
سلوى بعلبكي – النهار
يهيمن على عقل اللبناني حالياً هاجسان: هاجس ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، وهاجس ضياع أو تناقص ودائعه في المصارف اللبنانية التي تمارس عليه تقنيناً حاداً وتعاند قدر استطاعتها في عدم إخراج الدولار من خزائنها. وجاء كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن عدم يقينه بالمدى الذي سيبلغه سعر صرف الدولار في السوق السوداء ولدى الصرافين ليزيد الشكوك حيال وضع الليرة وقدرتها على جبه الضغوط التي تتعرض لها. لكن الحاكم الذي طمأن اللبنانيين عبر “النهار” الى أن سعر الدولار في المصارف سيبقى مستقرا عند مستواه الحالي المعلن رسمياً من البنك المركزي، كانت له سلسلة من المواقف المطمئنة حول ودائع اللبنانيين في المصارف، إذ نفى كل ما يشاع عن توجه لدى القطاع المصرفي لحظر التعامل بالدولار النقدي مع الزبائن، وحصر التعامل ببطاقات الائتمان والشيكات والتحاويل المصرفية، كما أكد أن ليس ثمة نية في وقف مد العملاء بالدولار في السنة الجديدة، ولا صحة لما يشاع عن تحويل قسري للودائع بالدولار الى الليرة اللبنانية. ولكن يبقى السؤال: إذاً الى أين يتجه سعر صرف الدولار في الفترة المقبلة؟ وما مدى قدرة الدولة ومعها المصرف المركزي على ضبط تفلّته؟ “النهار” سألت عدداً من الخبراء الاقتصاديين الذين أجمعوا على أن سعر الدولار يمكن أن يرتفع في ظل حاجة التجار اليه لزوم تمويل مستورداتهم واضطرارهم للجوء الى السوق السوداء لتأمينه بأسعار مرتفعة، ويعول هؤلاء على الحكومة العتيدة لضبط الامور والأسواق الموازية لصرف العملة، ووضع خطة علمية وجدية للمعالجة.
وقبل تفصيل ما قاله الخبراء في هذا الصدد، برز توضيح لمصادر مصرف لبنان عن أنّ كلام الحاكم بعد لقائه لجنة المال والموازنة “لا يعني إطلاقاً أيّ تغيير في سعر صرف الليرة الرسمي والمحدد عند 1507.50، وإنّما جاء رداً على سؤال حول سعر الصرف لدى الصرافين تحديداً”. إلا أن سلامة أكد لـ”النهار” أن “سعر الدولار سيبقى مستقراً في المصارف، ولكن لا يمكن مصرف لبنان التحكم بسعره لدى الصرافين”.
وجهة الدولار صعودا أو نزولا مرتبطة برأي الخبير الاقتصادي جاد شعبان بقدرة القطاع المصرفي ومصرف لبنان على تأمين السيولة للتجار الذين يضطرون حاليا الى اللجوء الى السوق السوداء لشراء الدولار لزوم مستورداتهم… “وإلا سوف نشهد ارتفاعا كبيرا في سعر صرف الدولار نظرا الى الطلب الكبير عليه من التجار والصناعيين”.
واعتبر ان ما يحصل “سببه الجمود الحاصل، والتقنين الجزئي لحاجات السوق، علما أن التاجر هو المتضرر الاكبر من هذا الوضع الذي ينعكس بدوره على المستهلك. فـالتاجر الملزم شراء البضاعة بالعملة الصعبة بات مضطرا في ظل التقنين الذي تمارسه المصارف الى شراء الدولار من خارج اطار القطاع المصرفي بسعر يتجاوز احيانا الالفي ليرة، كما أصبح مرغما على رفع الاسعار بما أدى الى تراجع القدرة الشرائية وارتفاع نسبة التضخم”.
أمام هذا الواقع، بات لزاما وفق ما يقول شعبان، عقد اجتماعات يومية على صعيد مصرف لبنان وسائر القطاع المصرفي ووزارة المال بغية وضع خطط واضحة لتأمين السيولة وحفظ حقوق الناس وايداعاتهم، مقترحا “وضع خطة تقضي بمصارحة المودعين بالأزمة التي نعانيها والاجراءات المطلوب اتخاذها، ووضع قيود مصرفية لفترة محددة تطبق على الجميع من دون استنسابية”. وفي مقابل هذه القيود اقترح شعبان “تأمين سيولة من الخارج من خلال قروض مدعومة من دول مانحة عبر صناديق دولية لزوم الاستيراد بفوائد متدنية، واعادة النظر بهيكلية القطاع المصرفي لتأمين ربحيته واعادة تنظيمه عبر اعادة هيكلة المصارف المعرضة للتعثر، ومن ثم توسيع مروحة كمية السحوبات للمودعين”.
وفيما طمأن حاكم مصرف لبنان الى أن “المركزي” يعمل على معالجة الأزمة “تدريجا”، آملا في “أن تساهم قرارات زيادة رأس مال المصارف في تحسين اوضاع الاقتصاد”، عوّل شعبان على الاجراءات التي يمكن أن يتخذها مصرف لبنان الذي لا يزال قادرا على تأمين السيولة المطلوبة واعادة تنظيم القطاع المصرفي من خلال الاجراءات التي يمكن أن يتخذها لتأمين الشفافية ومحاسبة المصارف على كل القيود التي فرضتها، لكنه لم يستغرب امكان تعثر بعض المصارف الكبيرة خصوصا في حال تهافت الناس على سحب ايداعاتهم، وخصوصا ايضا في المصارف التي تشهد تجميدا لأموالهم بديون للدولة والقطاع الخاص.
الدولار الى أين؟ هذا السؤال أعاد الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان بالذاكرة الى سنة 1992 التي شهدت تدهورا متتاليا لسعر الصرف (نحو 900 مرة) ووصل في أيلول من العام عينه الى 2800 ليرة، بعدما كان سعره 3 ليرات. “في تلك الفترة كانت المخاطر على المصارف في مكان والمخاطر على الدولة في مكان آخر. أما حاليا، فإن “الزواج الكاثوليكي” بين المصارف والدولة والذي لعبت فيه الاولى دور الممول لنفقات جارية لأمور غير اساسية، أوصل الاوضاع لأن تصبح المخاطر واحدة، فإذا اصيب القطاع بنكسة تضررت معه الدولة والعكس صحيح، أي ان المخاطر باتت لا تتجزأ بين الجانبين، وهذا ما يعزز المخاوف”.
هل هذا يعني أن الدولار سيرتفع؟ يقول حمدان ان الفراغ في القرار السياسي والاقتصادي يطلق العنان لاحتمال تدهور حاد في سعر الليرة، وما يعزز المخاوف ايضا هو تاريخ لبنان مع تدهور سعر العملة خصوصا مع تدهور سعر الليرة خصوصا خلال الحرب الاهلية وبُعيدها. لكنه يعود فيستدرك أن “هذا الامر لا يعني أن الدولار سيرتفع خلال الفترة القصيرة المقبلة، إلا أن البيئة والظروف المحيطة بسعر الصرف تثير المخاوف”.
هل من أمل في تغيير المعادلة؟ يأمل حمدان في حكومة “تضم قامات عالية لديهم خبرة واختصاصيين من خارج النادي السياسي، تضع يدها على الملف الاقتصادي والمالي من خلال وضع جردة لوضع الدولة المالي ووضع مصرف لبنان وحساباته وكذلك حسابات المصارف، وعلاقتنا المالية مع الخارج، على أن تبدأ بوضع خطة للتعامل مع هذه المشكلات واحدة واحدة”، مؤكدا “أهمية أن تكون مكونات الحكومة منسجمة تتولى وضع خطط لفكفكة هذه العقد، وحينها يمكن أن نتجنب المحظور الكبير”.
ولا يستغرب حمدان وقوع لبنان في هذه الازمة، “بعدما كان لدينا حنفيات مفتوحة خلال ربع قرن وتجلت بالاستثمار الاجنبي المباشر، وتحاويل المغتربين وصادراتنا للخدمات، فضلا عن موجات متتابعة من القروض التي أدخلت العملة الصعبة الى البلاد، اما حاليا فإننا أصبحنا في وضع غير طبيعي، خصوصا ان معظم هذه المصادر جفت، فيما نستورد معظم حاجاتنا من الخارج”. لذا يرى حمدان ضرورة أن تلتفت الحكومة العتيدة الى ترشيد الاستيراد خصوصا الاستيراد الاستهلاكي، ويقول: “يجب ان تخضع تجارتنا الخارجية لدراسة تفصيلية لتخفيف ما أمكن من المستوردات غير الضرورية. اذا لم يكن عامل الزمن الناظم الاساسي للقرارات التي يجب أن تتخذها الحكومة بما يمكنها من ايجاد فارق خلال أشهر بنمط استيرادنا وانفاقنا واستهلاكنا، فإننا ذاهبون بالتأكيد نحو أوضاع صعبة”.
لم يكن جواب الحاكم ردا على سؤال الى اين يمكن أن يصل سعر الدولار بالقول “لا احد يعرف” مستغربا لدى الخبير الاقتصادي الدكتور مروان اسكندر، خصوصا أنه “يخضع لحجم المضاربة لدى الصرافين الذين يتحكمون حاليا بأسعار الصرف”. وعزا سبب الازمة المالية المصرفية الى “قرارات جمعية المصارف التي قررت اغلاق أبوابها اسبوعين”، علما أن هذا الامر أكده الحاكم، إذ أشار الى أن اقفال المصارف خلال هذه الفترة خلق اضطرابات في السوق. كما أشار اسكندر الى قرارات الجمعية حيال “تقنين اعطاء الدولار للمودعين، وتقييد تحويلاتهم الى الخارج”. وبرأيه أن الدولار سيرتفع، بسبب العجز في ميزان المدفوعات، “إذ ليس لدينا الدولارات الكافية للاستيراد في ظل عدم توافر الأموال للاستثمارات والتحاويل من الخارج”. وتوقع “عزوف المغتربين عن تحويل أموالهم عبر المصارف بسبب القيود التي تفرضها على تسليم الدولار للزبائن، خصوصا ان بعضها يعطي التحاويل بالليرة، وبالسعر الذي ترتئيه اداراته”.
وختم: “طالما ليس لدينا استثمار خارجي لمشاريع جديدة سيبقى العجز، بما يعني أن الضغط سيستمر على الليرة”.