف المصطلح وهو ما يفتح الباب امام تفسيرات الوزارات الأمنية وأجهزتها التي لا تملك سجلاً نظيفاً في استخدام بيانات اللبنانيين، وهو ما أفقد القانون الغاية المرجوة منه لحماية الخصوصية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المادة 103 تميّز البيانات المتعلّقة “بأمن الدولة الداخلي والخارجي”، تنصّ على أنّه “لا يمكن إطلاع صاحب البيانات ذات الطابع الشخصي على بياناته موضوع المعالجة إذا كان ذلك يعرّض غاياتها أو أمن الدولة الداخلي أو الخارجي للخطر”. والمادة 97 تمنح الصلاحية لوزارة العدل بإعطاء التراخيص للبيانات المتعلقة “بالدعاوى القضائية بمختلف أنواعها”، وتعطي وزارة الصحة الصلاحية باتخاذ الإجراءات في “الحالات الصحية أو بالهوية الجينية أو بالحياة الجنسية للأشخاص”. كلّ هذه الأحكام تسمح لأيّ شركة خاصة تملك علاقات جيدة مع إحدى هذه الوزارات بالوصول إلى بيانات شخصية حساسة جداً بحسب “سميكس”.
تُعتبر قواعد جمع البيانات في المادة 87 غامضة ومبهمة، فهذه المادة لا تتطلّب أن يكون هناك هدف معين لعملية جمع البيانات ولا تضع معاييراً موحدة لمصطلح “الأهداف المشروعة”.، أما الأخطر فهو مبدأ موافقة الشخص على معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي الخاصة به. فلا يُعرّف القانون الموافقة بوضوح ولا يصون حق سحبها.
ويتفق الخبراء على أن المادة 92 تعتبر من أخطر المواد: فهي لا تقر بمبدأ الخصوصية، إنما تربط حق الشخص في الاعتراض على تجميع البيانات ذات الطابع الشخصي الخاصة به ومعالجتها بـ “أسباب مشروعة” من دون تعريف هذه الأسباب. والأخطر أن هذه المادة تحظّر على الشخص الاعتراض في حال “كان قد وافق على معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي الخاصة به”، دون تحديد طريقة الموافقة، أو توقيتها.
شكلت المادة 94 من القانون “أم المعارك” بحسب ما يصف المحامي القارح، فهي تميز بين أشخاص القطاع الخاص وأشخاص القطاع العام (الدولة العامة بكل أجهزتها ومؤسساتها)، فقد أصر المشرعون في البند الأول من المادة 94 على استثناء كل أشخاص القطاع العام لكل العمليات المجرية على البيانات الشخصية. يعني أي وزارة او شخص يعمل لصالح وزارة او شركات متعهدة لتشغيل القطاع العام، في حين ان معظم القطاعات الصحية والتربوية والمؤسسات التجارية وشركات التأمين وغيرها كل ضمن اختصاصه يستطيعون بموجب هذا القانون ان يعالجوا البيانات الخاصة باللبنانيين دون العودة لوزارة الاقتصاد او الحصول على ترخيص.
يقول المحامي القارح: “هذا القانون غير دستوري لأنه يخالف حقوق كل فرد بحسب مقدمة الدستور التي تلزم الدولة بحماية الملكية الفردية، إذا كانت البيانات الشخصية ليست ملكية فردية فأين تكون؟ المادة 94 بحد ذاتها مخالفة للدستور. هذا القانون كله غير صالح فهو منطلق من باب قمعي وليس من منطلق حماية الخصوصية ومعالجة بيانات، فمن يريد معالجة البيانات عليه حفظ حق الوصول حق الاطلاع وحق التعديل وهذه حقوق محفوظة في كل دول العالم إلا لبنان، القطاع الخاص يمنحك حق الوصول إلى بياناتك، أما القطاع العام فلا يمنحك هذا الحق، وقد أصروا على ترك القانون كما هو وأقروه بهذه الطريقة ليبقوا هاربين من المسؤولية وبعيدين عن الملاحقة والمساءلة والقانون، وبالتالي ما من خصوصية في لبنان بشكل مطلق ولا ضمانات لحمايتها هناك فلتان مخيف وغياب لنوايا المعالجة.”
يختم القارح “تخيل أن هذه المشكلة تنسحب على كل مواقع الدولة اللبنانية الرسمية .gov.lb، فالقانون في المادة 80 منه يفرض على الدولة اللبنانية أن تستلم إدارة وتشغيل مواقعها الإلكترونية بنفسها منذ العام 2018، الواقع اليوم ان الدولة اللبنانية لم تتسلم أي شيء وترفض أن تدفع ما يتوجب عليها لتشغيل هذه المواقع وهي الدولة الوحيدة في العالم التي أسماء مواقعها خارج لبنان، ولا أحد يعرف في أي لحظة تتوقف هذه المواقع عن العمل في حين أنه لم يعد هناك جهة تستطيع الإجابة عن مصير هذه المواقع ومن يديرها وكيف تدار وأين تذهب المعلومات فيها، إذ ان عقود العاملين مع omsar توقفت وفي الحكومة الجديدة ليس هناك وزارة دولة لشؤون التنمية الإدارية، وفي هذه الحالة الوزارة ليست موجودة لاستلام المواقع الإلكترونية للدولة اللبنانية.”
الحل في الوعي العام
يرى قطايا أن الحل يكمن في زيادة الوعي الشعبي تجاه خصوصيتهم فهذا المدماك الأساس لأي تقدم مقبل في هذا المجال. ويضرب مثالا بتجارب حديثة أثبتت أن الوعي من شأنه تغيير سلوك الدولة تجاه الخصوصية، آخر الأمثلة كان مع منصة الأذونات حيث نجح الضغط الشعبي في اجبار الدولة والشركة المشغلة على اخذ الخصوصية أولوية في اعتبارها.
قبل ذلك أيضاً رضخت شركتي “ألفا” و”تاتش” لضغوط النشطاء والجمعيات والمنظمات وحملات مواقع التواصل الاجتماعي وأجبرت على نشر سياسة خصوصية واضحة للمستخدمين. حتى وزارة الصحة كان لها تجربة لافتة حينما عزمت النية على حفظ خصوصية المواطنين، فقد عمدت إلى وضع تطبيق لمراقبة مرضى كورونا في بداية الجائحة، قامت خلاله باستشارات عدة للجمعيات والمنظمات المعنية وأخذت بالنصائح واعتمدت على تطبيق يكشف التخالط بين مرضى كورونا عبر بلوتوث بدلا من تقنية تحديد المواقع التي تنتهك الخصوصية.
لكن ذلك يبقى استثناءً يحسب للوزارة وليس لكل مواقع الدولة اللبنانية ومنصاتها، وإلى حين وجود نية حقيقية على صعيد الدولة، يقول قطايا، لا بد من التعامل مع منصات ومواقع وتطبيقات الدولة اللبنانية بحذر وانتباه فهي ليست آمنة وعلى المواطنين أن يضغطوا ويطرحوا الأسئلة ويطلقوا الحملات لحماية خصوصيتهم الأمن الرقمي للدولة اللبنانية مزرِ ضعيف جداً، وهناك مستفيدين من الفلتان، الدولة قادرة على حماية معلومات اللبنانيين ولكن تحتاج إلى نية فالأمور ليست مكلفة ولكن تحتاج جدية واهتمام ومراقبة وتدقيق.
الحرة