كشف انفجار مرفأ بيروت المروّع عجز السلطة الحاكمة عن حماية اللبنانيين، وتوفير أبسط مقوّمات الامن لهم، وأظهر خوف النظام السياسي الطائفي من تحمل المسؤولية ومحاسبة الذين تسببوا في الإنفجار بعد تخزين نيترات الأمونيوم، فإذا بتداعيات الكارثة تضيف أزمة جديدة إلى أزمات لبنان المتفجرة، وتظهر أن السلطة وتحالفها الحاكم والطبقة السياسية الفاسدة يسعون إلى إنقاذ أنفسهم أمام العالم من دون اكتراث لحياة اللبنانيين وأمنهم، فتتركهم لمصيرهم وتزيد المصائب التي تراكمت على مدى أكثر ثلاثة عقود، أي منذ اتفاق الطائف، ولم تكشف معها الحقيقة عن سلسلة الاغتيالات التي طالت شخصيات لبنانية ولا تحققت العدالة في ظل المنظومة التي حكمت لبنان منذ 1990.
استحضر انفجار المرفأ كل ممارسات السلطة الحاكمة وسلوكها ضد اللبنانيين. فبدلاً من أن تتحمل الدولة مسؤولياتها في توفير الامن وإرساء الاستقرار ومعالجة تداعيات الازمات الكبرى وإحداث تغيير في البنية السياسية، كانت قواها تبحث عن السبل لتجاوز الكارثة، وكأن هول ما حدث في بيروت هو مسألة عادية وأن شيئاً لم يكن. كان الدم لا يزال متناثراً في بيروت الجريحة، حين واجهت السلطة، الغضب الشعبي ضد النظام بالنار وبالقمع الشديدين، متهمةً المنتفضين بالتآمر على البلد، والسعي الى إبقاء الحصار العربي والدولي على الحكم واستمرار المقاطعة العربية والخليجية بعد انفجار المرفأ، فكان رهان تحالف السلطة على فك عزلتها وإعادة ترتيب أوضاعها لامتصاص الصدمة التي أحدثها الانفجار من دون أن تؤدي المحاسبة إلى تغيير سياسي في السلطة.
كل تاريخ السلطة في البلد أزمات متفجرة. منذ سلطة الوصاية السورية إلى قوى الوصاية الأخيرة على حكومة حسان دياب المستقيلة التي رفعت عنها المسؤولية واستقالت بعد رفع الغطاء عنها من التحالف الحاكم، فانتهت الوظيفة التي جاءت من أجلها، وهي لم تحقق أي انجاز يستعيد ثقة اللبنانيين بالحكم، فيما العهد الذي جاء على صهوة تسوية ملتبسة أظهر عجزه وعدم قدرته على أن يجعل الرئيس حكماً بين اللبنانيين بل أمعن خلال كل الأزمات المتفجرة الأمنية والسياسية في ممارسة الحكم طرفا بين القوى المتصارعة في السلطة والنظام. وعلى وقع الإصرار على الإمساك بالسلطة ومؤسساتها كانت التوترات الأمنية تتنقل بين المناطق والفلتان وانتشار السلاح يعصف بأمن اللبنانيين ويتركهم أسرى السيطرة والهيمنة السياسية والطائفية التي تتوزع محاصصاتها على حساب الناس ومصالحهم ومستقبلهم، إلى محاولات استحضار مآسي الحروب الاهلية والاستقواء بالسلاح والارتهان للخارج.
التقت قوى السلطة ومنظومتها الحاكمة على قمع انتفاضة 17 تشرين الأول التي كسرت الولاءات، وقمعت أحلام الجيل الجديد الذي رفع صوته ضد الطبقة السياسية الفاسدة، واستخدمت كل مؤسسات الدولة وأجهزتها لإنهائها، وهي التي شكلت فرصة لإعادة توحيد البلد وإنقاذه من الفساد وحالة الإنهيار التي يعانيها. ومارست هذه السلطة كل أشكال التضييق لتأبيد سيطرتها القائمة على المحاصصة، بدلاً من أن تحتكم للناس، واستحضرت القوى الممسكة بالحكم كل عصبياتها واستنفرت غرائز جمهورها منعاً للتغيير فكانت أقوى من الدولة نفسها. وفي كل المحطات التاريخية المفصلية كانت السلطة بنسخها المختلفة تقضي على كل محاولة تغيير عبر النهوض الشعبي، في وقت تترك فيه الأمن للميليشيات وقوى الامر الواقع تتحكم في المناطق حيث يسود منطق السلاح وسلطة الأقوى وفق الهيمنة القائمة، فيما تظهر مؤسسات الدولة عجزها عن توفير الامن وتعزيز الأمان للبنانيين في دولة قادرة يحكمها القانون.
قبل كارثة مرفأ بيروت، كانت الفوضى السائدة في الامن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي تضيف أعباء هائلة على حياة اللبنانيين الذين فتحوا كوة للتغيير أُسقطت بالتوظيف والاستثمار والقمع، وأنهي نبض الانتفاضة وكسرت عزيمتها. وها هم اليوم يواجهون سلطة تهرب الى الخارج لحماية منظومتها بعد الانفجار، وتصر قواها على التلاعب بالبلد ورهنه لحسابات إقليمية ودولية. وبعد صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، لم تقدم المنظومة الحاكمة إشارات لتحقيق العدالة على رغم الاتهام السياسي غير المباشر لـ”حزب الله” والنظام السوري، ما يطرح تحديات جديدة تواجه اللبنانيين أولها في مدى قدرتهم على الصمود في مواجهة المآسي التي يرزحون تحتها والمفتوحة على المزيد من الازمات والإنهيار. يطرح هذا الواقع عدم أهلية السلطة وتحالفها الحاكم والطبقة السياسية على السير بالبلد نحو الإنقاذ، تماماً مثلما فوّتت السلطة فرصاً بالجملة لإعادة التوحيد وتحقيق الوفاق على قاعدة التنوع ومواجهة التهديدات الخارجية بدولة موحدة، إذ تعاملت المنظومة الحاكمة مع كل المحطات المفصلية والتاريخية كمادة للتنازع على السلطة والنفوذ ووسيلة للتعبئة الطائفية والمذهبية. ولا يخفى على اللبنانيين أن فرصة خروج جيش النظام السوري من لبنان في نيسان 2005 كانت فرصة لإعادة بناء الدولة تماماً مثلما خرج جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان في 24 ايار 2000، فوظفت مرحلة ما بعد التحرير للإطباق على البلد وتوظيف السلاح في الداخل قبل أن يتحول إلى سلاح إقليمي ويأخذ اللبنانيين الى التدخل في سوريا إلى جانب النظام وحمايته ضد الشعب السوري نفسه. وفي كل الحالات كانت السلطة تترك البلد كما اليوم بعد كارثة المرفأ وصدور قرار المحكمة الدولية على طاولة القوى الدولية والاقليمية من دون أن تتمكن من قول كلمتها باسم اللبنانيين دفاعاً عنهم، لكنها تستمر في استثمار دماء الناس وآلامهم فوق ركام الدمار والانهيار.
السلطة اللبنانية ومنظومتها الحاكمة تستدعي الخارج عند كل منعطف وانفجار في البلد. هكذا كان الوضع اللبناني منذ ما بعد خروج إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000، حيث جرى استثمار الواقع الجديد وتوظيفه في رعاية سلطة الوصاية السورية، فاهتز أمن اللبنانيين، وزادت مصائبهم مع اغتيالات 2005 على رغم مطالبتهم بكشف الحقيقة وتحقيق العدالة. ومنذ ذلك الوقت كان الإنقسام السياسي والطائفي يفجر أزمات كبرى، فكشرت قوى السلطة عن فسادها وأمسكت ميليشيات الامر الواقع وقوى السلاح بالبلد في أيار 2008. والحصيلة أنه يتم، عند كل انفجار كبير في لبنان بين قوى المنظومة الحاكمة نفسها، استحضار الخارج لإيجاد حل وتسوية تسعى السلطة معها إلى انقاذ نفسها وتعويم وضعها على حساب اللبنانيين أنفسهم، فيخسر البلد من رصيده، وهو اليوم في القعر مع جملة المصاعب والمصائب التي يعانيها، وأقربها الإنفجار الكارثة والخسائر البشرية والدمار. وها هي السلطة تؤكد عجزها وعدم قدرتها على الإنقاذ وفشلها في حماية المواطنين، وهي تساهم في تعريض لبنان للخطر والانهيار بإدخاله في أتون الصراع الإقليمي، فيما أوضاعه الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية في الحضيض. هذا كله يحصل فيما أركان الطبقة السياسية والمنظومة الحاكمة وقواها يبحثون عن مصالحهم وحصصهم فوق الجثث والركام والنار.
تستقيل السلطة وهي لا تنحاز لمصالح اللبنانيين، بل تتآمر عليهم، فتترك الفلتان يغزو المناطق، وتسلك قوى الأمر الواقع الحدود وتحاصص في الكهرباء والتعيينات وتراكم الازمات وتكسر ساحات الانتفاضة من أهلها، وتميّع بالتواطؤ مطالب اللبنانيين بالتغيير وبدولة عادلة وقضاء مستقل وبمكافحة الفساد والهدر، وبالامن والامان، وتغرق البلد بمزيد من الازمات المالية وتكرّس أعرافاً ضد الحريات والديموقراطية. السلطة تمارس الحكم ضد اللبنانيين وهي مسؤولة بالدرجة الأولى عما حل بالبلد، ولا تقوى على الاعتراف بأنها أخذته إلى الهاوية. ولا حل للبنان إلا بتفكيكها ورحيل المنظومة الفاسدة وإزالة موبقاتها واسقاط هيمنتها حتى يمكن البناء من جديد والخروج من تحت الركام.
النهار