النص:
“لقد كرّسنا مفهوما لانتمائنا اللبناني فوق اي انتماء آخر، وقلنا إنه جينيّ، وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معا، لتحملنا وتأقلمنا معا، لمرونتنا وصلابتنا معا، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معا من جهة وعلى رفض النزوح واللجوء معا من جهة أخرى. كلّها تناقضات متكاملة لا تجدها في أي جنس بشري غير الجنس اللبناني، وهذا ما أبقانا على قيد الحياة”.
الناطق به:
وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، وهو رئيس “التيار الوطني الحر” الذي “ورثه” عن والد زوجته العماد ميشال عون، بعدما أصبح رئيسا للجمهورية.
المناسبة:
خطاب ألقاه في الحفل الافتتاحي لـ”مؤتمر الطاقة الاغترابية”، في السابع من حزيران/يونيو 2019.
1- في العلم
نحن أمام نص خال من أي قيمة علمية، أو بالأصح يتناقض مع كل المفاهيم الثابتة علميا. فالحديث عن انتماء وطني جيني، سبق أن بيّن العلماء خطأه، وهو طالما هدف إلى تبرير استعباد فئة إنسانية لأخرى بادعاء التفوّق الجيني عليها.
وقد عرفت محاولات فرض التمييز الجيني دول مثل إسبانيا في منتصف القرن السادس عشر، ضد السكان الأصليين للقارة الأميركية (“جدل فلادوليد”)، والولايات المتحدة الأميركية وجنوب إفريقيا، ضد السود، وألمانيا النازية، تمجيدا لما سمي بالعرق الآري.
وبيّن العلم أن الفروقات الجينية بين مجموعة تنتمي إلى شعب واحد هي أكبر بكثير منها بين هذه المجموعة وبين شعوب أخرى، ولذلك فإن الانتماء الجيني بات يستعمل، منذ منتصف القرن الماضي، للدلالة، بشكل عام، على الأجناس الحيوانية.
ويزيد المأزق العلمي للنص، عندما يوحى بأن “الجنس اللبناني” متمايز عن “الجنس البشري”، إذ تحدث عن ” تناقضات متكاملة لا تجدها في أي جنس بشري غير الجنس اللبناني”.
ووفق العلم، هذا موقف تافه لا يمدح اللبنانيين بل يهجوهم، فالإنسانية دفعت غاليا لتعتبر جنسا واحدا متساويا، فكيف يأتي، والحالة هذه، من يدعو إلى تمييز حملة الهويات اللبنانية عن غيرهم من بني البشر.
وفي هذه الحالة، من هم حملة الجنسية اللبنانية؟ هل هم أبناء عائلة واحدة؟ هل هم من منبع جغرافي واحد؟ أليس بينهم من لجأ إلى لبنان، وعلى فترات متفاوتة، من سيناء والمغرب وفلسطين ومصر وسوريا وأرمينيا، وغيرها؟ ألم يختلطوا جنسيا مع مختلفين، سواء في بلادهم أم في مهاجرهم، على مدى العصور والقرون، وأنجبوا أجيالا كاملة؟
بطبيعة الحال، إذا ما عرض نص وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، لهذه الجهة، على رجال العلم، لنبذوه، وعلى رجال القانون في الدول التي تجرّم التمييز، لطلبوا محاكمته، وعلى التيارات اليمينية المتشددة في العالم، لتبرأوا منه، وهم الذين يجهدون لتطهير أنفسهم من تهم العنصرية والتطرف.
2- في المجتمع
إن إطلاق هذا النوع من الكلام في مؤتمر يهدف إلى حشد طاقات ذوي الأصول اللبنانية المنتشرين في العالم، يدل على قصور منطقي، ذلك أن جمهور المستمعين يتشكل من أولئك الذين ترك أجدادهم لبنان أو ذووهم أو هم أنفسهم، إما هربا من اضطهاد، وإما استجداء للأمان، وإما تفتيشا عن فرص عمل أو طلبا للعلم.
وفي المغتربات وجد هؤلاء شعبا يستقبلهم ودولة تستضيفهم ومدرسة تلقنهم وجامعة تعلّمهم، وشركة تشغّلهم، وشركاء يتزوّجونهم وينجبون معهم الأولاد، ويتقاسمون معهم الإرث.
وليكون جمهور المستمعين لهذا الخطاب “الجيني” من الطاقات، يفترض أن يكون المدعوون إليه قد نجحوا في مغترباتهم ووصلوا إلى مناصب سياسية أو إدارية عليا وسمح لهم بإقامة شركات مميّزة.
وهذا الجمهور الناجح لم يحصد ذلك كله لأنّ “جيناته لبنانية” و”جنسه لبناني”، بل لأنه تعلّم مما توصل إليه من التجأ إليهم، واستعان بتقنياتهم، وتعاون مع أبنائهم، واستدان من مصارفهم، واستفاد من تقديماتهم، وحلّق في فضاء حرياتهم وتسامحهم وانفتاحهم، والأهم تمّ التعاطي معه على أساس أنه متساو، بشريا وعرقيا ولونا وجنسيا ودينيا، مع الآخرين.
والنجاح الذي عرفه اللبنانيون في المغتربات ليس ميزة “جينية” لديهم، بل هو نجاح عرفه مهاجرون آخرون يحملون جنسيات يرفضها “الاستعلاء الخطابي” أو يحتقرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف أن هؤلاء المستمعين، عندما وصلهم هذا الكلام، لم يتركوا مقاعدهم ويخرجوا من القاعة؟
بسبب اللياقة الاجتماعية اللبنانية، أجابني البعض ممّن كان حاضرا.
3- في السياسة
طالما أن العلم يسخّف هذا الكلام، وطبيعة الاغتراب اللبناني تسقطه من قائمة المنطق، فماذا عنه في السياسة؟
من يدقق بسلوك باسيل يدرك أنّه لا يتصرّف، في غالبية وقته، كوزير للخارجية، بل كمرشح للرئاسة اللبنانية، خلفا لوالد زوجته الرئيس ميشال عون.
وهذا يعني أنّه يهتم بمصالحه السياسية أكثر مما يُعنى بمصالح لبنان الدبلوماسية والخارجية، ولذلك، فإن تحدّثت مع الدبلوماسيين المحترفين تجدهم “باردين” تجاهه، في حين، أنك تلمس “حماسة” له ضمن المحازبين.
ومن يدقق بأدبيات باسيل يجدها تتحرك ضمن ضابطين، أوّلهما إرضاء “حزب الله” الذي لا يزال الناخب الرئاسي الحاسم في لبنان، وثانيهما إرضاء الجمهور المسيحي البسيط، بصفته الناخب النيابي الأكبر الذي يعنى باختيار “الأقوى في طائفته”، وهي الصفة التي يعتقد باسيل بأنها، باتت، منذ وصول العماد ميشال عون إلى بعبدا، الناخب الرئاسي الأهم بعد “حزب الله”.
وضمن هذين الضابطين يتصرّف باسيل بـ”عشوائية” يظن كثيرون أنها مطلوبة، نظرا لما تتسبّب به من جدل في لبنان.
وفي لبنان، وحده الجدل يجعلك تقفز إلى أولوية الاهتمام، فتحتل المشهد وتهمّش الآخرين.
وفي لبنان، أيضا، وهذا الأخطر أن الجدل، وهو يرفعك إلى أولوية الاهتمام، يستحيل أن يسقط بك إلى قعر القيمة، لأنّ الرأي العام، سرعان ما يميل إلى الاهتمام بالشخص وبطائفته وبموقعه السياسي ويهمل ما قاله أو أقدم عليه أو أخلّ به.
وبهذا المعنى، لا يهتم باسيل بمضمون حديثه الذي أثار الجدل، بل بفوائد الجدل عليه، فإثارة الجدل بذاتها هي المرتجى، مهما كان المضمون تافها أو خاطئا أو مؤذيا.
والأدهى من ذلك، إن العواطف السلبية التي تكوّنها فئة لبنانية ضد باسيل تصبح في خدمة هدفه الرئاسي، وكأنّ المرشح الرئاسي الأكبر حظا في لبنان هو من يلحق هزيمة بمشاعر فئة من اللبنانيين. وهذا ما سبق وتكرّس مع العماد ميشال عون، قبل أن ينتقل من مقره في الرابية إلى القصر الجمهوري في بعبدا.
وبناء عليه، ففي لبنان تنتعش “جينات” كتلك تكوّن الوزير جبران جرجي باسيل وتتقهقر “جينات” كتلك التي كوّنت يوما المغترب جبران خليل جبران.