لبنان إلى ”إدارةٍ للفقر” بعد فشل ”إدارة البحبوحة”

سركيس نعوم – النهار

لا يزال الرئيس المُكلّف الدكتور حسان دياب على استقلاليّته وعلى اعتزامه تأليف حكومة اختصاصيّين وربّما مُستقلّين بغالبيّتهم. لكن اللبنانيّين على تناقض مواقفهم السياسيّة الناتج أساساً عن انتماءاتهم الطائفيّة والمذهبيّة المتنوّعة مُقتنعون بأنّ فريق 8 آذار أو بالأحرى قائده “حزب الله” كان عرّاب تكليفه، وسيكون عرّاب الحكومة التي سيُؤلِّفها “بالاتفاق مع رئيس الجمهوريّة” وفقاً للدستور كما بالاتفاق معه بحكم الأمر الواقع الذي يعرفه الجميع، وبحكم الغالبيّة النيابيّة المُتحالفة معه والمؤمنة بقيادته رغم تنوّعها. وهم مُقتنعون أيضاً بأنّ التأليف قد لا يحتاج إلى وقت طويل جرّاء المحاولات التي يقوم بها الرئيس المُكلّف وفي الوقت نفسه “الحزب” لمحاولة توسيع مروحة التأييد للحكومة بإرضاء الرئيس المستقيل سعد الحريري بعدد من الوزراء الاختصاصيّين إذا قَبِلَ، ورغم استمرار ما تبقّى من “الاحتجاج الشعبي الوطني الأكبر في تاريخ لبنان الحديث” في التظاهر وفي إطلاق الشعارات الرافضة، لكن من مُنطلقات الواقع اللبناني الطائفي والمذهبي لا من المُنطلقات الوطنيّة التي ظُنّ أنّ مرحلتها قد بدأت. طبعاً لا يعني ذلك أن “حشريّة” اللبنانيّين لن تدفعهم إلى معرفة تفاصيل “حياكة” تكليف الدكتور دياب ومن قام بها، وهل بدأت من زمان أي يوم كان وزيراً في حكومة اعتبرت لـ”حزب الله” لأنّ تأليفها كان نتيجة انقلاب سياسي على الحريري وحكومته، ومن أقنع به “سيّد” “الحزب” والمقاومة وسيّد رئاسة الجمهوريّة كما سيّد “التيّار الوطني الحر” ووزارة الخارجيّة. وهم ربّما يصلون إلى معرفة ذلك لكن تناقض المصالح حتّى بين الحلفاء قد يحول دون معرفة هذا الموضوع على حقيقته رغم أن تداولاً لأسماء معيّنة قد بدأ في دوائر ضيّقة.




هل ستنجح الحكومة في التصدّي للتردّي الاقتصادي الكيبر وللانهيار المالي – النقدي الذي تسبّبت به الدولة بغيابها وفسادها المُشترك مع الطبقة السياسيّة المتنوّعة، وبقطاعها المصرفي العام والخاص وبجشع اللبنانيّين من أكثرهم فقراً إلى أكثرهم ثراء، والذي غطّته الطائفيّة والمذهبيّة بمرجعيّاتهما السياسيّة والدينيّة في وقت واحد؟ الجواب عن سؤال بهذه الضخامة ليس سهلاً. فمصرف لبنان مُتعثِّر بمعنى أنّه لا يمتلك من العملات الصعبة وفي مقدّمها الدولار الأميركي ما يكفي لـ”سَيْسَرَة” المصارف ومن خلالها المواطنين الذين صاروا عاجزين عن استعمال ودائعهم فيها، وعن قبض مُستحقّاتهم منها، وعن التصرّف فيها وفقاً للنظام الحرّ الذي مارسه لبنان منذ تأسيسه. ومصارف لبنان مُتعثِّرة لأن الموجود في خزائنها من العملات الصعبة لا يكفي لإعطاء الناس حقوقهم، علماً أنّ موجوداتها وأرباحها في الخارج وهذا أمر طبيعي. لكن غير الطبيعي كان إقدامها بـ”التفاهم” كي لا نستعمل كلمة “خادشة” مع الكبار في البلاد في كل الميادين على إخراج كميّات مُهمّة من أموالها إلى الخارج قبل “الكارثة” مع أموال جهات متنوّعة مؤثّرة لمعرفتها أنّ ذلك لن يعود مُتاحاً بعد فترة قصيرة. أمّا دولة لبنان فمُتعثِّرة وفي كل المجالات من زمان بل فاشلة وبكل المقاييس. ويعني ذلك أنّ الحلول التي يُفترض أن تجدها الحكومة الجديدة ليست سهلة. إذ عليها أوّلاً أن تضع خطّة فيها محاسبة واقتراحات عمليّة إنقاذيّة سواء لماليّة الدولة أو للدولة نفسها التي توقّفت ومن زمان عن القيام بواجباتها المتنوّعة كما في دول العالم الأوّل وحتّى الثالث، وحوّلت مؤسّساتها إقطاعات طائفيّة ومذهبيّة ومرتعاً لتوظيف عشوائي ومركزاً لتخريب ثروات لبنان الطبيعيّة ولجني الفوائد الماليّة الضخمة على حسابها. فهل هي قادرة على محاسبة مصرف لبنان وحاكمه إذا كان مُذنباً؟ ومن يُقرِّر استناداً إلى القانون ذنبه أم براءته أو مدى ذنبه؟ ومن يُحقِّق ليرى إذا كان له شركاء داخل الدولة بعدما صارت ثلاث دول على الأقل وخارجها في القطاعات المتنوّعة؟ وهل يمكن أن يتحوَّل مصرف لبنان أو حاكمه “كبش محرقة” تلافياً لكشف غالبيّة الفاسدين في الدولة وطوائفها ومذاهبها وقادتها وأحزابها؟ وهل يُرضي ذلك الشعب بل الشعوب رغم شعورها المتأخّر والناقص كثيراً بالمواطنيّة، تماماً مثلما كان يُرضي الأباطرة وحكّام الاستبداد في العصور الغابرة شعوبهم برمي الفقراء والمغضوب عليهم والمجرمين طعاماً للوحوش أمام الجماهير؟ وهل الدولة نفسها قادرة أو الدول الثلاث قادرة على مُحاسبة قادتها وكبارها والمُتنفّذين فيها سواء على خطاياتهم المميتة وطنيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وخصوصاً على فسادهم؟ هل هي قادرة على القيام بجردة عقاريّة لأملاك من تعاطوا السياسة على الأقل منذ نهاية الحرب عام 1990 حتّى اليوم وبذلك تعرف كل من أفسد واستفاد من موقعه السياسي – الإداري… وهذا أسهل الأمور كخطوة أولى لأنّ ذرّ رماد كشف السريّة المصرفيّة في عيون الناس على النحو الذي جرى لا يُقنع أحداً، ولأن كشف الأموال المنهوبة المودعة خارج لبنان يحتاج إلى سنوات وربّما عقود، فهل تقوم في لبنان دولة جديّة خلال هذه السنوات والعقود؟

في اختصار يتوقّع اقتصاديّون في الأشهر الثلاثة المقبلة خروج نحو ربع مليون لبناني من سوق العمل، وصعوبات اقتصاديّة وماليّة للمستشفيات والشركات والمؤسّسات العائليّة الصغيرة. و”اليد الخفيّة أو غير المرئيّة” Invisible Hand الأجنبيّة التي لا يزال سياسيّون لبنانيّون يعتقدون أنّها ستُنقذ لبنان لم تعد موجودة. فماذا يفعل المسؤولون عن الحكم كما عن خراب الدولة وفساد مواطنيها وشعوبها وإفلاسها؟ علماً أنّ أحداً لا يعرف إذا كانوا يعرفون ماذا عليهم أن يفعلوا. والاقتراح العملي الآن هو تأسيس إدارة وحكومة ومؤسّسات لـ”إدارة الفقر” في لبنان تمهيداً لإعادته إلى حال بحبوحة مع الوقت. فهل تسمح “الكرامة” الوطنيّة بذلك؟