سمير عطا الله

هو أدرى، المسيو لودريان – سمير عطاالله – النهار

قبل ثلاث سنوات انتخبت فرنسا شاباً مجهولاً يدعى ايمانويل ماكرون، رئيساً للجمهورية. كان الوجه المغمور مفاجأة للعالم، في سلسلة رجال الجمهورية الخامسة التي أعلنها ديغول العام 1958، لكن تلك كانت عادة فرنسا في اطلاق “الموضة”. منذ ان انقلبت على الملكية باسم الثورة والشعب، لم تكف عن التململ تحت شعار التغيير. حتى ديغول، المنقذ من الاحتلال النازي والخيانة البيتانية والذي انتزع الفرنك من هزاله، حتى هو، انفجر الفرنسيون في وجهه، وهتفوا لسقوطه، ومضى الى قريته قامة فوق الجميع، لا يتنازل، لا يساوم، ولا يحيد.

اسس ديغول الجمهورية الخامسة، بعد عقود من تغير الجمهوريات. وخجلاً منه، ووفاء للقيم التي تركها في مسيرته الطويلة، لم يتجرأ أحد على الخروج منها. حتى الاشتراكي فرنسوا ميتران. الذي تغيّر هو الحزب الديغولي وغيّر اسمه وشعاره تماشياً مع بداهة الحداثة. ولم تعد صورة الاليزيه، سيدة أولى مثل ايفون ديغول، ترفض دعوة وزير الى العشاء في الاليزيه لأنه طلق زوجته، بل جاء نيكولا ساركوزي متأبطاً مغنية ايطالية حسناء، وتبعه فرنسوا هولاند، ومعه خليلته وابناء من دون زواج مدني، كانوا يسمّون في الادبيات “ابناء غير شرعيين”. وفي الجارة الايطالية يعرفون بـ”أبناء الحرام”.




تتغير الأزمنة، إذن. هكذا انتخبت فرنسا، شاباً، لا هو ديغولي ولا اشتراكي، ولا ينتمي الى أي من مواصفات الجمهورية الخامسة، سوى انه – إذا شئت – يشبه جورج بومبيدو، الخلف الأول، في كونه خريج فلسفة ومصرفياً سابقاً لدى آل روتشيلد.

شكل ماكرون حكومته الأولى، كما هو متوقع، من شباب مثله. أعطاهم الدفاع والعدلية والثقافة وتلك الحقائب التي تُحسب عادة على شخصية الرئيس. الوزارة التي لم تعط لشاب، كانت الخارجية، التي أعطيت لإشتراكي قديم، هو جان – إيف لودريان. لا مجال للاجتهادات في الكي دورسيه. ولا للخطأ. ولا للعبث بعلاقات فرنسا.

هكذا سلّم الشاب المولود العام 1977 “كرة البلور” الى رجل في السبعين من العمر. ولذلك غيَّر حكومته. لكن الكي دورسيه أبقى في عهدة الرجل الذي جاءنا الاسبوع الماضي. وتشمل زيارات وزراء الخارجية الضيوف عادة، وفقاً لبروتوكول لا شبيه له، الرئاسات الثلاث ووزير الخارجية. وفي زمن شديد التجاذب والاضطراب والحساسيات، أضاف المبعوث الفرنسي، بكركي، تلك الحليفة الأولى قبل مائة عام، في اقامة لبنان الكبير.

لم تخالف فرنسا نظامها العلماني وشروطه وفروضه، إلا حين يتعلق الأمر بهذا الخليج الجميل على المتوسط. مرة أرسلت مفوَّضاً سامياً يدعى موريس ساراي رفض حضور القداس السنوي في بكركي. فاعترض الصرح، وأعيد ساراي الى باريس. كأنما ثمة دلالة تاريخية ما، في أن يعلن المسيو لودريان، دعم دعوة بكركي الى الحياد، متجاهلاً مواقف الرؤساء الثلاثة الذين قام بزيارتهم، وموقف نده الوزير ناصيف حتي. هل يجب ان نعطي هذه “المخالفة” البروتوكولية، أهمية اضافية غير الأهميات و”المخالفات” الأخرى التي تعمدها الزائر؟ كان يحمل إلينا بنفسه، مثلاً، مساعدات المدارس المهددة بالاغلاق، وكأننا في الأيام الأولى من 1920، لا نملك ثمن العلم إلا من عطف الارساليات ومدارس التبشير؟

ماذا يجعل وزير خارجية فرنسا يخالف أعرافه، لا أعرافنا، فيأتي مثل “برقية” فرنسي تقليدي صارم، حاملاً المساعدة في يد، والتأديب في يد أخرى، مندداً بفشل المدرسة التي حسب أنه اطمأن الى نظامها؟ ماذا حدث للبنان، هذه الدرة التي أعطتها فرنسا دستورها ونماذج جيشها ودركها وجامعاتها وكلية الطب وصحفها؟

لم تُلتقط للمسيو لودريان صورة واحدة وهو يبتسم. ولو فعل لكنا تساءلنا، لماذا يبتسم هذا الرجل؟ لا شيء، اطلاقاً، لا شيء، يدعو ولو الى افترار شفة، على مدى هذا البساط الملون، الذي أعطى الفرنكوفونية، أكثر مما أعطتها أي دولة أخرى. بما فيها مصر في عصرها الكوسموبوليتي. صحيح ان اللغة تركت أثراً أوسع في بعض المغرب العربي، او في كندا الفرنسية، لكن على صغر حجمه وقلة عدده، ظل لبنان يَبْرق في باريس دون توقف، من شكري غانم الى أمين معلوف مروراً بذلك الساحر جورج شحاده، الذي كتب للفرنسيين “مهاجر بريسبان” ، وظل يخسر رهاناته في سباق الخيل، سواء في “لونشان” أو قرب حرج بيروت.

أخيراً كان للبنان من يزوره. ضيف على هذا المستوى، وضيف في مثل هذا الصيف. كنا نعتقد أن هذه العاصمة التي كانت على طريق العالم، لم تعد على طريق أحد. ومن يخطر له المجيء إذا كان يشاهد شيئاً من نشرة الأخبار وأنباء العفن؟ ومن يريد ان يسمع المزيد من العلك وما تجود به الاحناك المملة من اجترار؟

كان قرب باب ادريس شيء يسمى “سوق الفرنج”. وفي الطريق الى “النهار”القديم في “سوق الطويلة”، كنا نشاهد ضيوف بيروت، يتمشون هناك: كأن تقول شارل ازنافور، المرة بعد الأخرى. كأن تقول المسرحي بيار براسور، بقامته العملاقة. أو كأن تقول ميراي ماتيو أو دلفين سيريغ. أو كأن تقول ما شئت ان تقول. هل نذكّر وزير فرنسا، أن المسيو لوي فودابل صاحب “مكسيم” كان يأتي الى هنا ليمتّع النفس بغداء في “البريستول”، أو عشاء في اللوكولوس”، من غير أن ينسى أن يطلب طريقة التحضير!

كيف أعرف ذلك؟ كان هناك صحافي شاب يقابل جميع هؤلاء، من غير أن ينتبه، أو يعي، للحظة، انه يلتقي أسماء العالم. أما الآن فلا استطيع إلاّ أن أتذكرهم وأنا أشاهد نشرة الأخبار. أو بالحقيقة ما أقوى على مشاهدته منها. وهذه تقّل، وتكاد تنعدم.

ماذا جاء لودريان يفعل في بيروت؟ إنه أدرى منا بكثير، بما صرنا إليه. ولست أشك لحظة واحدة في أننا في مكتبه على مؤشر مع دولة فرانكوفونية اخرى هي الكونغو: الافلاس نفسه. المستوى نفسه من الفساد. المدى نفسه من انهيار البلد والدولة. وموقف السياسيين نفسه من أوضاع الناس وحالاتهم.

لا نريد الاستمرار في نقل تغريدات وليد جنبلاط لئلا نخالف قانون الملكية. لكنه غرد قبل أيام انه في احزن لحظات حياته. هو الذي غرد أيضاً عن حكومة اللاشيء. دنيا اللاشيء. حياة اللاشيء. الحقيقة أنني لا أفهم كل هذا السواد. أنا شخصياً كنت مثله أيضاً، إلى ان أعلن الدكتور حسان دياب انه لن يستقيل- لا الآن ولا بعد سنتين. فرحة مريعة، لم يحدّ منها إلا الخوف. ماذا سيفعل لبنان بعد عامين، إذا، لا سمح لها، خطر للدكتور ان يخلي السرايا الكبيرة؟