لم يحرك رئيس الجمهورية ميشال سليمان ساكناً، ولم يحتكم الى الدستور ويستبق عقد جلسة مجلس النواب للتمديد لنفسه مدة سنة وخمسة اشهر، فيطلب تأجيلها وفق المادة 59. هكذا لم يقرأ الرئيس في الدستور الا المواد التي تعطيه حق صلاحيات الطعن. حيناً يريد الطعن بالارثوذكسي وحيناً آخر بالتمديد. اما ارجاء الجلسة، ترجمة لصلاحيات رئيس الجمهورية ومحافظة على الدستور، فدونها تسويات سياسية يريد سليمان ان يراعيها. منذ نحو عامين والكتل السياسية تتحدث عن ضرورة اجراء الانتخابات في موعدها، تفعيلاً لتاريخ لبنان الديموقراطي. فهل يمكن للشعوب العربية التي انتفضت على حكامها ان تنتخب ولا ينتخب اللبنانيون؟ لكن هذا ما سيحصل فعلا اليوم، فيما تسابقت الكتل السياسية الى صياغة تبريرات غير مقنعة لهذا التحول الكبير في مواقفها، متذرعة بالدواعي الامنية وبالخشية من اسوأ الاحتمالات اي الفراغ، وهما امران واقعان، فذهبت الى الخيار الاسهل، بدل البحث عن قانون انتخابي تجرى الانتخابات على اساسه، وبدل معالجة اسباب دورة العنف في لبنان.
اليوم يمدّد النواب لانفسهم، ولكن هل يمكن لاي من الداعمين للتمديد ان يسأل: اي شرعية لرئيس للجمهورية المقبل اذا انتخب في مجلس ممدد له بتسوية سياسية، ولمجلس يبدأ ولايته بالطعن بها من رئيس الجمهورية بحسب ما هدد، والعماد ميشال عون؟ ومن يمكن ان يضمن اساساً ان التمديد للمجلس لن ينسحب على رئيس الجمهورية ليس تمديداً بل تجديداً، وكيف يمكن لحكومة جديدة ان تنبثق من التسوية الحالية لتكون قادرة على ادارة مقدرات الوضع بكل تشنجاته السياسية والامنية، التي كانت السبب في تمديد ولاية المجلس؟
ومن يمكن ان يصدق ان ارجاء الانتخابات لم يحصل بسبب قانون الستين فحسب، انما ايضا بسبب ضيق الوقت من اجل القيام بتعبئة انتخابية في لبنان وخارجه، وصولا الى حد قول اوساط قيادية في 14 آذار ان اي طرف داخلي او خارجي غير مستعد لأن يدفع راهنا اموال الحملة الانتخابية لاي طرف لبناني.
وهل يمكن لاحد ان يصدق ان الاتفاقات المحلية جرت بمعزل عن رعاية عربية او دولية، واين الموفدون الدوليون الذين اصروا على حتمية اجراء الانتخابات في مواعيدها؟.
وفق ذلك من يتحمل مسؤولية ما يحصل اليوم في ساحة النجمة، وكيف انتهت رحلة المشروع الانتخابي في لقاء عين التينة بعدما انطلقت من الديمان؟
يستعيد احد السياسيين كيف تصدت البطريركية المارونية لمهمة ادارة الملف الانتخابي منذ آب عام 2011، لكنها وهي غارقة في احتفاليتها المستمرة وتنظيم رحلات عبر العالم، فشلت في تحمل مسؤولية انجاز قانون انتخابي، وباتت في مقدم المسؤولين عما وصلت اليه حال المسيحيين في الانتخابات وما وصل اليه البلد كله.
ادخلت بكركي نفسها بقيادة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في معمعة الانتخابات من دون رؤية واضحة ولا تصور علمي مدروس لما هو مطلوب من قانون الانتخاب، وتعاملت منذ عامين وحتى اليوم بفوضوية مطلقة في ملف حساس ودقيق بالنسبة الى المسيحيين. فهل يمكن ان ننسى ان مطلب قانون الانتخاب واجراء انتخابات حرة ونزيهة كان المطلب الاول للمسيحيين ابان عهد الوجود السوري في لبنان، وظل كذلك حتى بعد خروج الجيش منه.
غامر الراعي من دون افق برصيد بكركي في الدفاع عن قانون انتخابات، من دون ان يتمكن من تحصيل اي مكسب للمسيحيين، ما ادى تلقائيا الى «استخفاف» القوى السياسية بما يصدر عنها. اساسا لم يعد احد ينتظر بيان مجلس المطارنة الموارنة عند بداية كل شهر، حتى البيان الاخير الذي ارتفع فيه صوت المطارنة مطالبا باجراء الانتخاب، لم يتوقف عنده احد. فقدت بكركي وهجها، ولم يعد لكلمتها وقع وصدى، فأوصلت بتخبطها في الملف الانتخابي المسيحيين الى حال الفوضى، واللبنانيين الى التمديد للمجلس النيابي.
في الاتصالات التي اجريت مع الراعي اخيرا، سمع المتصلون لغتين مختلفتين، اعطى لكل فريق جوابا مطمئنا، وتحدث بتفاصيل اوحت لمن التقاه ــ بين رحلتين ــ أنه اقتنع بوجهة نظره، ووضب حقائبه ورحل الى بولونيا.
والمسيحيون انفسهم الذين قادوا لعبة الانتخابات اخطأوا مرات ومرات. اخطأوا اولا منذ الدوحة حين قبلوا قانون الستين الذي اصبح سيفا مصلتا عليهم. واخطأوا في تبني الارثوذكسي، وحين سمحوا للزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي ابعدهم عن الحكم عام 2005 بصياغة التحالف الرباعي على حسابهم، ان يكرر التسوية نفسها. واخطأوا في مقاربتهم للخلاف السني الشيعي الذي ينتهي عند حدود الحفاظ على المكاسب. وبحسب قيادي في 14 آذار فإن الطرفين السني والشيعي لا يمكن ان يتحملا اليوم مواجهة انتخابية سنية ــ شيعية في بيروت مثلا، ففضّلا ارجاء المواجهة الى ما بعد حسم الوضع في سوريا.
بقدر ما هي عظيمة خطيئة بكركي، تكبر ايضا خطيئة الشركاء الآخرين. فثمة انطباع بأن السنة والشيعة تحالفوا، بالتكافل والتضامن، من اجل اقصاء المسيحيين عن ادارة شؤون البلد. رفض السنة المشروع الارثوذكسي الى الحد الاقصى. ووقف الشيعة الى جانب العماد ميشال عون، لكن الرئيس نبيه بري ناور الى اللحظة الاخيرة ورفض عقد الهيئة العامة للتصويت عليه، فجاءت النتيجة نفسها، لم يصل الارثوذكسي الى ساحة النجمة، بعما ابتدع بري الميثاقية التي تجاهلها السنة والشيعة حين حكما لبنان خلال فترة الوجود السوري. كلاهما ارادا التمديد لسبب او لآخر فتكرس الاتفاق في لقاء الرئيسين بري وفؤاد السنيورة.
لكن للمستقبل رواية اخرى، ترفض ان يكون السنة والشيعة اتفقا على المسيحيين، بل ان «الحلفاء المسيحيين هم الذي ارادوا التمديد فوقفنا معهم»، رغم انهم لم يقفوا معهم في الارثوذكسي. للمستقبل حجته، فهو كان مرتاحا لاجراء الانتخابات على اساس قانون الستين، ومعه النائب وليد جنبلاط وحزب الله وامل. اذ لا يضير الثلاثة قانون الستين مطلقا، لا بل انه يسمح لهم بالامساك بحصة مسيحية كان الرئيس امين الجميل ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع يطالبان بها، ومن اجلها ذهبا الى الارثوذكسي. وللمستقبل ايضا حجته في «اننا انتظرنا اتفاق المسيحيين اكثر من عام لكنهم لم يتفقوا». هي حجة الطرف الشيعي نفسها.
في المحصلة بين بعبدا وبكركي، نجح بيت الوسط وعين التينة في صياغة مشروع تهدئة، بحجة الانصراف مجددا الى مناقشة قانون الانتخاب، بحسب الحجة التي قدمت الى اللبنانيين. وكأن ما لم ينجز في عامين سينجز في سنة وخمسة اشهر. حتى يحين موعد التسوية الاقليمية ـــ السورية، وتنجلي حقيقة ما يرسم للبنان من صفقة مرحلية او نهائية، وحتى تبدأ رحلة الطعن بالتمديد او غيرها من الخطوات، والبحث في التسوية الحكومية، وبعدها رئاسة الجمهورية، يؤمل الا تتدخل بكركي الحالية مرة اخرى. فخسائر العامين الماضيين تكفي.