عقدة المظلومية تدمر الشخصية – ناصر اليوسف


إن ما تشهده بلادنا حاليا؛ من تحالف، على الباطل، بين أقلياتٍ عابرة لحدود دولِ المنطقة، ابتداء من سورية ولبنان، ومرورا بالعراق، وانتهاء بإيران، سببه حسب رأيي المتواضع، تـَمسّـك أبناء هذه الأقليات بمفاهيم وموروثات، منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو موهوم ومُختـَـلق.
ذلك أن الشيعة يتوارثون، جيلا عن جيل، "مفهوم" أو "عقدة" المظلومية. حيث يتداولون في ما بينهم روايات ما أنزل الله بها من سلطان، عن ظلم تعرض له آل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، عل يد من يسمونهم بـ"النواصب"، ويحمـّـلون السنة من أهل الشام المسؤولية عن مقتل الحسين بن علي.





إنهم بذلك ينصّبون أنفسهم مدافعين حصريين عن آل البيت، ويتوعدون بالثأر للحسين من السنة المعاصرين.


والأمر نفسه ينطبق على العلويين، الذي يتحدثون عن ظلم شديد تعرضوا له على يد الحكام السنة العثمانيين، بسبب "علويتهم". وينسحب هذا التفكير بدرجات متفاوتة على المسيحيين، على اختلاف مذاهبهم، وعلى الدروز والإسماعيليين.


ففي ما يتعلق بـ"مظلومية الشيعة"، بيـَّـنت آلاف الدراسات والأبحاث العلمية التاريخية، أن "جهات" مغرضة اختلقت تلك "المظلومية" المزعومة بهدف إحداث شرخ في البـُنيانين "العربي" و"الإسلامي". ولقد أحرزت تلك "الجهات" نجاحا كبيرا في تحقيق ما هدفت إليه. حيث كشفت العقود الأخيرة أن ولاء الشيعة العرب منصرف بشكل كامل لشركائهم في المذهب. ولا يكاد يــُلاحظ أيُّ تقاطع في الأهداف والآمال بينهم، وبين إخوتهم في الأوطان التي يعيشون فيها. وعلى العكس من ذلك، نرى كيف أن الشيعة العرب منخرطين طواعية وبحماس شديد في تنفيذ أجنداتِ إيران، التي نصبت نفسها راعية للمذهب الشيعي.


وفي ما يتعلق بادعاء العلويين وغيرهم من الأقليات الدينية والمذهبية، بأن العثمانيين اضطهودهم وأفقروهم لأسباب دينية أو مذهبية بحتة، أود أن أورد مثالا، لا يستطيع أي شك أن يرقى إليه؛ مثال عايشتـُه شخصيا بكل مداركي ومشاعري وأحاسيسي، في مسقط رأسي ـ قرية قمحانة. تلك القرية التي تبعد عن مركز مدينة حماة أقل من 10 كم. وسكانها كلهم سنة أقحاح.


ولكن، على الرغم من قرب هذه القرية الشديد من المدينة، وعلى الرغم من طبيعتها السهلية، وعلى الرغم من أن سكانها كلهم من السنة، إلا أنهم لم يكونوا، في ظل الاحتلال العثماني، أفضل حالا من أي علوي، يسكن في أعالي أعالي الجبال، أومن حال أي درزي أو إسماعيلي أو مسيحي.
لقد حكى لي مـَن عاصرتهم من "الأجداد" آلاف الحكايا والقصص عن فقر لا يوصف، وجهل مطبق، وعن غطرسة "الجاندرما" واستهتارهم بالقرويين وازدرائهم لهم.


لقد كان الدرك يأخذون من الفلاحين الجزء الأكبر من مواسمهم، ويُـرغمون القروي على تقديم الشعير لخيولهم، في الوقت الذي لم يكن فيه قادرا على إشباع أبنائه من خبز الشعير.


لماذا لم أسمع يوما من أي قمحاني أنه كان مستهدفا "شخصيا" من العثمانيين؟


ـ لأنه لا يحمل في طيات نفسه عقدة المظلومية.


لقد كان الأمر بالنسبة لسكان قمحانة، وللملايين من أمثالهم، قضية احتلال دولة أجنبية لبلادهم، وحسب، لا قضية تفرقة على أسس مذهبية. لقد كانوا يدركون بعفوية أن كل احتلال وانتهاك لسيادة البلد، يترتب عليهما استغلالٌ لسكان البلد المحتل، وإفقارُهم وازدراؤهم. ولهذا فإن الخلاص من البؤس الذي كانوا فيه، يتمثل في التحرر.


وهنا تحضرني نكتة روسية تتحدث عن مسابقة أعلن عنها التلفزيون لانتقاء مذيعين، تقدم إليها من بين تقدموا، شاب يهودي اسمه أبرام، مصاب بعيب شديد في النطق. دخل أبرام إلى فحص المقابلة. وعندما خرج هرع إليه أقرانه يسألونه ـ كيف؟ فأجاب: طأطأ طبعا رف ررررففففضوني، لئ لئ لئ لأنننني يهودي.


لقد كان أبرام على قناة بأن العيب ليس فيه، بل بالتمييز العنصري..


وخلاصة القول إن توريث عقدة المظلومية، وتشريب الأجيال الناشئة مشاعر العداوة إلى الأقربين، كانا ولا يزالان عائقا وحائلا أمام اندماج أبناء "الأقليات" اندماجا حقيقيا في محيطهم الطبيعي.


وإذا كان لكل مكون من مكونات المجتمع مرجعية خاصة به، وأهداف تختلف عن أهداف بقية المكونات، فمن الطبيعي أن تكون قوى ذلك المجتمع مشتتة، وجهود أبنائه غير مثمرة، وبالتالي لن يكون قادرا على مواكبة مسيرة العصر.


وانطلاقا من هذا الفهم، أعتقد أن من واجب الجميع؛ أكثرية وأقليات، أن يتعاونوا على تحرير الأجيال القادمة من كل ما من شأنه أن يؤثر سلبا في بناء الشخصية السوية. ومن أبرز وأخطر المؤثرات السلبية: الباطنية، والتقية، وعقدة "المظلومية"، وعقدة الفوقية، وازدراء مشاعر الآخرين، واحتقار معتقداتهم وتكفيرهم.


إن سورية الغد، سورية الجديدة، بحاجة ماسة لجهود كل أبنائها. ولكي تكون الجهود موجهة في اتجاه واحد، ومسخرة لرفعة الوطن وتقدمه وازدهاره، يجب أن تكون النوايا صافية.


وتنقية النوايا وتصفية النفوس لا تـُـدركان بالتمني. بل تتطلبان عملا دؤوبا مخلصا من كل فئات المجتمع.

وأرى أن على عاتق رجال الدين، وعلماء الاجتماع، وعلماء التربية والتعليم، يقع العبء الأكبر في إعادة البناء النفسي للأجيال القادمة