وسام سعادة - القدس العربي

«الطبقة الحاكمة» مفهوم محافظ وخضوعيّ بامتياز – وسام سعادة – القدس العربي

يتكثف في إصلاح «الطبقة السياسيّة» مدى التخبّط الذي عاشته وتعيشه «منازع التغيير»، بخاصة في الحالة اللبنانية، ولا يبدّل في الأمر كثيراً العدول عنه إلى الحديث عن «الطبقة الحاكمة».

فالمفهوم نحته أحد أهم علماء السياسة: الصقلي غايتانو موسكا (1858-1941)، الريادي مع الاقتصادي (في الأساس) فليفريدو باريتو، والسابر للتنظيمات الحزبية والنقابية روبرت ميخيلز، في التأسيس لعلم اجتماع النخب.




ولم يميّز موسكا منهجياً بين «طبقة سياسية» وبين «طبقة حاكمة»، ولو أنّه حمّل المصطلح الأول محمولاً أكثر سلبية من الثاني، ربطاً بما لـ«المافيا» من شأو في الطبقة السياسية التي عايشها في صقلية. أما «الطبقة الحاكمة» فبدت عنده بمثابة قانون لا رادّ له ولا إنفلات منه في كل المجتمعات.

أقام موسكا نظريته في الطبقة الحاكمة بالضدّ من النظرية الأرسطية في النظم السياسية. بالنسبة لأرسطاليس هناك في الأساس حكم الواحد، وحكم القلّة، وحكم الكثرة. أما بالنسبة إلى موسكا فلا يجتمع أبداً كلّ السلطان في شخص واحد مهما بلغ هذا الشخص من أمرة ومن قوة. كما لا يوجد أي مجتمع يمكن أن يتوزع فيه السلطة العدد الأكبر من الناس، ولا حتى أن يقرّر هذا العدد الأكبر شكل السلطة ومن يتولاها.

بالنسبة إلى موسكا هناك مجموعة منحسرة من الناس هي الطبقة الحاكمة أو السياسية، وهي أقلية أو أقليات منظمة، لكنها في مطلق الأحوال أكثر من واحد أو اثنين أو ثلاثة، إنها سلك.

السلطة هي في يد الأقليات المنظمة، والسواد الأعظم من الناس محكوم بأن يبقى غير منظم. لا تتنظّم إلا الأقلية التي تحكم، وكي تتنظّم عليها أن تهتدي إلى «فورمولا»، إلى صيغة سياسية، كأن تسوّغ حكمها بالمصدر الربّاني أو بالمصدر الشعبي، والغرض يتجاوز التضليل، إلى ضمان تماسك كل من الطبقة الحاكمة والمجتمع.

لم يطرح مفهوم «الطبقة الحاكمة» إذاً إلا في نطاق فكر معاد نظرياً وبعمق للفكرة الديمقراطية. إنه مفهوم حكماً محافظ. هذه حال الدنيا ومجتمعاتها عند موسكا إلى آخر الزمان. أقصى ما بالإمكان «تشحيم» هذه الطبقة، تجديد شبابها. «فحتى عندما تفلح الجماهير في خلع الطبقة الحاكمة ـ يقول موسكا ـ فإن أقلية منظمة أخرى ستظهر مكانها بالضرورة، وما لم يحصل ذلك يحكم على التنظيم والبنية الاجتماعيين بالدمار».

ليس سهلاً فصل مفهوم «الطبقة الحاكمة» (أو «السياسية») من تربته المحافظة المعادية للديمقراطية. وإن كانت المفارقة أنّه انتقل من مفهوم متصل بـ«سوسيولوجيا النخب» حيث القسمة بين الأقليات القائدة والأكثريات المنقادة حيث بمثابة واقعة حتمية، على ما ذهب باريتو حين قال أنه «مع أو من دون اقتراع عام، ستبقى الأوليغارشية هي التي تحكم»، إلى مفهوم مستحضر شعبوياً، على أساس المناقضة بين «الشعب» وبين هذه «الطبقة السياسية». إنّما هو استحضار شعبوي يظلّ فيه «النخبوي» ممسكاً بالخيط، ذلك أنه من بعد كلّ هذه الداحس والغبراء بين «الشعب» وبين «الطبقة السياسية» فإن «تغيير زيت» الأخيرة يبقى أقصى ما في المستطاع، طالما لم يجر تجاوز مفهوم «الطبقة السياسية» أو «الطبقة الحاكمة» نفسه. فهذا المفهوم يفترض أنه قبل التغيير وبعده. التنديد بـ«الطبقة السياسية» محكوم بهذه القدرية.

بالنسبة إلى موسكا أو باريتو أو ميخيلز ثمّة «قانون حديدي للأوليغارشية» يحكم أي مجتمع أو جماعة، أي حزب أو نقابة: ظهور أقلية تقود، وأكثرية تقاد. كما يقول ميخيلز في كتابه عن «الأحزاب السياسية»: «ما أن يحضر التنظيم تحضر معه الأوليغارشية»، فكل ديمقراطية محكومة بالتالي بأن تتكشف سريعاً كأوليغارشية. بالضدّ من هذا «القانون الحديدي للأوليغارشية» تقام حجية الديموقراطية. وبردّ هذه القراءة التعسفية للتاريخ كلّه أيضاً على أعقابها. فاختصار الأزمنة الماضية بأنّ أكثرية الناس فيها كانت منفعلة، والأقليات المنظمة وحدها كانت فيها الفاعلة، هو بالضد من مقولة ماركس «البشر يصنعون تاريخهم لكنهم لا يصنعونه على هواهم». وهو ما يجعل هذه المقولة مكثفة ليس فقط للمفهوم المادي عن التاريخ، بل للمفهوم التاريخي عن الديمقراطية.

تحتفظ براهنيتها ملاحظات الفيلسوف الماركسي انطونيو غرامشي في «دفاتر السجن» بصدد مفهوم الطبقة السياسية عند موسكا. فغرامشي يعيب على هذا المفهوم طابعه المطاط، وتعميته على «الطبقة العليا» المسيطرة على العلاقات الاجتماعية، وجنوح المفهوم إلى اقصاء الشرائح العليا من البيروقراطية منه، وعدم قدرته على تفكر مغزى الأحزاب السياسية الحديثة أيضاً.

وهكذا، في الحال اللبنانية، الحديث عن «طبقة حاكمة» أو سياسية فيه تعمية على الأوليغارشية كطبقة مسيطرة من خلال موقعها في علاقات الإنتاج والتوزيع القائمة، والتي تترجم فيها مقولة ماركس «أفكار الطبقة السائدة هي الأفكار السائدة» في المجتمع، أيضاً من خلال استمرار سيطرة فكرة «الطبقة الحاكمة» وتغييب فكرة الطبقة الاجتماعية المسيطرة.

عندما يكون ما تحدده كخصم هو «طبقة حاكمة» تنزلق رأساً، حتى وأنت تقدّم نفسك كجذري ومتثورن، إلى التوجه لها بالمخاطبة، بالسخط حيناً والتودّد حيناً آخر. عندما تكون الطبقة التي تواجهها هي طبقة اجتماعية مسيطرة وليس طبقة سياسية حاكمة، سينعدم من تلقاء نفسه هذا الكم من المناجاة والمخاطبة، لأنّ فكرة الطبقة الإجتماعية تفسح المجال رأساً لفكرة فرطها وتجاوزها.

يمكن استخدام مفهوم «الطبقة الحاكمة» بالنسبة إلى التاريخ العثماني، نظراً للقسمة بين «العسكر» وبين «الرعية» فيها، وحتى في هذه الحالة يفضّل الاقتصاد في استخدامه، فبأقل تقدير، علماء الدين مثّلوا «طبقة وسيطة» بهذا المعنى، وكذلك الأعيان. أما بالنسبة للتاريخ ما بعد العثماني، وبخاصة بالنسبة للحال اللبنانية، فإنّ ما يشار إليه على أنّه «الطبقة السياسية» له بشكل أو بآخر دلالة الحديث تارة عن «الأعيان» وتارة عن بضعة أنفار هم «أمراء الطوائف».

مشكلة التفكير كما لو أن هناك كيانا يدعى «طبقة حاكمة» أو سياسية لا تقتصر فقط على تغييب الطبقات الإجتماعية والصراع الطبقي. انها تتصل رأساً بتهميش مبحث الديمقراطية نفسه، وبعدم القدرة على فهم الطابع التنازعي حكماً للسياسة، ولهذا تجد أن من يعتبر معركته مع «الطبقة السياسية» تصعب عليه في نفس الوقت رؤية الإنقسامات سواء الطبقية أو الطائفية أو المناطقية أو الحزبية في المجتمع، إلا بردّ هذه الإنقسامات إلى «أضاليل» تبثها الطبقة الحاكمة، إيّاها، لتضليل الناس، وحرفهم عن معاركهم الاجتماعية والوطنية. يتصل هذا أيضاً بجرعة زائدة من الخطابية الأخلاقوية. بدلاً من المواجهة مع النظام الأوليغارشي الطائفي والممليش من موقع الطبقات الشعبية، وفي سبيل ديمقراطية جذرية، يجري مسخ هذه المواجهة كما لو كانت مفاضلة بين الضمائر. من هنا أيضاً، راهنية إعادة إكتشاف مكيافيللي، لبنانياً وعربياً.

يمثّل فكر موسكا الصقلي، المتواتر بالنتيجة من خلال دوام استخدام تقليعة «الطبقة السياسية»، ارتداداً كبيراً عن فكر أعظم مفكري عصر النهضة، نيكولو مكيافيللي. بعكس القسمة القدرية بين الحاكم والمحكوم عند موسكا، توفر القسمة بين الأكابر والعوام عند مكيافيللي مفتاح فهم أصالة وحيوية وجذرية الصراع بينهما. السياسة تتولّد من هذا النزاع. تأمين شرّ العوام هو شغل الأكابر الشاغل، ولأجل ذلك لا يمكنهم البتة التعامل مع العوام كـ»أكثرية منقادة». الرغبة في أن لا يكون الشعب خاضعاً هي رغبة حيوية فعلية عند مكيافيللي، وانطلاقاً منها يتحدّد المجال السياسي. لهذا أيضاً، ينصح مكيافيللي أميره بأنّ الأجدى له الاعتماد على العامة للظفر بالسلطة بدلاً من الإعتماد على تحالفه مع الأكابر الآخرين، لأن كل ما يطلبه الشعب هو أن لا يكون خاضعاً، وأسهل إرضاء الشعب من إرضاء الأكابر الآخرين. في النموذج المكيافيللي ثمة إذا سلطة للأكابر، لكن أيضاً ثمة سلطة للعامة، وإن كانت تحتية، وفي أحيان كثيرة لامرئية.

بالنسبة لمكيافيللي، الحتمية هي أنه لا يمكن للعامة أن تتقبل إخضاعها من قبل الأكابر. أما بالنسبة لموسكا، وكل من يستعيد مقولة «الطبقة الحاكمة» أو السياسية، فإنّ الخضوع هو في أقل تقدير خيار ممكن، ما لم يكن الخيار «الطبيعي» لأكثر البشر، ما يجعل «ثورة» المستعينين بمفهوم «الطبقة السياسية» نوبة تعود فتسلّم بقدرية الخضوع. بالضدّ من هذا، مكيافيللي وماركس وغرامشي ضرورة.