“تتأتى كل هذه التعاسة بسبب ضآلة ما بقي من الدولة الفرنسية”
فرنسوا مورياك
تعودنا أن نفرح بالبديهيات ولو تأخر ظهورها. وأن نتقبل الشطط الوطني على أنه قدر، وهدر الوقت على أنه ديموقراطية. ومن غير اللائق أن تستقبل الحلول المتأخرة بالتشكيك في جدواها. ولكن ما العمل والوضع العام لا يوحي قط بأن الحكم انتقل الى الحكومة؟ فالاشياء في غير مواقعها. وعلى رغم النيات الطيبة والناس الطيبين، فإن عملية الاستعراض لم تنتهِ، أو تستحي. قال الكاتب الاميركي راسل بيكر، الذي رحل أخيراً، أن الفارق بين سياسيي الماضي واليوم، أن الحاليين رجال استعراض، لا حقائق. عملهم الأول والأخير، أن يوهموا الناس، لا أن يبنوا الدولة، مثلهم مثل باعة الاعلان ورجال السينما وتجار السلع الكاسدة.
لذلك، كان أفلاطون يخاف قوة وتأثير المسرح والتشخيص والاستعراضات: ضعف القدرة العقلانية أمام قوة العاطفة القادرة على الغاء المنطق. وكان يكره الديموقراطية الشعبوية، ويخافها، ويعتبر أن على النُخب أن تنوِّر أهل الكهف الذين، بعد اعتياد طويل للظلمة، يعميهم الضوء.
الاسبوع الماضي قال رئيس الولايات المتحدة الخامس والاربعون، دونالد جون ترامب، إن خطر داعش سوف ينتهي الاسبوع المقبل. على مَ يعتمد في اطلاق مثل هذا التنبؤ؟ على سقوط الجماعات في متعة الوهم ورفض التفكر. الآيات القرآنية تكرر القول إن اكثر الناس لا يعقلون.
نحن في عالم لا يرى إلّا الظلال، ولا تحركه إلّا الأوهام. الحقيقة صعبة ومكلفة. جميع البشر يعرفون ان ثمة خدعة تسمى “لعبة الثلاث ورقات”. والجميع يلعبونها، ويخسرون. وكان يضحكني ان نصّابيها في لندن يجتذبون ضحاياهم خصوصاً امام المكتبات العامة، والجامعات، ومجمّعات الاذكياء الأخرى.
لكن المشاعر الغبية ترفض العلم وتنتصر عليه. وترى الناس في كل مكان مندفعة خلف خسارتها اعتقاداً منها أنها تعلمت الدرس، وصارت أذكى من صاحب اللعبة. وهو تعلم أمثولته من قبل، وهي ان الناس روضة أطفال، تصدق، وتصفق، وتتقاتل، وفي النهاية تأسف على ايام الجهل التي تمتد طوال العمر.
نحن في انتظار الاسبوع المقبل وموعد نهاية داعش، وكعكة العيد مع الرجل الذي أصبح رئيس الولايات المتحدة. كان أفلاطون، كما قلنا، يخاف على الناس من سحر الوهم.
كانت الناس في الماضي تطلقُ على ابنائها اسماء الملوك (وليم، شارل، فاروق). وعلى بناتها اسماء الملكات (أوجيني، فيكتوريا، اليزابيت). وشاع في القرى زمناً اسم “فروسين”. ولم نكن نعرف – ولا صاحبته تعرف – من أين أتى. وكنت اقرأُ أخيراً أنه اسم إحدى آلهات الجمال! كم كان الفارق في الاوهام كبيراً، يا خالتي فروسين.
تتآمر شبكة هائلة من المشاركين في خداعنا بلعبة الوهم: الصحافة، والمروِّجون، والمسوِّقون، وكتّاب الشعارات، والمصممون، والمستشارون، والخياطون، والمذيعون، وأصحاب الملصقات وبقية المستفيدين، من اجل تحويلنا الى زبائن في سوق بلا بضاعة. نجوم عابرون وسياسيون يبحثون عن رساميلهم في غباوتنا. والجميع متفقون على اننا لن نستيقظ، إلا كي نغفو من جديد.
مساء كل سبت كان أبي يشاهد في حماسة ومتعة برامج المصارعة الحرة على التلفزيون. ومن دون كل ليالي الاسبوع، لا يلتزم موعد النوم في العاشرة. وكنا جميعاً نعرف أنه بعد النوم بقليل سوف يأتيه الكابوس ويعلو صراخه، فيقوم أحدنا لايقاظه. وفي السبت التالي يتكرر عذابه. إنه يريد ان يرد الهزيمة عن بطليه، الاخوين سعادة، وأن يرمي منافسهما “برنس كومالي” من فوق الحلبة بين اقدام المشاهدين.
لا شيء أقنعه بأن متعهد الحفلة واحد. وأن المشجعين يتبادلون المواقع، مرة يصفقون لكومالي، مرة للأخوين. وفي أميركا كانت المصارعة الحرة تُستخدم للشحن السياسي، خصوصاً أيام الحرب الباردة، فيتخذ المصارع “الشرير” اسماً سوفياتياً، مع أنه من كاليفورنيا. وهو نفسه عاد فاتخذ اسماً ايرانياً اثناء ازمة السفارة الاميركية في طهران. وفي الامكان دائماً تغيير الثلاثة: الجمهور والمشجعين والمصارعين. في جميع الحالات، الرابح هو المتعهد. وقد سُئل أحدهم مرة ما هو الفارق بين رقص التانغو والمصارعة الحرة، فقال إن بعض المسكات ممنوعة في المصارعة الحرة!
مثلما خاف أفلاطون في ايامه من بعض مسالك الديموقراطية، يحدث ذلك في عالمنا الآن. الانتخابات، حتى النزيهة منها، تؤدي الى وصول الفاشيين. وبعد ثلاثين عاماً من الحكم البائس يقول عمر البشير للمعارضين، بيني وبينكم الانتخابات! التونسي زين العابدين بن علي استعجل الخروج لأنه كان يدري أنه انتخب نفسه. وأن انتخابات هذا الجزء من الكرة الأرضية تشبه مركِّبيها، أو مرتكبيها. استحى ومشى.
عصر الوهم. وهم الانتخابات، وهم الديموقراطية، وهم الزعم ووهم الزعيم. والفارق بسيط: أن تنتخبك الناس أو أن تعين نفسك. وبعكس ما يتراءى، الطريق قصير ومقطوع. أو مسدود. يستوقف الخداع الكبير حريق صغير مثل جورج زريق. يفضح والد الطفل اكذوبة الاقتصاد وفجور الطبقية وفجاجة الفوقيات ووقاحة الفساد.
اشعل جورج زريق الثوب الكاذب الذي يرتدونه في لحظات بيع الوهم وتجميل الخديعة. ذلك كان البيان الأخير الى اللبنانيين المتدثرين بالضمائر الخاملة والقلوب الصدئة. على باب المدرسة في الكورة، أحرق جورج زريق بقايا صورة الطبقة الوسطى التي على كواهلها قام لبنان، وعلى خرابها سوف يكتمل خرابه. وها هو يتذكر اليوم ذليلاً مثل اللقطاء تحت وطأة الصفقات الكاسحة.
الوهم اسم آخر للكذب. والإيهام لا يبني أمماً ولا وطناً ولا يسدد قسطاً مدرسياً ولا يشتري ربطة خبز. الفارق الطبقي في هذا البلد المهان، لم يعد يطاق. المصارف الكبرى يدعمها البنك المركزي، وقروض الاسكان يوزعها مثل قروش الشحاذين. ألم يحن الوقت لأن يطرح جورج زريق الأسئلة على ذوي الامبراطوريات المحكمة الاسوار، والمحصَّنة ضد السؤال، والشبهة فاقعة مثل امرأة القيصر؟
المقارنة بين جورج زريق ومحمد البوعزيزي لا شبه فيها سوى الفقر والحريق. الباقي صف كلام. فالمجتمع التونسي مجتمع حيّ ومثقف ووطني ومدني ولم يفقد حيويته ولا تبلدت نفسه ولا صدئت مشاعره. وهو ينتمي الى اصول الدولة التي نبحث عنها منذ مائة عام. وعسى أن توفّقوا في المائة عام المقبلة: صفا واحداً بإذن الله.
سوف تنتهون مع نهاية الطبقة الوسطى. جورج زريق ليس حريقاً فردياً. إنه شمعة في الكهف، من أجل ان نفرق بين الظلال والحقيقة. الوهم والألم. دعم الليرة بدعم المصارف واقراض الاغنياء، أم دعم الناس، واقناع جورج زريق بأن الأفضل هو البقاء الى جانب اطفاله بدل احراق عاره ومهانته. نحيا منذ زمن في جمهورية الاستعراض. لافتات وشعارات وبيع أوهام. حتى اذكياؤنا، ينتظرون الربح في “الثلاث ورقات”. لعلها تظبط ذات يوم ونضع اليد على الورقة الرابحة. أو لعل “برنس كومالي” يخسر امام الأخوين سعادة، وننام بلا كوابيس.