
منال شعيا – النهار
قبل يومين، لفتت تغريدة للنائب السابق وليد جنبلاط قال فيها : ” لا عجب أن يصدر قرار من هيئة قضائية باستباحة الطبيعة في محمية أرز الشوف والاملاك الخاصة لعين دارة. ان البلد كله مستباح، يبدو لخدمة الممانعة، من الكسارات وصاعداً (…) “.
هذه التغريدة التي تعتبر الاولى في سياقها، أتت بعد صدور قرار قضائي لمجلس شورى الدولة يقضي بوقف تنفيذ قرار وزير الصناعة وائل ابو فاعور بإلغاء الترخيص الصناعي لـ”شركة اسمنت الارز” في عين دارة. فما هي خلفيات المسألة؟ وهل هي أبعد من قرار رخصة والغائها لمعمل اسمنت؟ ولمَ غرّد جنبلاط، مستخدماً للمرة الاولى، عبارة “استباحة الطبيعة في محمية ارز الشوف”، فهل الكسارات وموقع معمل الاسمنت المزمع انشاؤه يقعان في المحمية؟
حكاية عين دارة
من المعلوم ان بلدة عين دارة تعاني، منذ اعوام واعوم، غياب تطبيق القوانين مع استباحة تامة لمشاعاتها وأراضيها، من كسارات ومرامل. فهي تشهد على عدم تطبيق القوانين المتصلة بشكل اساسي بحماية البيئة.
أبرز هذه القوانين: قانون البيئة رقم 444 وقانون المياه وقانون البلديات ومرسوم تنظيم المقالع والكسارات ومرسوم تقويم الاثر البيئي. هذا فضلاً عن قانون المالية العامة، لجهة ما يتعلق بالتهرّب الضريبي. هذا الواقع جعل من هذا القطاع قطاعا فاسدا يهرب من لغة القانون ويتحدّاها، بتواطؤ من اركان السلطة نفسها للقفز فوق كل معايير الدولة.
وفي مجال القفز فوق معايير الدولة، يأتي مثل التهرب الضريبي “الفاقع” في هذا القطاع. للدلالة على هذه المسألة، لا بد من التذكير بقرار سابق صدر قبل اشهر، عن المدعي العام المالي القاضي علي إبرهيم طلب فيه من بلدية عين دارة، وبناء على إخبار من ناشطين بيئيين حول التهرّب الضريبي لاصحاب الكسارات، تكليف اصحاب الكسارات أنفسهم بدفع مبالغ بقيمة 170 مليون دولار لبلدية عين دارة وحدها، وعن فترة ثلاثة اعوام فقط لا غير.
أيعقل كل هذه المبالغ؟! فهل يمكن التخيّل أو احتساب قيمة الاموال التي يمكن دفعها للبلديات المتضررة ومالية الدولة، عن فترة لا تقل عن 30 عاما، هي فترة تشغيل كسارات على طول الجمهورية اللبنانية بعيداً من القانون؟!. الا تكفي مبالغ هذا القطاع “المنتشر” والمتمادي، لطي عجز الدولة، في زمن “التقشف الرنّان”؟ّ!
كسارات في المحمية
هذه هي قصة الكسارات في لبنان. هي ابعد من حفر وتفجير لمشاعات واراض، بل هي تتصل بعمق تفكّك لغة القانون وتطبيقه، وعلى كل المستويات: المالية، السياسية والبيئية… في المراحل السابقة، كان موضوع الكسارات يختصر بغياب قانون او بانتهاك لحماية بيئة، الى ان حركة لافتة لعدد من الناشطين البيئيين خرقت هذا الجو، حين أقدم هؤلاء على مراسلة وزارة البيئة في فترة الوزير السابق طارق الخطيب. ففي 27 – 3- 2018 ، وجه كل من المهندس عبد الله حداد والناشط روجيه حداد كتاباً مباشراً الى الخطيب، يطلبان بموجبه “الخرائط الرسمية المعتمدة لمحمية ارز الشوف”.
الكتاب إلى الخطيب
كانت خلفية الكتاب تنطلق من معرفة الناشطين بأن “قانون محمية أرز الشوف” والصادر عام 1996 ينص، وفي مادته الاولى، على ان مشاعات عين دارة تشكل حدود المحمية، شمالاً وشرقاً وغرباً، بحيث ذكر حرفياً “تعتبر محمية طبيعية مشاعات قرى نيحا، جباع، مرستي، الخريبة، المعاصر الباروك، بمهريه، عين داره و عين زحلتا، بالاضافة الى ملك الجمهورية اللبنانية في الجانب الشرقي من جبل الباروك”، ما يعني ان الكسارات ومعمل الزفت الموجود ومعمل الاسمنت المزمع انشاؤه، تقع كلها، إمّا على مشاعات عين دارة وإمّا في جوارها، أي إنها حكماً في المحمية.
هذا الواقع يعتبر انتهاكا فاضحا لبنود الحماية الذي ينص عليها “قانون محمية ارز الشوف”. ولمن لا يعلم فإن هذه البنود تحرّم المس بالطبيعة، من قطع اشجار وحفر وتفجير وغيره في كل نطاق المحمية، تحت طائلة التغريم والسجن، وفق المادة 9 من “قانون محمية ارز الشوف”.
هذا في القانون. وفي معادلة لا تقبل الشك: ان الكسارات في المحمية. هذا الواقع انطلق منه الناشطون، الا ان رد الوزير الخطيب، في حينه، بيّن صورة معاكسة. اذ اقدم الخطيب على تزويد الناشطين بخريطة غير مطابقة لـ”قانون محمية ارز الشوف”، بحيث لم تظهر مشاعات عين دارة من ضمن هذه الخريطة (يمكن الاطلاع على الخريطة أدناه، والتي تظهر أن حدود المحمية تقف عند حدود بمهريه، خلافاً للقانون).
الخريطة
عند هذه النتيجة، عاد الناشطون وطالبوا الخطيب بخريطة تظهر الحدود الحقيقية للمحمية، أي التي تضم مشاعات عين دارة والاراضي التي تحيط بها وتطالها الحماية، الا أنهم يحصلوا على جواب.
غادر الخطيب واستلم الوزير فادي جريصاتي وزارة البيئة. تكرّرت المحاولة نفسها. تواصل الناشطون مع جريصاتي عبر كتب رسمية وتواصل مباشر ايضا، (نصوص الكتب محفوظة)، بلا اي نتيجة. لا تزال الخريطة الحقيقية غائبة عن النظر. لا بل غاب جريصاتي عن مطلب الناشطين، واقدم، خلال المدة الزمنية نفسها، وبقرار من مجلس الوزراء، على تمديد العمل بالكسارات لمدة 90 يوماً، معطياً بذلك ذريعة جديدة للعمل. على الفور، عارض الناشطون قرار مجلس الوزراء، لا بل طعنوا به امام مجلس شورى الدولة. إذ قدّم ناشطون من بلديات متضررة من الكسارات طلب الطعن وهم: جورج العيناتي (من كفرحزير) ورفيق حسن القطان (من قب الياس) وسامي المغربي (من كفرسلوان) وروجيه حداد (من عين دارة). وقبل نحو ثلاثة ايام، تقدم وكيلهم القانوني المحامي واصف الحركة بالطعن امام شورى الدولة، “بهدف ابطال قرار مجلس الوزراء، لمخالفته الواضحة للقوانين”.
باختصار، بات حجم الكسارات في لبنان بهذا القدر من المخالفات والتزوير.
وبوضوح ايضاً، إن كسارات عين دارة تقع في المحمية. من هنا، تفهم تغريدة جنبلاط القائلة “باستباحة طبيعة محمية ارز الشوف”، فهل أدرك جنبلاط حجم التزوير الذي يمارس على مستوى دولة، ولم يعد يحتمل السكوت؟!
والسؤال البدهي لمَ تزوير الخرائط ولم التهرب من اجابة الناشطين تطبيقا لقانون حق الوصول الى المعلومات؟!
أخطر من كل ذلك، انه لم يعد ثمة مفهوم او معنى لكلمة “فضيحة” في لبنان، وباتت الاستباحات كأنها طبيعية الى حد مقبول!
في النتيجة، إن قانون آخر ينضم الى قافلة القوانين التي تنتهك كل يوم، وفي نطاق بلدة واحدة. اليوم، بات “قانون محمية ارز الشوف” في عداد القوانين المنتهكة من قانون البيئة الى مرسوم المقالع والكسارات، مما يسبب اضراراً بيئية فادحة على مرمى حجر من أكبر غابة أرز في لبنان… فعن أي اصلاح ومحاربة فساد و”كوريدور أرز” تتحدثون بعد؟!