إذا كانت هناك قصة إيجابية تروى في ظل الآثار الاقتصادية السلبية الناتجة عن تفشي جائحة «كوفيد – 19»، فهي النتائج المالية المذهلة لشركات التقنية الكبرى، التي استفادت بشكل عظيم ومذهل من أجواء العزلة التي فرضتها الجائحة، وأجبرت العالم على حلول افتراضية رقمية للتعامل مع الواقع الجديد.
ولكن هناك من يشير ويحذر من خطر فقاعة عظيمة تتكون في اقتصادات شركات التقنية الكبرى. فهناك استدعاء سابق لذكرى الأزمة المالية الكبرى، التي تسبب فيها انهيار القطاع المالي المصرفي، وهي الأزمة التي تسببت في أزمة أخرى مختلفة الشكل والأثر على حياة الكثيرين منا حول العالم، نظراً لتداخل الشركات المالية والبنوك في نسيج حياة الناس.
وبسبب تجاوزات وضعف رقابي في منظومة الحوكمة، يبدو أن هناك خطراً مماثلاً ينتظر شركات التقنية الكبرى، وخصوصاً إذا ما قدمت هذه الشركات نتائج مالية سلبية مفاجئة، فالاقتصاد الرقمي يلتهم الاقتصاد القديم، وأسس الحوكمة المعتمدة اليوم للتعامل مع هذا التحول لا تعطي الضمانة والطمأنينة المنشودة؛ لأنها باختصار شديد غير كافية. ومع هذه الهواجس المقلقة يطرح السؤال الصعب والمنتظر نفسه «من الذي ينظم شركات التقنية الكبرى وما الذي ينتظره المشرعون؟».
لقد أظهرت الجائحة مدى الاعتماد الكبير على التقنية الرقمية الحديثة. بطبيعة الحال لا يتوقف الأمر على المحادثات المرئية الطويلة جداً، والتقنية المتطورة والمذهلة، التي تقف خلف مهام وعمليات التوصيل للسلع والمنتجات إلى أبوابنا الموصودة، أو أرتال السجلات والبيانات التي تفرض الدعايات وأنواعها التي تقفز أمامنا في حالات تصفح البريد الإلكتروني أو الاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي. هناك أيضاً حاجة ملحة لاستيعاب الخوارزميات التي تحدد مقادير العمل لسائقي خدمات التوصيل أو ما نشاهده لدى قيامنا بالتواصل مع شبكة الإنترنت، فهي لا تزال غامضة وغير مفهومة.
هناك «تحيز» و«تمييز» خوارزمي ممنهج بحاجة لأن يُفهم ويقنن على ما يبدو. هناك درس قاس ومؤلم علمتنا إياه الأزمة المالية الكبرى في عام 2008 وهو أن هناك ضرورة ملحة جداً لإيجاد رقابة دقيقة للغاية، خصوصاً عندما تعتمد المصلحة العامة على كيانات أسست لتلبية طلبات واحتياجات مقدمي رأس المال الخاص. ولذلك كان لافتاً للغاية تحرك السلطات التشريعية الأميركية ضد إحدى أهم شركات التقنية الكبرى، شركة «فيسبوك» التي وجهت إليها تهمة التحكم والاحتكار لسيطرتها غير العادلة والمؤثرة على أهم وسائل التواصل الاجتماعي «واتساب» و«إنستغرام»، بالإضافة إلى «فيسبوك» نفسها، مما سيعرضنا لخطر التقسيم تماماً كما حصل مع شركة «إيه تي آند تي» في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي. وكذلك كشرت هيئة التجارة الفيدرالية الأميركية عن أنيابها التشريعية، واشترطت على شركات التقنية الكبرى لتقديم ما يعرف الهيئة بالكيفية المتبعة من الشركات في تجميع المعلومات وطريقة استخدامها من مستخدميها. ويأتي هذا الإجراء التنظيمي المهم كخطوة من ضمن خطوات متتالية وصفها أحد أهم المحللين الاقتصاديين بـ«الجدران التي تغلق على شركات التقنية الكبرى وشهر العسل الطويل إلى انتهاء».
قوانين جديدة تصدر من دول كبرى تباعاً غرضها مراقبة أكبر وأدق لمنظومة أعمال شركات التقنية الكبرى، التي تركت حرة وطليقة أكثر من اللازم.
الزيادة الحاصلة في أحجام المنافسة والتداخل الواضح في الحقوق وضرورة أن تتحمل منصات التواصل الاجتماعي المضمون والمحتوى الذي يقدم فيها وينشر عندها… هذا وغيره سيكون أهم توجهات المشرعين في ملاحقتهم، وهذا سيكون له الأثر السلبي على الشركات؛ لأنه تغيير في منظومة ونموذج الأعمال الأساسي الذي بنيت وأسست عليه.
التشريعات التي جاءت على القطاع المالي بعد الأزمة المالية الكبرى عام 2008 جعل توصلها مع العملاء أوضح وأكثر شفافية، وخصوصاً فيما يتعلق بشأن رسومها، وهذا الذي مكن العملاء من اتخاذ قرارات أكثر استنارة بشأن تبادل القيمة العادلة بينهم وبين بنكهم أو المؤسسة المالية التي يتعاملون معها. هذه الأسس باتت مطلوبة جداً في تعامل العالم مع شركات التقنية الكبرى أو بالأحرى أن الطموح ذاته مطلوب أن يتكرر مجدداً هنا، بحيث يتم تحقيق ضمان نتائج جيدة للعملاء، وتحقيق تبادل عادل للقيمة لمستخدمي منصات التقنية، وهذا بحد ذاته سيكون مفيداً جداً للمستهلكين بل وسيكون مفيداً لشركات التقنية الكبرى نفسها.
هناك ثورة تشريعات تنتظر ثورة الاتصالات وهي قادمة لا محالة.