في أيلول من العام 2011، وبعد مخاض طويل من المشاورات والمؤتمرات؛ شكّلت الثورة السورية ذراعها السياسي؛ "المجلس الوطني السوري". محضت التنسيقيات في الداخل ثقتها لـ "المجلس الوطني" وسمّت جمعة باسمه، وانتظرت وفاء العالم بوعوده، بعدما أتعب مسامعها بالكلام عن غياب مرجعية سياسية للثورة.
بعد نحو سنة على تشكيل المجلس لم يظهر أي دعم جدي للثورة السورية؛ لا ممرات آمنة، ولا حظر طيران، ولا سلاح كاسر للتوازن، فيما نزيف الدماء المرعب مستمر… وحدها المناطق المحررة ظهرت، لكن بتضحيات الثوار لا بدعم شرقي أو غربي، وبدلاً من أن يخجل "أصدقاء الشعب السوري" من غضهم الطرف عن الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، وعن خذلانهم لواحدة من أكثر الثورات تضحية في التاريخ الحديث، وعن تراجعهم عن وعودهم، رغم كثرة الجعجعة والتأييد… إذا بهم يتحدثون عن ضرورة قيام ائتلاف جديد يعبّر عن المعارضة السورية كلها، "حتى تكون المكونات العرقية والطائفية الصغيرة كلها ممثلة"، وكي "لا يكون طرف بعينه مسيطراً" (المقصود "الأخوان المسلمون" والنفوذ التركي).
استغرق لوْكُ هذا الكلام أشهراً إضافية؛ تشكّل بعدها "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" برعاية قطرية-دولية، في تشرين ثاني 2012، على أساس أن يكون "المجلس الوطني" مكوِّناً أولاً (40%) وأن يكن لباقي مكونات المعارضة (60%)، وعليه؛ انتُخب الداعية معاذ الخطيب، رئيساً للائتلاف، وكل من رياض سيف وسهير الأتاسي نائبين له، ومصطفى صباغ أميناً عاماً، وأضيف لاحقاً جورج صبرا نائباً ثالثاً للرئيس.
خلال مراحل تشكيل الائتلاف كانت الوعود الدولية بدعم الثورة السورية؛ بأبسط حقوقها وهو السلاح؛ تغرق المؤتمرين في الدوحة، حتى ظنوا أن طائرةً لآخر حكام البعث لن تجرأ على الطيران بعد اليوم، لكن سرعان ما اكتشفوا خذلاناً جديداً!.
لم يقتصر خذلان العالم على الصعيد الميداني- العسكري (فضلاً عن نقص السلاح هناك إشكالية في تأمين قدر قليل من الرواتب لضباط وعناصر "الجيش الحر")، وإنما طُرح خلال جلسات التحضير لإطلاق الائتلاف أن يكون هذا الإطار التمثيلي الواسع منطلقاً لحكومة انتقالية، لا يشارك فيها رئيس الائتلاف ونوابه وأعضاؤه، وقد خلصت المشاورات إلى أن حكومة من هذا النوع لا أهمية لها إن لم تحظ باعتراف العالم، بما في ذلك تسلم سفارات سوريا الموجودة في الخارج كلها؛ أقله في الدول التي تعتبر نفسها صديقة للشعب السوري.
بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على تشكيل الائتلاف الوطني؛ يبدو مسار تشكيل حكومة (ارتأى أعضاء الائتلاف أن تكون مؤقتة وليس انتقالية) أصعب مما تصوروا، رغم موافقتهم على اسم رياض حجاب (الذي يحظى بتأييد أكثر الدول المؤثرة حالياً) ليكون رئيساً للحكومة، على اعتبار أن إزالة الاعتراضات من وجه الوزير المنشق رياض حجاب ليست هي الأهم؛ وإنما وجود اعتراف دولي واضح المعالم، إضافة إلى دعم مالي للحكومة لتكون قادرة على إدارة شؤون السوريين في الداخل والخارج؛ لا سيما في الشق الإغاثي، وأوضاع النازحين واللاجئين والمنشقين، والتنسيق مع الكتائب الثائرة على الأرض، علماً أن هذه الأمور أثيرت مع ممثلي الدول التي دعمت الائتلاف الوطني، وكان جواب الجميع: "سندعمكم بالتأكيد بعد تشكيل الائتلاف"!
لماذا هذا السرد على أعتاب تشكيل حكومة مؤقتة ومتعثرة حتى الآن؟
يدلل السرد السابق على حقيقة بات المتابعون جميعهم يعرفونها؛ لا دعماً دولياً فعلياً للثورة السورية، رغم عظيم تضحياتها.
الأسباب متعددة؛ في بداية الأمر كان ثمة شك دولي بانتصار الثورة. لا أحد يعتقد اليوم أن بشار الأسد سيبقى رئيساً لسوريا، بما في ذلك داعموه، ولكن بالمقابل لا أحد مستعد للولوج جدياً في دعم الثورة وتسريع عجلة انتصارها، على غرار ما حدث في ليبيا مثلاً، عندما تشكلت قناعة أروبية-أميركية بضرورة إنهاء حكم القذافي (قبل مطالبة المعارضة بتشكيل ذراعها السياسي ودون مطالبتها التوحد على غرار ما يجري في سوريا) فأُعلن الحظر الجوي سريعاً، ثم توسع مفهومه ليصبح قصفاً لجحافل القذافي.
في سوريا الأمر مختلف، فالمصالح النفطية غير موجودة، والموقع الجيوسياسي لسوريا معقد، والديموغرافيا السياسية فيها صعبة؛ ثمة مكون كردي تخشى دول عديدة من طموحاته، وهناك مخطط أكيد (مدعوم إيرانياً) لقيام دولة علوية على الساحل كملاذ أخير (طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية)،وهو أمر تخشى منه دول أخرى على رأسها تركيا، وأهم مما سبق كله؛ أمن "إسرائيل"، إذ ثمة قناعة دولية بضرورة وجود جهة موثوقة وقادرة على حماية أمن "إسرائيل"، في سوريا ما بعد بشار، وهو أمر لم تتحقق القناعة الغربية به بعد، وتالياً فإن أياً من دول العالم الفاعلة غير مستعدة لتقديم مساعدة جدية (كاسرة للتوازن الحالي ومسرّعة لمسار الثورة)، ما لم تتأكد أن دعمها سيعود عليها بالنفع… وحتى تتولد هذه القناعة، فإن أكثر الدول المؤثرة تفضل مراقبة مسار الأمور وتقديم قليلٍ من دعم وكثيرٍ من كلام.
في محاولته لطمأنة العالم وكسر هذا البرود في التعامل مع الثورة؛ قدّم "الائتلاف الوطني" مؤخراً رؤية للمرحلة الانتقالية ترتكز على انتقال منظّم للسلطة؛ تستمر مؤسسات الدولة فيه بالعمل وتسيير الأعمال، و"ينسحب الجيش مباشرة إلى قواعده، ويتم نزع السلاح من المدنيين ويتم توجيه التركيز الوطني نحو الوحدة الوطنية وإعادة البناء".
ومع ذلك؛ فلا تغييراً جوهرياً يذكر، سوى ما يقوم به الثوار على الأرض –وهو تكتيكي بمعظمه ومنذ أشهر-، فيما القضية السورية صارت واحدة من أهم الملفات الدولية؛ حيث تكثر المساومات والصفقات… التي آخر ما يهمها الدم السوري.
ما سبق يعني أننا أمام أزمة ستطول أكثر من المتوقع، وستكون الخسائر فيها أكثر من التوقعات الأولية، وأن مرحلة ما بعد بشار ستكون قاسية أيضاً، وربما لن تقل دموية عن فترة وجوده، مع احتمال قيام عمليات انتقام واسعة ضد "أعداء الثورة"، فضلاً عن تعاظم دور جماعات الغلو الديني (من المفارقات أن العالم يتذرع بوجودها لعدم دعم الثورة، في حين أن تأخره عن دعم الثورة هو السبب الأول في زيادة شوكتها).
ثمة أمور قليلة جداً يمكن أن تسرع بانتصار الثورة؛ حدوث انقلاب واسع لدى العلويين ضد الأسد وهذا غير متوقع في ظل ميزان القوى الحالي وسطوة النظام على المعارضين منهم، أو تفاهم دولي بين الولايات المتحدة وروسيا تقبل به المعارضة وينتهي بموجبه حكم الأسد فوراً (بسلاح كاسر للتوازن أو بتدخل عسكري دولي)، أو بحماقة كبرى يرتكبها النظام السوري تدفع أحد الأطراف المؤثرين إلى أخذ قرار حاسم بالتدخل العسكري (استخدام أسلحة كيماوية على نطاق واسع أو انتقال بعضها إلى جماعات مسلحة كـ "حزب الله"، أو استفزاز تركيا من خلال الأكراد… وذلك على سبيل المثال لا الحصر)، وفيما عدا ذلك – أو غيره مما لا يعلمه إلا الله وحده- ستبقى الأمور رهن المراوحة المميتة، وسيبقى الشعب السوري في مخاض ولادته العسيرة… دماً ودماراً وثورة تغيير شاملة!