
ابراهيم حيدر – النهار
عندما تحدث رئيس الحكومة حسان دياب عن الإنقلاب، وأن هناك من يريد الانقضاض على الانتفاضة، لم يتطرق الى ما خضع له من إعادة تمرير معمل سلعاتا، ولا تمريره لسلة التعيينات التي شكلت محاصصة فاقعة لقوى الممانعة. لم يذكر دياب القوى التي كانت تحضر للانقلاب في الليالي السوداء وأولئك الذين يريدون العودة الى ما قبل 17 تشرين الأول والذين يريدون إنهاء الانتفاضة، في ما اذا هم الذين سموه رئيساً للحكومة أو آخرين نزلوا من الفضاء. المهم أن رئيس الحكومة قال ما عنده ليبرئ نفسه، فهناك من يسعى الى استعادة مفاتيح هيكل الفساد، لكنه لم يقل من حاول قلب المشهد وما إذا كان يمارس صلاحياته في الرئاسة الثالثة أو انه صاحب القرار عندما يوقع على محاصصة التعيينات الفاسدة وفق سياسي لبناني متابع، فهو جزء من المشهد الذي انقض على الانتفاضة ولم يحرك ساكنا ليتمترس خلف كلام الفتنة والانقلاب.
وأياً يكن ما يقصده دياب بالانقلابيين، الا ان المشهد الذي ظهر في البلد منذ 6 حزيران الماضي يدل على أن قوى الممانعة قلبت الأمور في البلد، خصوصاً “حزب الله” الذي أعلن في شكل غير مباشر تبرؤه من الذين مارسوا التخريب واحراق المحال في وسط بيروت، لكنه أمسك بالارض وثبت سيطرته محولاً بعض التظاهرات التي طاولته أو استهدفته الى وجهة مختلفة، وذلك على رغم أن قوى أخرى حاولت أن تضغط على الأرض بالتوازي وباستهدافات مغايرة ضد الحكومة ورئيسها، وفي مقدمها “المستقبل” و”القوات” وبحسابات مختلفة الا انهما تراجعا بعد الهجمة الكبيرة على الارض وانزلاق الأمور الى العنف والفوضى، ما يعني أن الحزب وحلفاؤه تمكنا من تكريس واقع جديد يؤكد إمساكه بالقرار، وهذا ما شجع حسان دياب على القاء كلمة للبنانيين للهجوم على قوى لم يسمها وهو يقصد ذلك لكنه يؤشر الى قوى السنية السياسية، والى حاكمية مصرف لبنان التي يتهمها بالتلاعب بالعملة الوطنية وحجب الدولار من السوق، وهو الذي كان يطالب بإقالة رياض سلامة، ويغيّب في الوقت نفسه قوى الوصاية على الحكومة التي تدير صراعاً يتخطى المحلي الى الاقليمي والدولي لا سيما المواجهة مع الاميركيين.
رست الامور في المواجهة الأخيرة على واقع محدد، كانت انتفاضة 17 تشرين الأول الخاسر الأكبر فيها. فقد تمكن الحزب مثلاً وفق السياسي من إعادة توجيه المعركة ضد مصرف لبنان والمصارف كهدف أساسي للتظاهرات، وانجر معه بعض اليسار الممانع في الانتفاضة، وكأنه كرس خطوطاً في المواجهة مع الأميركيين، تضاف إلى ما تكرس في التعيينات التي مررها رئيس الحكومة بلا أي اعتراض ومن بينها أسماء لنيابة حاكم مصرف لبنان يسلمون بالكامل لقوى الممانعة. وهذا يعني وفق السياسي المتابع أن “حزب الله” قرر المواجهة من قلب الحكومة، وهو أخذها بموافقة رئيسها الى رفض كل ما يطالب به الاميركيون خصوصاً مع بدء تطبيق “قانون قيصر” مستبقاً أي محاولة لدفع الحكومة إلى التفاوض حول ضبط الحدود غير الشرعية وأخذ النقاش الى مكان آخر في الداخل شكل مصرف لبنان عنوانه الرئيسي، وذلك بعد السجال حول اقالته، علماً أن الحزب له مطالب واستهدافات أخرى يريد من الحاكم تنفيذها والسير بها، وهو ما حصل في ما يتعلق بإعادة التعامل مع السوق عبر ضخ الدولارات. ومن هنا يمكن تفسير ما حصل يومي الخميس والجمعة الماضيين حين وصل الضغط الى ذروته في الشارع من خارج جمهور الانتفاضة مصوباً على مصرف لبنان ومحولاً وسط بيروت الى ساحة حرب، وان كان أدان التخريب والتكسير والاحراق.
المهم بالنسبة إلى القوى التي تمسك بالسلطة اليوم، أنها حققت على الأرض ما عملت من أجله طوال الاسابيع الماضية، وكرسته أمراًواقعاً. فيومي الخميس والجمعة، وما جرى تقديمه في 6 حزيران قبلهما، لجهة التفلت والفوضى، أديا الوظيفة المحددة، إذ أن “حزب الله” يسعى الى تحصين وضعه من خلال الحكومة والاستمرار في دعم النظام السوري من دون مساءلة عن المعابر الحدودية، فيما الضغوط الاميركية على البلد قد تصل الى ذروتها من خلال قانون قيصر، وهو فرض على الحكم السير في سياسته ضمن مصالح متبادلة في ما يتعلق بالتعيينات وبالموقف من حاكمية مصرف لبنان، ما يعني أنه قرر استخدام كل الأوراق المتاحة في المواجهة، ولا يكترث لمساعي جبران باسيل مثلا فتح خطوط مع الادارة الاميركية والتقرب اليها في بعض القضايا. ويشير السياسي إلى أن ما حصل من تعيينات مالية وغيرها وكذلك في ما يتعلق بالحدود البرية أغضب الأميركيين، وهو ما قد يزيد من حجم العقوبات على لبنان، وفتح ملفات أخرى للضغط على الحزب وأنصاره.
لعل ما حصل في الشارع أخيراً يكرس واقعاً جديداً ضحيته الانتفاضة، فليلة القبض على البلد بقدر ما كانت تستهدف الضغط في الملف المالي، بقدر ما شكلت مصادرة للانتفاضة وتقاسمها. وإذا كان ارتفاع سعر الدولار الأميركي حرك الشارع، إلا أن المعركة كانت واضحة والتقت حولها أطراف عديدة، علماً أن الثنائي الشيعي يستطيع تحريك الشارع أكثر من غيره، خصوصاً “حزب الله”. وفي المحصلة ان بعض مجموعات الانتفاضة توهمت ان جمهور الطوائف الذي نزل إلى الساحات استجاب لدعواتها في الساحات، ليتبين أن من يحركه منازلة واصطفافات لتحسين مواقع السيطرة، وقد حسم الامر لقوى الممانعة اي “حزب الله” الذي سعى الى محاصرة مصرف لبنان والقطاع المصرفي انطلاقاً من تعزيز أوراقه في المواجهة مع الأميركيين، واستقرت الامور على معادلة بقاء رياض سلامة بخضوعه لشروط الحكم والحكومة، ثم تعويم الحكومة الحالية التي خرج رئيسها ليتحدث عن انقلاب من الذين يريدون استمرار واقع الفساد. أما الخاسر الأكبر فهو الانتفاضة التي راهن بعض مجموعاتها على السير بالمعركة ضد المصرف بما يعني اصطفافا مع جهة ضد أخرى، في وقت استمرت المحاصصة ومعها التهريب والفساد. والاخطر أن البلد بات مشرعاً أكثر على الفوضى، الى حد أن البعض في الحكم والحكومة لا يكترث لتعرية البلد امام الخارج في رهانات تزيد من حجم الانهيار الذي يصعب السيطرة عليه…