
سابين عويس – النهار
اذا كانت فضيحة التفاوت في تحديد حجم الخسائر بين خطة الحكومة والمصرف المركزي والمصارف استدعت تدخل بعبدا، في مسعى للملمة التداعيات الكارثية الناجمة عن افتقاد الحكومة للدقة في التعامل مع الارقام التي في حوزتها، ما كشف لبنان امام صندوق النقد الدولي وأضعف موقعه التفاوضي، فإن دخول بعبدا على الخط، والذي يستكمل باجتماع ثان اليوم للمسؤولين المعنيين بالملف، لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة جهود ومبادرات فردية دخلت بدورها على خط المعالجة، وأثمرت قراءة اكثر واقعية للأرقام، لتخلص الى نتائج، من شأنها اذا تم تبنيها، فرض تعاطٍ مختلف مع الازمة المالية الناشئة.
منذ ان نشرت خطة الحكومة، وتبينت فيها النيات الرسمية في التعاطي مع خسائر المصرف المركزي والقطاع المالي، بدا واضحاً ان الارقام المعلنة لا يمكن الاستناد اليها للبناء للمستقبل، وان عملية الاحتساب التي اعتمدت تعاملت مع الازمة على اساس تصفية وليس إنقاذ. وكان للصدمة التي احدثتها لجهة إعلانها افلاس المصارف والمركزي ان اثارت حالة من الذعر، على خلفية المخاوف من العقل الاقتصادي الذي سيدير البلد واقتصاده نحو التعافي.
ضيق الوقت بين اقرار الخطة وبدء المفاوضات على اساسها مع صندوق النقد أحرج الوسط الاقتصادي والمالي والنيابي الذي لم يتح له قراءة الخطة بترو وامعان، من دون ان يعني ذلك ان القراءة الأولية لم تلق اعتراضا واسعا في هذا الوسط ولا سيما النيابي، الذي ستعود له في النهاية كلمة الفصل.
من نواة صغيرة اقترحها النائب نقولا نحاس، بدأت تتظهر قراءة اكثر واقعية لعملية احتساب الخسائر انطلاقا من معادلة تقييم الموجودات والمطلوبات. وتوسعت هذه النواة الى دائرة اكبر كان مسرحها لجنة فرعية للجنة المال والموازنة ، توسعت اكثر الى اللجنة بمن باتت تجمعه حولها من نواب بات عددهم يتجاوز الخمسين نائباً، في محاولة لفهم المسار الذي تخطه الحكومة للبلاد.
كان واضحاً منذ بداية الطريق ان الخطة الحكومية كُتبت ليقرأها صندوق النقد وليرضى عنها، بحيث جاءت مطابقة لما يقترحه عادة وهو معروف: الدخول في برنامج على “نظيف”، اي تصفير كل الحسابات والبدء من الصفر، حتى لو كان الامر على حساب تصفية دم المصارف ومعهم المودعين، ولا سيما الصغار منهم، ما دامت الخطة قدمت مخارج لاموال بعض المساهمين الكبار عبر منح رخص مصرفية جديدة!
عندما اكتشف النواة الصغيرة التي اقترحها نحاس، تبين ان الخسائر المقدرة في الخطة بحجم ٢٤٠ الف مليار ليرة ، لا تتجاوز ١٠٤ آلاف!. وكان لا بد بالنسبة الى نحاس وبعد التشاور مع عدد من النواب ان يوضع الملف في عهدة لجنة المال والموازنة. وهكذا كان، حيث تلقف رئيس اللجنة ابرهيم كنعان الموضوع ووجه الدعوات الى وزارة المال والمصرف المركزي وجمعية المصارف للمشاركة.
في أولى الجلسات، أوضح الامين العام لجمعية المصارف مكرم صادر ان هناك ازدواجية في احتساب الخسائر، وان ارقام الخطة غير ثابتة. وبعدما أبدى نواب ملاحظاتهم واعتراضاتهم، لفت طلب المدير العام لوزارة المال الان بيفاني مهلة ٣ ايام للتأكد منها!
كان الهدف الأساسي من تلك الاجتماعات الوصول الى توحيد الارقام، وفق نحاس الذي أضاف انه بعد النقاشات، تبين لنا ان الارقام ليست جوهر الموضوع بل المقاربة والخيارات والمبادئ التي ستعتمد، مشيرا الى ان كل من خسائر الدولة والمركزي والمصارف تحتاج الى مقاربة مختلفة، ما قادنا الى خلاصة انه يجب اعادة النظر بالخيارات والمقاربات والارقام ليست سوى وجهة نظر.
وينطلق النواب من مبدأ انه لا يمكن الذهاب الى برنامج مع صندوق النقد من دون دعم المجلس النيابي. عند هذا المستوى، كان لا بد من رفع التحرك الى مستوى اعلى، فكان التوجه نحو بعبدا حيث بادر رئيس الجمهورية الى تلقف الموضوع والدعوة الى اجتماع اول ثم ثان اليوم من اجل الوصول الى توحيد المقاربات والارقام.
ماذا تبين الارقام وفق الجدول المرفق؟
بحسب مقاربة الحكومة، وزعت الخطة الخسائر كالتالي: سندات اوروبوند: ١٦،٦ مليار دولار منها ٥ مليارات دولار على المركزي، و١١،٦ مليارا على المصارف.
سندات بالليرة ٥٨ الف مليار ليرة، منها ١٧،٦ الف مليار يحملها المركزي، و٤٠ الف مليار تحملها المصارف. بعملية الهيركات المقترحة بنسبة ٧٥ في المئة، تشطب الخطة ٤٣ الف مليارا ( ١٣ الف مليارا من المركزي و٣٠،٥ الف مليار من المصارف).
سندات الخزينة بالليرة: ٥٠ الف مليار يحملها المركزي و٢١ الف مليار تحملها المصارف، بعد الاقتطاع بنسبة ٤٠ في المئة، تصبح الخسارة ٢٠ الف مليار للمركزي و٨،٦ آلاف مليار المصارف، ليصبح مجموع خسائر المركزي ٣٣،٤ الف مليار ليرة والمصارف ٣٩ ألفا اي ما مجموعه ٧٢،٦ الف مليار ليرة.
في بند الموجودات الاخرى للمصرف المركزي، والذي يشكل عمليا الخسائر غير المعترف بها، باعتبار انه يمكن اعادة تحصيلها وفق مفاهيم عمل المصارف المركزية، ٤٧،٩ الف مليار ليرة، يضاف اليها خسائر دعم الليرة والهندسات المالية البالغة ١٨ الف مليار ليرة، اي ما مجموعه ٦٦ الف مليار ليرة، تقترح الخطة تصفيتها فورا.
على محور المصارف، تشكل الديون المشكوك بأمرها ٢٣ الف مليار ليرة وبالدولار ما يعادل ١٠٧ مليار ليرة اي ما مجموعه ١٣٠ الف مليار ليرة، اعتبرت الخطة ان ٣٠ في المئة منها هالكة.
في بند المطلوبات والموجودات، تحتسب الخطة موجودات المركزي بخمسين مليار دولار ( الذهب، احتياطات)، فيما المطلوبات ٨٩ مليارا ، ليصبح الصافي ٣٨،٩ مليارا او ما يعادل ٧٧ الف مليار ليرة. اما موجودات المصارف فقدرت ب١٣٤ مليار دولار والمطلوبات ب١٢٦ مليارا والفارق ٧ مليارات او ما يوازي ١٥ الف مليار ليرة.
يشكل مجموع خسائر المركزي والمصارف وفق الخطة ٢٤٠،٨ الف مليار ليرة.
في الخيار البديل الذي اقترحه نحاس، ان تخفض نسبة الهيركات من ٧٥ الى ٦٠ في النئة على الاوروبوند ومن ٤٠ الى ٣٠ في المئة على سندات الخزينة، فتتراجع بذلك الخسائر من ٧٢،٦٧٧ الف مليار ليرة الى ٥٦،٦٩٥ ألفا على سندات الدين. اما على ميزانية المركزي، فلم تحتسب الخطة اصوله من الذهب ومن النقد بالتداول ومؤؤنات الامور الطارئة وتبلغ ٣٢ الف مليار ليرة، ما يسمح بخفض الخسائر من ٦٦ الف مليارا الى ٣٢ الفا.
ويلحظ هذا الخيار كذلك ديون القطاع الخاص، فيخفض نسبة القروض الهالكة او المشكوك بتحصيلها لا سيما تلك التي تقابلها ضمانات، ما يتيح خفض خسائر المصارف الى ١٥ الف مليارا بدلا من ٤٠ الفا.
ويحتسب هذا الخيار مطلوبات المركزي ب٤٧ مليار دولار بدلا من ٨٩،٤ مليارا مقترحة في الخطة على اساس ان هناك ٣٣ مليارا تستحق بين سنة ٢٠٢٠ و٢٠٤٠. ما يسمح للمركزي بتحقيق وفر ب٦،٩ آلاف مليار بدلا من خسارة ب٧٧ الف مليارا. وبهذه العملية، تتراجع الخسائر الى ٨١،٢٩٩ الف مليار ليرة بدلا من ٢٤٠ الف مليار !
وينتظر ان تكون هذه الارقام التي تمت مناقشتها والتوافق على المقاربة التي اعتمدتها كأحد النماذج المتاحة للبناء عليه والتفاوض على اساسه، على طاولة قصر بعبدا، حيث يؤمل ان يتم توحيد الارقام انطلاقا منها، مما يخفف كثيرا حجم الازمة ( من دون ان يلغيها)، ويستعيد شيئا من الثقة التي ضربتها خطة الحكومة بمقاربتها المتناقضة!