أيُّ سؤال أصح: ما هو تأثير دور لبنان في أحداث المَنطقة أم ما هو تأثير أحداث المنطقة على لبنان؟ حين يكون اللبنانيون موحَّدين السؤال الصحيح هو: ما تأثيرهم على أحداث الشرق الأوسط؟ وحين يكونون منقسمين، كما هي الحال اليوم، يصبح السؤال الصحيح: ما تأثير أحداث الشرق الأوسط عليهم؟ والغرابة التاريخية هي أن لبنان الدولة يتأثر سلباً بأحداث العالم العربي، بينما اللبنانيون كأفراد هم من يؤثرون إيجاباً في تطور العالم العربي.
بموازاة القيم التي شّـيّدنا عليها الحلم اللبناني، برزت عورات جوهرية في خَلطةِ الكيان اللبناني. من بين تلك العوراتِ خمسٌ:
* الأولى هي أن غالبية المجموعاتِ اللبنانية لها امتداد خارجي ديني أو مذهبي أو عقائدي أو حضاري. وعوض أن يَحُـدّ الاعترافُ بنهائية لبنان من هذا الامتداد، ضاعفه.
* الثانية هي أن غالبية هذه الامتدادات، وكان يمكن أن تُـغنيَ الصيغة اللبنانية، تحوّلت مشاريعَ سياسيةً واستراتيجياتٍ عسكرية التزمت بها مجموعات لبنانية وكأنها جُزء من انتمائها الديني ودورها القومي.
* الثالثة هي أن الطائفية التي سلّم بها اللبنانيون حالةً مرحليةً في الميثاق الوطني على أمل إلغائها، تفاقمت مع اتفاق الطائف. فبدل أن يتقدّم اللبنانيون نحو العلمنة، جَنحوا نحو التعصب والتطرف الديني والمذهبي.
* الرابعة هي أن بروز الكيان اللبناني الحالي جاء في إطار ولادة الشرق الأوسط القديم إثرَ سقوط السلطنة العثمانية السابقة، ما يجعل هذا الكيان يتأثر بولادة الشرق الأوسط الجديد أيضاً (والحذرُ خيرٌ من الندم).
* الخامسة هي أن موقع لبنان هو على تخوم إسرائيل الرافضةِ حقَّ عودة اللاجئين الفلسطينيين (والسلطة الفلسطينية موافقة على ذلك)، وعلى تخوم سوريا ذات الأطماع المختلِفة في لبنان أياً تكن طبيعة نظامها.
حاولنا طوال مئةِ عام تقريباً تعظيمَ الحسناتِ وتجميلَ السيئات علّ تجربةَ لبنان الـ 10452 كلم² تنجح وتكون مثالاً للمشرق ألأرامي الكنعاني الفينيقي العربي، وعلّ الأبناءَ والأحفادَ يَسُدُّون ثغراتِ الآباءِ
والأجداد، فنجحنا حيناً وأخفقنا أحياناً حتى بلغنا اليوم لحظة الخيار بين تغييرِ الحلم أو تحقيقِه دون مواربة، إذ لا يجوز احتجاز أجيالَ لبنان مزيداً من العقود موادّ اختبار cobaye لتجربة تضرجت بالدماء والمآسي والحروب والاقتتال والاحتلال.
والمؤسف أن غالبية تضحيات اللبنانيين كانت دفاعاً عن قضايا الآخرين، حتى أن تضحياتهم في سبيل القضية اللبنانية ما كانت لـتُـقَدَّمَ لو لم تتورّط الجماعات اللبنانية بأشكال شتّى في قضايا الآخرين. ولو ناضلنا في سبيل لبنان عِشرَ ما ناضلنا في سبيل قضايا الآخرين لكانت نجحت التجربة اللبنانية وتَـثـبَّـت الكيان وصمدت الوحدة الوطنية وأزهرت الصيغة الميثاقية أجمل نموذج في الشرق والعالم.
لقد التبس على اللبنانيين الفارقُ بين التضامن مع قضية الآخر والتورط في حروبه. مثال التضامن مع قضية هو موقف لبنان من القضية الفلسطينية بين سنتي 1948 و 1969. ومثال التورط هو موقف لبنان من القضية الفلسطينية من سنة 1969 تاريخ توقيع "اتفاق القاهرة" حتى اليوم. الحالة الأولى أفادت القضية الفلسطينية وحمت لبنان، الحالة الثانية أضرّت بلبنان وبالفلسطينيين.
ما عدا أورشليم القدس، لا أجد اليومَ أيَّ قضية تستحق بعدُ أن يستشهد أي لبناني في سبيلها غيرَ القضية اللبنانية. بذلنا في سبيل قضايا المنطقة ما يفوق طاقةَ بلادنا وشعبنا. لبنان ليس مصرِفَ تسليفِ شهداء، ولا وكيلَ تفليساتِ قضايا المنطقة، ولا حقلَ رماية لتجربة إنتاج الصناعات العسكرية. فلا نَخرج من حروب الآخرين وندخل في أحلامهم. ويا ليتها أحلامٌ، إذ هي حنينٌ في أحسن الأحوال، وكوابيسُ وفي أسوئها. وها الثوراتُ الإسلامية في بعض الدول العربية شاهدةُ حقٍّ على زورِ أحلام.
ألا نلاحظ أنَّ لا يوجد أيُّ تحرك عربي أو إسلامي ضد إسرائيل. كل النضال يتركز على الصراع العربي الداخلي (أنظمة وانتفاضات)، أو على الصراع العربي العام (محور عربي ضد محور عربي آخر)، أو على الصراع العربي الإسلامي (العرب والفرس).
هذا في وقتٍ يُـفترض بلبنان أن يكون اليومَ في أحسن حال: شعبه اعترف به وطناً نهائياً، الاحتلال الإسرائيلي زال، الجيش السوري انسحب، الأمم المتحدة حصّنت لبنان بمجموعة قرارات دولية، السُـنّـة رفعوا شعار "لبنان أولاً" والشيعةُ ثقافةَ المقاومة، والمسيحيون، وبخاصة الموارنةُ منهم، ظـنّوا أن مشروعهم التعددي فاز في الامتحان فمارسوا هواية الانقسام بين 8 و 14 آذار.
لكن الواقع مختلف: لم تعقب تحريرَ الأرض وحدةُ الشعب. لم توظِّف المقاومةُ انتصاراتها في مشروع الدولة. لم يرافق الاعترافُ بنهائية الوطن اعترافاً بنهائية الشراكة المتوازنة؛ لا بل أن تصرفاتِنا تتناقض مع فعل الاعتراف. حوّلنا إيجابياتنا تجاه الوطن والأرض سلبياتٍ تجاه الدولة والشريك. كان الخوف أن تتقاسم الدولُ المجاورةُ لبنانَ. الخوف اليوم أن تتقاسمَه طوائفُ لبنان (الأهل أولى من ذوي القربى).
وفيما كنا نحاول معالجة هذه المشاكل عبر هيئة الحوار الوطني والتزام القرارات الدولية وتأليف حكومات وحدة وطنية وخلق ديناميكية ميثاقية جديدة من خلال المجتمع المدني، أتت الثورات الإسلامية لتزيدَ الوضع تعقيداً وتكشفَ هشاشةَ شعار "لبنان أولاً" وبطلانَ وُجهةِ السلاح نحو إسرائيل، وهزالَ لبنان وطناً نهائياً. فمنا من ناصر عليَّ والحسن والحسين، ومنا من التحق بمعاوية ويزيد، ومنا من انضمّ إلى أبي مسلم الخرساني، ومنا من استذكر يوحنا الدمشقي، ومنا من تذّكر الحاكمَ بأمر الله. أصبح اللبنانيون الغيارى على الأنظمة متحمسين لها أكثر من أهل الأنظمة، وأصبح اللبنانيون الضنينون بالثورات متحمسين لها أكثر من ذويها. سقطت الحدود اللبنانية السورية واستيقظ سايكس بيكو.
سايكس بيكو القديم نقل المشرق من ولايات إلى دولٍ. أما سايكس بيكو الجديد فسيحوِّل الدول كانتونات. والفارق الأساسي هو أن الهندسة الأولى كانت أجنبية الصنع، بينما الهندسة الجديدة هي صنع عربي وإسلامي بامتياز.
لقد ربط سُنة لبنان وشيعتُـه أنفسَهما بأحداث سوريا، حيث أن خسارة فريق سوري ما ستنعكس خسارة للفريق اللبناني الذي يؤازره، مع ما يشكل ذلك من اختلال في التوازن الميثاقي اللبناني وفي الانتماء إلى المحيط العربي.
هذه هي المرة الأولى في تاريخ لبنان تُقدِم مجموعاتٌ لبنانية على إرسال قواتٍ عسكرية للقتال في حرب أهلية خارجية. حتى أثناء الحروب العربية الإسرائيلية آثرت الدولة اللبنانية عدمَ إرسال قوات نظامية للقتال على الجبهات العربية. وحتى في أيام السلطنة العثمانية كان أمراء جبل لبنان الكبير يرفضون المشاركة في حروب السلطنة. هذا التصرف لا يشكل خرقاً للقوانين اللبنانية ولإعلان بعبدا ولميثاق جامعة الدول العربية ولشرعة الأمم المتحدة فحسب، بل نقضاً لجوهر وجود لبنان ودوره ورسالته.
إن اللبنانيين مدعوون بإلحاح لحماية لبنان من تداعيات الحرب السورية، خصوصاً وأن التداعيات الأمنية البادئة، رغم فداحتها، هي أقلُ الأخطار علينا، فأنا خائف على لبنان من التداعيات الكيانية أكثر من التداعيات الأمنية. إن المرحلة لا تتحمل خطواتٍ أحاديةً خارج إطار قرارٍ وطني شرعي واحد. فلبنان لا يجتاز مرحلةً انتقالية لنؤلّف حكومة تقنيين، بل مرحلة مصيرية تستلزم حكومة إنقاذ وطني.
لا يختلف اثنان على أن مصير لبنان مطروح قبل بدء الثورات العربية، لكن التغيرات العاصفة بالعالم العربي ستعطي للتغيير في لبنان منحى مختلفاً عما كان يمكن أن يكون عليه لو لم تتخذ هذه الثورات منحى إسلاموياً أصولياً. كان اللبنانيون قبل بدء الأحداث العربية يتطلّعون إلى إصلاح محدود يُخرج هذا الفريق من إحباطه وذاك من تهميشه، يضبط هيمنة فريق وسيطرة آخر، ويعيد التوازن الإيجابي بين المؤسسات الدستورية. أما اليوم، مع انفصال جنوب السودان، ونشوء إقليم كردستان، وإعلان جنوب اليمن الانفصال من جانب واحد، ومطالبة أكراد سوريا وسنة العراق بحكم ذاتي، وتحرك الحالة الدرزية في جبل الدروز والجولان،
والاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون في العراق ومصر وتونس وليبيا والآن في سوريا، قد تصبح طبيعة التغييرات في لبنان أعمق وأخطر وأوسع.
كل فريق لبناني لديه مبررات للمطالبة بالانفصال عن الآخر، لكن لا يوجد أي مبرر لأي فريق لبناني لأن يتخلى عن لبنان. فلبنان هو الوطن والملاذ والهوية. لبنان هو ألـ"أنا" الوجدانية والـ"نحن" الوطنية. لبنان يكون واحداً أو لا يكون. ولا يكون لبنان واحداً ما لم يكن حراً، ولا يكون حراً ما لم يكن ديمقراطياً، ولا يكون ديمقراطياً ما لم يكن تعددياً، ولا يكون تعددياً ما لم يكن ميثاقياً، ولا يكون ميثاقياً ما لم يكن مواطنوه أفراداً وجماعاتٍ يتقاسمون نفسَ القيم الإنسانيةِ ويترجمونها في بناء دولة القانون ويحفظون عظمة هذه الأمة.
من أجل ذلك أقترح بعض الأفكار البسيطة التي من شأنها أن تبلور دوراً لبنانياً في خدمة شعوب المنطقة، وتوّفر بالمقابل شبكة أمان داخلية:
1. وقف التدخل العسكري في الحرب السورية وعدم مساندة أي فريق أكان تابعاً للمعارضة أم للنظام.
2. ضبط الحدود اللبنانية السورية للحؤول دون حركة السلاح والمسلحين ولتخفيف تدفق النازحين باستثناء الحالات الطارئة.
3. مبادرة الدولة اللبنانية إلى عقد مؤتمر عربي دولي في لبنان لمعالجة قضية النازحين السوريين على الأسس التي اقترحها الرئيس ميشال سليمان في قمة الدوحة في 26 آذار المنصرم.
4. دعوة جامعة الدول العربية إلى أن تبقى جامعة كل العرب، وأن تحترم نظامها الداخلي الذي ينص على ضرورة توفّر الإجماع لاتخاذ القرارات العامّة.
5. الإسراع بتأليف حكومة إنقاذ وطني مصغرة لمواكبة كل التطورات وتطبيق كل هذه المبادرات والقرارات بالإضافة طبعاً إلى القضايا الأخرى العالقة من قانون الانتخابات، إلى إجراء الانتخابات.
6. تشكيل هيئة حوار جديدة يشترك فيها سياسيون وأخصائيون لتقييم مختلف أوجه حياتنا الوطنية وطرح حلول تتناسب مع حجم التطورات الجارية في المنطقة ومع خصوصيات كل المكونات اللبنانية في إطار إتحادي وميثاقي.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى حزب الكتائب اللبنانية قدّم مساهمة بناءة للشعوب العربية المنتفضة، حين أعلن فخامة الرئيس أمين الجميل "الشرعة الإطار" للثورات العربية والأنظمة البديلة خلال مؤتمر دولي في لبنان في 27 كانون الثاني 2012 حضره مختلف أحزاب ديمقراطية الوسط في العالم.
لا شيء يمكن أن ينقذ لبنان من امتداد الفوضى الأمنيّة في العالم العربي إليه سوى وقوف الدولة على رجليها واستعادة قرارها واستيعاب الجميع في إطار الشرعيّة والدستور والسلطة والقانون. فكلما ضعفت الدولة ترنّحت الوحدة الوطنيّة لأن الدولة هي الإطار الحامي للصيغة والمجسِّد للتعدّديّة السياسيّة.
لقد مضى على وجود الإنسان بشكله الحالي على الأقل ألوف السنوات. وبعد تجارب جمة لم يجد سوى الدولة كياناً ناظماً للحياة المشتركة. فخلافاً للفكر العقائدي الشمولي، إن الدولة أهم من الوطن والأمة. الوطن قصيدة والأمة أغنية، أما الدولة فدستور وقانون ومساواة وعمل وازدهار وعلم ومؤسسات وأمن وسلام. الغنائية انتحت حتى عن الشعر والفن، فكيف لا عن السياسة؟
أخيراً أقول: وجدنا الطائفية وصلت أمام طريق مسدود فطرحنا العلمنة، ووجدنا الانحياز جلب الحروب فطرحنا الحياد، ووجدنا المركزية ضربت الإنماء المتوازن والأمن فطرحنا اللامركزية، ووجدنا التطرف يتصاعد ويزداد فطرحنا لبنان واحة حوار بين الأديان والثقافات. هذه هي أضلع المصير اللبناني الجديد.