اغتيال الحريري والزمن ‘الدوّار’ – فارس خشّان – الحرة

من حيث المبدأ، يُفترض ألا ينتهي هذا العام من دون صدور حكم بحق المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.

وفي 21 أيلول/سبتمبر الماضي، ختمت الغرفة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان محاكمة أربعة متهمين ينتمون، وفق سيرتهم الأمنية الثابتة، إلى “حزب الله”، بعدما كانت، في وقت سابق قد أسقطت الملاحقة عن متهم خامس، وهو القيادي في الحزب مصطفى بدر الدين الملقب بـ”ذو الفقار” الذي أعلن عن مقتله في دمشق، في 13 أيار/ مايو 2016.




وبرّرت الغرفة عدم قدرتها على المجاهرة بموعد نهائي لإصدار الحكم بالإشارة إلى حاجتها لتمحيص دقائق ملف ضخم جدا بدأ يتكوّن، منذ 14 شباط/ فبراير 2005، تاريخ حصول اغتيال الحريري، أثناء مرور موكبه أمام فندق السان جورج في وسط بيروت.

وتقول رئيسة المحكمة القاضية التشيكية إيفانا هرديليشكوفا في تبرير ما يوصف ببطء إجراءات المحاكمة وإصدار الحكم “إن الأدلة صعبة للغاية وهذه المحكمة سبّاقة من نواح عدة، إذ إنها المرة الأولى التي تقدم بها أدلة اتصالات بهذا التعقيد والحجم أمام محكمة دولية”.

وكانت غرفة الدرجة الأولى التي تضم ثلاثة قضاة أساسيين (أجنبيان ولبناني) وقاضيين رديفين (أجنبي ولبناني)، قد أجرت محاكمة بدأت في كانون الثاني/يناير 2014 بالصورة الغيابية، وذلك بسبب عجز السلطات اللبنانية عن توقيف المتهمين وتسليمهم، خصوصا بعدما أعلن الأمين العام لـ”حزب الله” حمايتهم ورعايتهم و”قطع اليد التي تحاول أن تمتد إليهم”.

وكان واضعو نظام المحكمة، التي أُنشئت بقرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، بعدما عطّل “حزب الله” أعمال المجلس النيابي اللبناني ـ حيث توافرت الأكثرية النيابية، في حينه لمصلحة مؤيدي المحكمة ـ قد أعطوها صلاحية إجراء محاكمات غيابية مشروطة بضمانات للمتهمين تراعي المعايير الجنائية الدولية، تحسبّا لموقف مماثل من “حزب الله” الذي سعى جاهدا إلى منع تشكيلها وتاليا إلى منع المحاكمة.

وواقعيا، لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تفرض أي قرار على “حزب الله” الذي يتربّع على دويلة تملك القدرة على مهاجمة الدولة عسكريا، حين تقتضي الحاجة، وفق السيناريو الذي حصل في السابع من أيار/ مايو 2008، في ردّه على قرارات اتخذتها الحكومة وجاءت متناقضة مع مصالحه الأمنية.

وفي الانتظار، تحلّ الذكرى الرابعة عشرة لاغتيال الحريري، في ظل ظروف تبدو مؤاتية كليا لـ”حزب الله”؛ إذ إنه نجح في السنوات الماضية في التمدد أكثر وأكثر في مراكز القرار الوطني، بحيث أنجز أمورا كثيرة، أبرزها الآتي:

أوّلا؛ حملت “بندقيته” العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية (وفق إقرار النائب في كتلة “حزب الله” نوّاف الموسوي).

ثانيا؛ عطّل تشكيل الحكومة أشهرا حتى تمكّن من تمرير شروطه المعلنة، كتوزير سنّي تابع لمجموعة نيابية موالية له، وغير المعلنة، كتمتين قناة مقايضة بين إيران والاتحاد الأوروبي، من خلال فرنسا.

ثالثا؛ خسارة الجهات الداعمة للمحكمة الأكثرية في المجلس النيابي.

رابعا؛ تهميش موضوع المحكمة في المسار السياسي العام في لبنان، إلى حدّ التلاشي.

خامسا؛ سحب الخلاف حول سلاحه من السجال السياسي، في وقت يتمدد نفوذه إلى الأجهزة الأمنية على اختلافها.

وهذا يفيد أن “حزب الله” يعتقد ـ وكذلك غالبية اللبنانيين ـ أنه هيّأ الأرضية المناسبة حتى لا يُساوي الحكم المتوقّع الحبر الذي كُتب فيه، إذا ما صدر مجرّما المتهمين المنتمين إليه.

هل هو محق بذلك؟

لا شك أنه في المعادلات الحالية للسلطة في لبنان، فإن الحكم القضائي المنتظر، في حال تجريم المتهمين، لن يكون له أي انعكاس سلبي على “حزب الله”، لأن المعنيين بهذا الحكم القضائي سبق لهم وأعادوا ترتيب أولوياتهم السياسية؛ فرئيس الحكومة سعد الحريري، وهو الذي دخل المعترك السياسي من بوابة اغتيال والده، يفتّش عن “مشكلة بالناقص”، من أجل ديمومة “الاستقرار” وتنفيذ برنامج الإنقاذ الاقتصادي، وفق مقتضيات مؤتمر “سيدر” الذي كان قد وفّر هبات وقروضا ميسّرة للدولة اللبنانية التي تعاني مخاطر الانهيار.

وهو، وفق الأدبيات التي يعتمدها في السنوات الأخيرة، يرى أن إعادة الاعتبار لوالده الشهيد تكون بالعمل لإنقاذ لبنان وتوفير أمنه واستقراره.

وهو، وإن كان ينتظر ما ستقضي به المحكمة الخاصة بلبنان التي سعى إلى إنشائها وجهد لتشكيلها وصارع لتمويلها، إلا أنه في الغالب لن يثير، بسبب الحكم القضائي، أي مشكلة إضافية مع “حزب الله”، بل سيعتمد السيناريو الذي سبق أن اتبعه، عندما وافق مع بداية المحاكمة، على الجلوس مع “حزب الله” في حكومة واحدة يترأسها تمّام سلام، مسقطا بذلك شرطه السابق بوجوب تسليم المتهمين قبل التشارك في الحكومة.

بطبيعة الحال، الأمر الواقع الذي فرضه “حزب الله” والسلوك الذي ينضبط فيه الرئيس سعد الحريري لا يتلاءمان مع تطلعات من سبق ووعدوا أنفسهم بالاقتصاص من المجرمين.

وهذه “الخيبة” ستضاف إلى عشرات غيرها مما يتسبّب بهذا الإحباط لدى المواطن اللبناني الذي يرى أن دولته مستضعفة وعدالته جهيضة وحقوقه منتهكة واستقراره استقرار قبور.

ولكن في المقابل، فإن المحكمة الخاصة بلبنان التي فصلت نفسها عن السياسة، ستقدّم خدمات جلّة للبنانيين، إذ إنها ستمكنهم من الإمساك بالحقيقة الرسمية لما حصل مع شخصية بحجم رفيق الحريري، وهذه خدمة غير مسبوقة في تاريخ لبنان، حيث الاتهام بالاغتيالات كان يبقى مجرد وجهة نظر.

كما أن الأحكام القضائية، متى كانت دولية، لا تتحكم بها الظروف الراهنة، بل هي تملك نفسا طويلا يُنهك المحكوم عليهم ورعاتهم، الأمر الذي يعيد الأمور إلى نصابها، وبطريقة أقوى وأعمق وأشمل، بمجرد أن تنتفي الظروف المانعة لتنفيذ هذه الأحكام.

والجهات التي تحول دون تنفيذ حكم قضائي مبرم، تصبح تلقائيا خارج الشرعية الدولية، ويستحيل اللجوء إليها أو الاستعانة بها أو إكسابها أي مشروعية.

وليس مقدّرا أن تنتهي أعمال المحكمة الخاصة بلبنان مع صدور الحكم في ملف اغتيال الحريري، بل إنّه مرتقب، بعيد ذلك، أن تصدر القرارات الاتهامية شبه الجاهزة في ملفات أخرى تُعنى باغتيال جورج حاوي ومحاولتي اغتيال الوزيرين السابقين مروان حماده والياس المر.

ووفق المعلومات، فإن المتهمين المتوقعين ينتسبون هم أيضا إلى “حزب الله”، وقد أميط اللثام عن هوياتهم، بالاستناد إلى التقنية نفسها التي أدت الى توجيه الاتهام في ملف اغتيال الحريري.

في 14 شباط/فبراير 2005، استغل أعداء رفيق الحريري الظروف الأمنية والسياسية المؤاتية لهم وارتكبوا جريمة اغتياله متسببين بقتل الوزير السابق باسل فليحان وعشرين آخرين، ولكنّ الزمن اللبناني دار دورة كاملة فانقلبت الدماء وبالا على من كان يعتقد بقوته هو وضعف مناوئيه.

في 14 شباط/فبراير 2019، يبدو أن لبنان عاد، بمعادلات القوة والسياسة 14 سنة إلى الوراء، ولكنّ من يستغل ذلك يُسقط، مرة ثانية، من حسابه أن الزمن دوّار.