جهاد الزين - النهار

سامي الخطيب: النقيب لا الجنرال الذي دخل في تاريخ لبنان – جهاد الزين – النهار

المرة الأخيرة التي تحدثت فيها مع اللواء سامي الخطيب كانت في الطائرة قبل أكثر من عشر سنوات. كان مع زوجته في رحلة إلى القاهرة أخبرني أنها بدعوة من وزير الثقافة المصري يومها فاروق حسني. كان الرجل الذي لم تفقد ضحكته الخبيرة طاقتها على الإيحاء قد أصبح رجلاً مسناً. أناقته لا تستطيع أن تخفي التعب على مظهره.

تبادلنا بضع جمل كانت مع سامي الخطيب كافية للإيحاء بالتواطؤ في بعض المواضيع السياسية، لكن هيهات الفارق بين حيوية لقائي الأول المباشر به عام 1978 وبين هذا اللقاء الذي كان أصبح فيه متقاعدا.




كان ذلك في بيروت على هامش دعوة غداء في فندق البريستول. سمعته يتحدث لبعض الصحافيين عن بعض مشاكل تلك المرحلة وكان أصبح قائدا لقوات الردع العربية. لم ينزلق بكلمة خطأ بمعايير علاقته مع القيادة السورية لكنه كان يجيب بطريقة توحي بصورية موقعه آنذاك. انتظرت قليلا مجرى الحديث، ثم همست في أذنه وكنت جالسا قربه: يا جنرال أنا أطمح أن تحدثنا ذات يوم عن تجربتك في العهد الشهابي. فأنت كنقيب دخلت تاريخ البلد وليس كجنرال. الآن نعرف طبيعة اللعبة. النقيب كان أحد حكام البلد أما الجنرال فلا. كل ذلك قلته له همسا لدواعي التهذيب أمام الآخرين. التفت نحوي وضحك بطريقته التي توحي بالتواطؤ قائلا: قريبا إن شاء الله.

كنت ألتقيه في بعض المناسبات العامة ومرة في عشاء في منزل الصديق عصام نعمان حصل خلالها نوع من التوتر الكلامي، لكن المضبوط، بينه وبين الرئيس سليم الحص بدا فيه الحص أكثر هجومية ولو مقنّعة. لم تتوفر فرصة بعض “التباسط” سوى مرة في مكتب طلال سلمان في “السفير”. أتذكّر أنه روى لنا بعض خصوصيات التنصت فالتسجيل السري على شخصيات في الستينات عندما كان نائبا لرئيس الشعبة الثانية، لم يذكر أسماء سوى إسم شخصية معروفة قال أن الشعبة اتصلت به لتخبره أن لقاءه الأخير مع إحدى السيدات صار موثقاً فكانت إجابة تلك الشخصية طريفة وقوية إلى حد، قال الخطيب، أنها من شدة طرافتها وقوتها قرروا إتلاف التسجيل.

ما أذكره أنني سألته يومها، وكانت واقعة رفض سليم الحص، أبان تشكيل إحدى حكوماته، تعيينه مديرا عاما لقوى الأمن الداخلي في لقاء مع الرئيس حافظ الأسد طلب فيه الأسد شخصيا هذا التعيين.. قد أصبحت متداوَلة في الأوساط السياسية، سألته: لماذا يطمح ضابط مثلك كان أكثر نفوذا وهو برتبة نقيب من الكثير من الجنرالات أن يصبح مديرا عاما لقوى الأمن الداخلي؟

قال: “أي ضابط، خيي جهاد، مهما كان، ومهما قوي، يحلم لمستقبله بمنصب يؤدي فيه الضباط الآخرون له التحية. أختصرها لك بذلك. الاستمتاع بعد طول خدمة بتلقي التحية من الآخرين”. وانفجر ضاحكا.

قيل أن الرئيس الأسد قرر بعد ذلك في الرد على رفض الرئيس الحص تعيين سامي الخطيب بمنصب أعلى من مدير عام قوى الأمن الداخلي. فجاء به وزيرا للداخلية في الحكومة التالية بعد استقالة الحص.

لكل مَقال فضيحته غير المعلنة كما شرحت طويلا في كتابي “المهنة الآثمة” في فصل سميته “اللامَقال”. فضيحة مقالي هذا اليوم أنني لم أقرأ بعد كتاب مذكرات سامي الخطيب. ولم أفهم سبب هذا التقصير، الفادح من وجهة نظري، حتى الآن. بينما قرأت مذكرات نجوم من تلك المرحلة (الشهابية ) مثل فؤاد بطرس وأحمد الحاج.

مرت ثلاثة عهود شهابية على لبنان: العهد الأول شهابي قلبا وقالبا 1958-1964. العهد الثاني مختلط، داخليا وخارجياً، بين نوايا شارل حلو وضوابط الشعبة الثانية 1964-1970. والعهد الثالث كان غير شهابي بقيادة شهابيين. ليس لأن رموز عهد الرئيس (شهاب) الأكثر احتراما شخصيا وإصلاحياً بين كل رؤساء لبنان، رموز كالياس سركيس وفؤاد بطرس ومنهم عديدون بينهم سامي الخطيب تولّوا مناصب بعد 1976 نسوا فيها فؤاد شهاب، ليس ذلك، فقد صارت أدوارهم في الحقبة الشهابية نياشين على صدورهم بعد طول تهشيم وحتى نفي، بل لأنه في عهد سركيس عهد الحرب الأهلية، صارت الشهابية بلا معنى وليس فقط بلا دور. وبقيت كذلك حتى أعاد التاريخ المُعاش منذ دولة ما بعد الطائف تظهير القيمة الشخصية والإصلاحية لفؤاد شهاب وعهده بما سيستحوذ إلى اليوم على إعجاب النخب الثقافية السياسية اللبنانية من هول ما شاهدته وتشاهده من فساد بل انحطاط الطبقة السياسية “الجديدة” والقديمة ومن التهشيم العشوائي والزبائني الميليشياوي للمؤسسات الدولتية الشهابية التي لا تزال أشبه بهياكل مبانٍ متصدّعة كمباني الحرب الأهلية.

بطبيعة الأمور، لم يكن كل الشهابيين أبرياء. العديد منهم حافظ على سمعة جيدة وبعضهم صاروا سياسيين من نوع آخر وزمن آخر ومرجعيات أخرى.