العنصرية كتهديد للحكاية الوطنية

عمار المأمون – العرب

تتداول وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بين حين وآخر حادثة عنصرية في لبنان تستهدف اللاجئين السوريين هناك، كلافتة طرقيّة تمنع التجوّل بعد ساعة محددة، أو منع من العمل في مكان ما، أو خبر عابر في إحدى الصحف يشير إلى أن اللاجئين السوريين هم سبب التلوث وحوادث السير في لبنان، وغيرها من الأشكال الجديّة وغير الجديّة التي تبدو لامنطقية في الكثير من الأحيان، أو نابعة عن جهل أو حماقة.




الخطير أن هذه “الإشارات” تعكس خوفا من “الآخر” بوصفه يهدد النظام الاجتماعي والسياسي القائم في لبنان. هذا الخوف لا يشترك فيه الجميع، بل هو عارض على أشكال من التمييز القانونية وغير القانونية، محركاتها إما السلطة نفسها، وإما فئات وأفراد معينين.

لا شكّ في أن الكثير من الممارسات الفردية العنصريّة، عصيّة على التعميم أي لا يمكن القول إن اللبنانيين عنصريون، ولا داعي لشرح أسباب ذلك. لكن هنا بالضبط تكمن إشكالية هذه العنصريّة، في أنها غير قابلة للتعميم، خصوصا أن هنا فئة في صراع دائم مع السلطة والفئات العنصريّة وحكاياتها الهشّة. تلك الحكايات التي تتكون بدافع الخوف، والتي تتحول إلى قوانين تصدرها السلطة الرسميّة والتي لا يمكن وصفها إلاّ بالاستثنائية، ترافقها ممارسات ارتجاليّة تقوم بها فئات ترى أن “الآخر” السوري والفلسطيني تهديد شخصيّ لها.

لفهم العنصرية أو التمييز أو العنف بأشكاله المختلفة الذي يخضع له “اللاجئ” في لبنان، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي أولا، وعلاقته مع مواطنيه أنفسهم، الذين لا يجدون أن حقوقهم مضمونة بالأصل. فالقانون هشّ وبالإمكان التحرك خارجه، لا فقط بسبب الوساطات بل أيضا بسبب وجود جماعات مسلحة وغير قانونية نشطة تمارس العنف الذي لا تحتكره الدولة.

ومع دخول السوريين إلى لبنان إثر الحرب في سوريا وجدت الكثير من هذه البنى القانونيّة وغير القانونية نفسها مهددة وأمام مكوّن بشري جديد، مُتروك كموضوعة استثنائيّة بالنسبة للسيادة، هو لا في الداخل ولا الخارج بل على الحواف، ما يخلق دوما بنية قانونيّة تمييزيّة، وحالات حكائية عن العنصريّة تتنوع وتختلف دون أن يضبطها شكل واحد من التمييز، كتلك التي يتحدث عنها داخل هذا النص.

“السوريون أكثر من اللبنانيين” و”السوريون هم أهل البلاد واللبنانيون سياح”، نكت مضحكة نوعا ما، لكنها تتسلل لخطاب اليومي وتتحول حجة منطقية للكثيرين

البنية القانونية للاجئ

بداية، وضعية “لاجئ” غير موجودة في لبنان بصورة قانونية، أي من يقال إنهم “لاجئون سوريون”، الكثير منهم هم مجرد أفراد يقيمون في لبنان، قلة قليلة منهم تمتلك إقامات نظامية، والباقي دون إقامات أي أنهم يخالفون الوضع القانونيّ.

وهناك من هم لاجئون مسجلون لدى الأمم المتحدة. وأول السياسات التمييزيّة ضد القادمين الجدد تتجلى في شروط الدخول إلى لبنان “وجود كفيل، ومبلغ مالي قبل الدخول”. نحن أمام شرط قانوني، لكنه لا إنساني، هو يحارب حق النجاة، ما يؤدي إلى خلق نوع من التلاعب بهذا القانون، لتصبح النجاة حظا أو نوعا من المغامرة، قد تنتهي بأن يجد المرء نفسه عالقا، كالذين يدخلون إلى لبنان باستخدام فيزا ترانزيت للسفر إلى بلد آخر، لكنهم يبقون في الأراضي اللبنانية مخالفين شروط الإقامة شبه التعجيزية، مواجهين خطر منع الدخول مرة أخرى إلى لبنان، والتهديد بالحرمان من السفر وأحيانا الترحيل.

كذلك هناك القيد الاقتصادي المتمثل بمنع “السوريين” من فتح حساب بنكي،و بالتالي تعطيل النشاط المهني للكثيرين، لكن الأشد قسوة، هو صعوبة اللجوء إلى القضاء في حال وقع أحدهم في مشكلة، لأن في ذلك تهديد للشخص نفسه -اللاجئ- بوصفه بالأصل مخالفا للقانون الذي يطلب حمايته، فالفرد حينها مذنب حتى لو كان “ضحيّة” عنف.

ليس من السهل الإحاطة بكل سياسات الاستثناء المتعلقة بالكتلة البشرية السورية الموجودة في لبنان بسب تفاوت وضعياتها القانونية وأساليب التعامل معها، وهناك أيضا التأثير “السوري-السوري” كشكل من أشكال العنصرية الذاتية، التي يمارسها بعض السوريين تجاه من يتمتعون بذات وضعيتهم القانونية.

هناك نوع من الاختلاف بين “نحن” و”هم”، فـ”نحن” التي تتمثل بالفنانين والناشطين الثقافيين الذين يترفع بعضهم عن مفهوم اللاجئ، بوصفه وسمة ثقافية ترتبط بالطبقة الاجتماعية والنشاط الثقافي، وهناك “هم” الأدنى نوعا ما، الذين نراهم على خشبات المسارح في العروض التفاعلية يتحدثون عن مأساتهم أو في التقارير التلفزيونية والأفلام الوثائقية، يتعمق هذا الاختلاف بين “نحن”و“هم”، أثناء المعاملات أو الصدام مع “السلطة”، التي تميّز أيضا بين هاتين الفئتين وفي أسلوب التعامل معهما.

المعاملة المرتجلة

ترسخ “السلطة” في لبنان الاختلاف السابق عبر الكتلة البشرية التي تنفذ القوانين كالشرطة والجيش والتي ترتجل في الكثير من الأحيان طبيعة العقوبة أو التهمة الموجهة للفرد، بل وأحيانا تتجاهل وجودها، فلا حدود واضحة بين مخالفة القانون وبين الالتزام به.

يعود الأمر هنا للتقدير الشخصي للفرد الذي يُطبق القانون وأداء من تم “اصطياده”، طبيعة لغته، شكله، كلماته للدفاع عن نفسه أو تبرير وضعه. فمن الممكن أن يعتقل الفرد لأيام في حال مخالفته للإقامة، وبالإمكان أن يمشي حرا طليقا، وما نعلمه أنه لا يرحلّ إلى سوريا، لكن هناك من السوريين من تم ترحيلهم لأنهم في مخيمات مثلا، في حين أن البعض يتم احتجزاهم في الشارع أو على النقاط الحدوديّة كما شهدنا منذ فترة، ما يحدث بصورة دقيقة هو أن الكثيرين يخضعون للاستثناء، أي أن السلطة تتركهم على حواف القانون، يتعرضون للعنف بأشكال مختلفة، عنف غير قانوني كونه يخضع للارتجال. وهذا ما حدث معي أنا أثناء إقامتي في لبنان، حيث تعرضت للإيقاف على أحد الحواجز، وتم سوقي إلى قسم عسكري، لا قسم الشرطة، بسبب إقامتي المخالفة، ودون أي معلومات جديّة أو التحقق من هويتي، أطلق سراحي لأنني قلت إني صحافي، دون امتلاكي أي إثبات رسمي، كما أن من قام بالتحقيق معي قال إن “شكلي مؤدب” فأطلق سراحي، هذه الحكاية الطريفة التي أرويها مرارا، مرت بآخرين، بعضهم ممن أعرفهم لكن النتيجة كانت مختلفة، حيث ينتهي الحال بهم بدفع مخالفة وفي أحيان أخرى يقع إيقافهم لعدة أيام.

فقاعات عنصريّة

بعيدا عن العنصريّة والتمييز القانوني والمؤسساتيّ، هناك الحوادث الفردية أو الجماعية التي تصل إلى وسائل الإعلام والتي تستهدف الكتلة البشريّة السوريّة التي “تطفو” داخل الأراضي اللبنانية. هذه الفئة “الطافية” تهدد الحكاية الوطنية على هشاشتها. هذا التهديد نراه في السياقات الجدية في الكثير من الأحيان، ونقصد بجدّية أي ضمن التصريحات السياسية، خصوصا تلك التي تتعلق بتجنيس السوريين، أو لومهم على التلوث البيئي، والمشكلات الاقتصاديّة في لبنان.

التأشير على “مشكلة السوريين” وجعلها ورقة سياسية هو جزء من لعبة السياسة، لكنه في ذات الوقت يبرز العيب الجوهري في النظام السياسي، بوصفه عاجزا عن توفير شروط الحياة، فهناك مشكلات سياسية واقتصادية، تستفيد إثرها بعض القوى السياسيّة من كتلة السوريين لإعادة تصميم الحكاية الوطنية، والإشارة إلى الحقوق المهدورة، وأحيانا ممارسة العنف تجاه هذه الكتلة بوصفها تهدد الحياة نفسها، كما في اللافتات التي تدعو إلى منع السوريين من العمل.

تبدو هذه “الفقاعات” كوميديّة، لا منطقية، وفي الكثير من الأحيان أشبه بـ”بارودي” عن ذاتها. لكن بالعودة لما سبق، ولأن العنصريّة عصية على التعميم، تتشكل كفاقعة ضمن وسائل الإعلام، تظهر وتختفيّ. ولا نتحدث هنا عن الممارسات السلطوية الممنهجة، بل تلك الإعلامية، التي تظهر كل فترة، من خلال تصريح هنا وحديث هناك، تعيد المشكلة للحضور.

وفي كلّ مرة تُختزل كل المشكلات في كتلة بشرية لا يوجد شروط قانونيّة لاحتوائها. الأهم أن هذا الأداء الإعلاميّ صنع خصيصا لخلق الاختلاف، بين فئة معزولة ومستثناة، وفئة أخرى ترى في هذه الكتلة البشريّة مشكلة. ولا بد من تصنيع هذه الفئة المتجانسة التي يمكن أن يلعب دورها أي فرد تنطبق عليه خصائص شكليّة، كما حصل مع المخرج المسرحيّ عمر بقوق، الذي دخل في مشادة كلامية ثم دعاوي قضائية مع إحدى الفضائيات التي أرادت استضافته، ورفض كون المقدمة ومعدة البرنامج قالت له “احضر بعض الأطفال السوريين من الشارع، واجعلهم يدّعون بأنهم أفراد من فرقتك المسرحية، ليكونوا جزءا من الحلقة التي نريد تصويرها”، هذه اللغة والرغبة بخلق نسخة سريعة واستهلاكيّة من المأساة هي في ذات الوقت تمثل الصورة النمطيّة التي حولت قضية اللاجئين إلى جزء من التدفق الإخباري القائم على أساس التمييّز والعنصريّة.

العنصرية والصناعة الثقافية

الصناعة الثقافيّة هي المساحة الأكثر وضوحا للعنصرية والتمييز، وخصوصا في سياق الترفيه واللاجديّة، حيث تحضر بوصفها نكتة في الكثير من الأحيان، لا ضرر منها ولا نفع. لكن المشكلة في النكتة ذاتها أنها تشير إلى عطب ما، إلى عدم اتزان في العالم. نبرتها وتكوينها الرمزيّ، ولو كان مبالغا بهما، يمكن دوما أن يميلا لفئة ضد أخرى، فنكات أن “السوريين أكثر من اللبنانيين” و”أن السوريين هم أهل البلاد واللبنانيين سياح”، مضحكة نوعا ما، لكنها تتسلل إلى الخطاب اليومي وتتحول حجة منطقية للكثيرين. وظهورها العلنيّ، دون الإشارة للسبب الجوهريّ، يحول التمييز والعنصريّة إلى نتيجة منطقيّة لشرط البلاد. وكأن العطب خارجيّ، لا داخلي في البنيّة نفسها، ولا نتحدث هنا عن النكات اليوميّة في الشارع، بل تلك التي نراها على التلفزيون وضمن برامج الترفيه المتنوعة.

تحضر أشكال التمييز هذه أيضا في المسارح، ولا نقصد اللاجئين الذين يؤدون أدوارهم، بل في العروض التفاعلية والتي يقوم بها هواة يعيدون حكاياتهم أو حكايات الآخرين. خطورة هذه الحكايات أنها تعود لأهواء المموليّن، وتعيد إنتاج حقائق لا حقيقة، لكنها نسخ معدلة عن الواقع، والتي تعيد أصل المشكلة والتهجير إلى “إرهاب” في بلادهم، ولا بد من مكافحته بل وإبادة بعض المناطق لحل المشكلة.

هذه الحكايات التي تدّعي السلم الأهلي، ترى أن أصل المشكلة يكمن في الأفراد، هي تولد حكايات “جديدة” عن المشكلة المتمثلة بالقمع والنظام السوري، وترى الحلّ في عنف أكثر، ليظهر “اللاجئون” هنا في صورة مذنبين، بل ومساهمين بالخراب، وأن تركهم لبلادهم هربا من الموت جريمة من نوع ما، ليلاموا مرتين، على ترك منازلهم التي تهدمت وشغل الحيز العام في البلد المضيف.

وهذا ما حصل مع الصحافيّة، نور عويتي التي طردت من إحدى المسرحيات التفاعليّة حين اعترضت على الخطاب الذي يؤديه الممثلون، الذين يبتنون الحكاية السابقة ويرددونها.