”الله ليس كاثوليكياً” – سمير عطاالله – النهار

بعد انتخابه للكرسي الرسولي باشهر قليلة العام 2013، كتب إليه أوجينيو سكالفاري، رئيس تحرير “لا ريبوبليكا”، يعرب عن الرغبة في اجراء حوار معه. وخلال ايام نادت عليه سكرتيرته بهلع: “البابا بنفسه على الخط”. وأخذ الهاتف بسرعة: “قداستك. لقد اربكتني”. فقال البابا ضاحكاً: “سألت عنك بعض رفاقي في الفاتيكان، وقيل لي انك غير مؤمن، فماذا تهدف من اللقاء؟ استمالتي الى صفك؟”. واجاب سكالفاري: “اطلاقاً. متى تستطيع استقبالي”؟ استمهله البابا قائلاً: “دعني اراجع مفكرتي قليلاً. هل يناسبك الثلثاء قبل الظهر أم الأربعاء بعد الظهر. وإلاَّ، فالاسبوع التالي”.

قال سكالفاري: “الأمر لك، الحبر الاعظم. انت تحدد. وللمناسبة كيف تفضل أن اناديك؟ فالقاب البابا كثيرة”. “آه، لماذا لا تختار أبسطها، بابا فرنسيس”؟ “بابا فرنسيس، لقد اشعرتني حقاً بالارتباك. لم أعد أعرف كيف أنهي هذه المكالمة”. “لا عليك. ربّت كتفي واربّت كتفك. وعندما نلتقي نفعل ذلك وجاهيا”.




يلتقيان، بابا روما والصحافي، في جناح فرنسيس البسيط. طاولة واحدة. وبعد قليل يسأل ضيفه ماذا يريد أن يشرب؟ قهوة؟ يجيب الضيف أنه يفضل كوباً من المياه. يقوم المضيف الى الباب، وينده على حاجب جالس في الممشى: “كوبان من المياه، رجاء”.

يدور بعد ذلك حوار مثير بين رأس الكنيسة الكاثوليكية، وضيفه. يقول مطران بوينس ايرس السابق إن التبشير سخيف لا معنى له. العمل هو الأساس، وقوة الايمان الأولى هي محبة الغير. وليس لك ان تقرر لغيرك ما هو صالح في الحياة. دع ضميرك يقرر. وضمير الآخر يقرر عنه. ويلتقيان معاً على مفهوم الطريف الصالح.

• إن هذا لكلام خطير جداً يأتي من بابا.

– لا بأس. لا بأس.

• قداستك…

– أنا أؤمن بالله، وليس بإله كاثوليكي. ليس هناك إله كاثوليكي، هناك الله. وأنا اؤمن بيسوع المسيح وتجسده. يسوع هو معلمي وهو راعيّ. لكن الله هو النور، وهو الخالق، وتلك هي كينونتي.

• هل تعرفت على المبادىء الشيوعية؟

– أجل. كانت مدرِّستي في الجامعة شيوعية، وكانت سيدة فاضلة تحمل اليّ جميع المناشير. لم تستملني الماوية الشيوعية.وأما الاستاذة نفسها فقد عاد حكم الجنرالات وأعدمها. وكثيرون من الشيوعيين كانوا مؤمنين، وعلى درجة عالية من الإنسانية.

• ما هو أخطر ما يواجه العالم اليوم؟

– شران: بطالة الشبان وعزلة الشيوخ. كلاهما فقد القدرة على الحلم. لقد سحقهم الحاضر. والكنيسة معنية بهم لأن هذا الوضع يسحق الأرواح والاجساد معاً.

العام 2017 قال فرنسيس الأول عن دونالد ترامب “إن الإنسان الذي يفكر فقط في بناء الجدران اينما كان، ولا يفكر في بناء الجسور، ليس مسيحياً. هذا ليس من تعاليم الانجيل”.

حوار سكالفاري مع البابا فرنسيس الأول طويل جداً. ولقد عدت إليه مجتزأً لأنني وجدت فيه افضل ما يمثل صورة هذا الوديع والبسيط والمتواضع، الذي يرفض حتى اليوم السكن في الفيلا البابوية، ويرفض ما يسميه “البلاط” أو الكَذَبة من الذين يتملقون الضعف البشري: باطل الاباطيل، كل شيء باطل.

ليس في الذاكرة مؤتمر ديني في العالم العربي في أهمية مؤتمر أبوظبي للأديان. ملياران ونصف مليار مسيحي يقابلهم ملياران من المسلمين يلتقون للمرة الأولى، ليس في مصر أو لبنان، بل في الصحراء على مقربة من مهد الرسالة.

ويتم اللقاء الروحي في أحد أسوأ أزمنة النزاع والخلاف: انحسار مسيحي هائل في العراق وسوريا، وهجرة كبرى من فلسطين ولبنان، إضافة الى هجرة مستمرة من مصر، على رغم ان حكومة عبد الفتاح السيسي تولي الاقباط اهتماماً لم يُعرف منذ سقوط الملكية. والفارق بين نظامه وجميع الأنظمة السابقة لا يقاس.

أيضاً، لم يُظهر أي بابا من قبل، التقارب الذي أظهره فرنسيس الأول مع الاسلام. وبعد حادثة الهجوم على مجلة “تشارلي إيبدو” في باريس العام 2015 أثار الصحف الاوروبية عندما لم يستنكر قتل رسامي المجلة، بل قال: “لا يحق لك الاستفزاز. لا يحق لك السخرية من ايمان الآخرين. وإذا ما استفز أحد الآخر، فعليه ان يتوقع لكمة”.

ورفض البابا ربط العنف بالاسلام قائلاً: “كل يوم أرى عنفاً في كل مكان”. وعندما قام معاونه الكاردينال راينارد ماركس، العام 2016، بزيارة المسجد الاقصى، نزع صليبه الكنسي، احتراماً للمشاعر الاسلامية”. واتخذ البابا مواقف غير مسبوقة من القضية الفلسطينية، معترفاً بدولة فلسطين المستقلة، ممتدحاً الرئيس محمود عباس ومسمّياً اياه “ملاك السلام”.

لا يمكن في المقابل اغفال المبادرات التي قامت بها المؤسسة الاسلامية، كمثل الدعوة التي وجهتها السعودية الى البطريرك الراعي لزيارة الرياض، والاستقبال الذي اقيم له. أو زيارة الدكتور احمد الطيب، شيخ الأزهر، للفاتيكان، أو الصورة الجديدة التي اعطاها الطيب للاتجاهات الازهرية. وسبقت دولة الامارات الآخرين في عدد الكنائس التي اقيمت فيها. ولعلها تضم أكبر عدد من الاديان في العالم، حيث يقيم نحو مليون مسيحي الى جانب مليون مواطن في دولة تضم عشرة ملايين إنسان من شتى الديانات وكل أنحاء العالم.

كانت الكويت والامارات من أولى الدول العربية التي اقامت علاقات ديبلوماسية مع الكرسي الرسولي الذي عيَّن المطران منجد الهاشم اول سفير له هناك. والمطران منجد من اوائل احبار لبنان الذين شغلوا مناصب في حاضرة روما في بدايات حياته الكهنوتية. وأنا مدين له بتلك الجولة التثقيفية التي صحبته فيها في اقسام الفاتيكان العام 1973. ومن ثم عدت فالتقيته سفيراً للفاتيكان خلال زيارة لابنة شقيقه شبل في دبي.

وأعلياء مثل فرنسيس الأول، سوف تغير الوضع الداخلي للكثلكة وفي علاقتها مع الاديان الأخرى. وتسيء الى الاكليروس جداً تصرفات الذين لم يبلّغوا بعد ان عليهم الوقوف لتحية رعاياهم تأدباً ومسيحياً، وأن عصر احراق المخالفين قد مضى مع احراق شقيق احمد فارس الشدياق. وقد ذكّر البابا محاوره سكالفاري بأن أحب القاب البابا الرسمية إليه هو “خادم خدام الله”. مضت القرون والعهود التي كان البابا يقود فيها حرباً. وهذا الأمير الليبرالي الحر والنبيل، سوف ينقذ الكنيسة من بقايا الاقطاع الفكري وكاسري عهود يسوع بالقلوب والعقول المغلقة والتشاوف التافه.

يمثل البطريرك بشاره الراعي، الذي أمضى ردحاً طويلاً من الزمن في الادارة الفاتيكانية، أحد نماذج التلمذة لانفتاح فرنسيس الأول، كما تشكل علاقته الوطيدة مع الفاتيكان بعداً إضافياً مهماً لمهمة البابا حيال مسيحيي الشرق وجذورهم في ارضهم العربية، وخصوصاً، في عروبة لبنان الذي لم يكن هذه المرة على خط الرحلة البابوية. عندما التقى السفير سمير شما فرنسيس الأول، مطران بوينس ايرس السابق، قال له: “انا كسفير سابق بوينس ايرس في قلبي”. وقال البابا: “وأنا لبنان دائماً في قلبي”.