في إحدى مقابلاته التلفزيونية، مؤخراً، قال الجنرال ميشال عون: "ليكن الأرثوذكسي مجلساً تأسيسياً لدولة مدنية"، داعياً إلى الجلوس حول طاولة حوارية بعد أن "يأتي مجلس مذهبي يكون ممثلا فعليّاً للطوائف". وفي تقاطع غير مستغرب، جَدّد السيد حسن نصرالله، في إطلالته الأخيرة، الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي و"تشكيل هيئة سياسية تنبثق من المجلس النيابي الجديد".
فالهدف المعلن تحويل الانتخابات إلى محطة لإعادة النظر بالدستور تحت عنوان تصحيح الخلل الذي أصاب المسيحيين أو الذهاب نحو دولة مدنية، علماً أنّ الدولة في لبنان مدنية، واتفاق الطائف يتضمّن المواد التي تساهم في الفصل بين البُعدين الطائفي والمدني، وبالتالي لا حاجة لـ"الأرثوذكسي" ولا لمؤتمر تأسيسي من أجل بلوغ هذه الغاية التي يكفي تطبيق ما هو مَنصوص في الدستور لبلوغها.
التصدّي لهذه المحاولة لن يكون سهلاً، لأنّ ما ينطبق على "الأرثوذكسي" سينسحب على "التأسيسي". بمعنى أنّ المزايدة العونية بضرورة تثبيت ما تحقّق انتخابياً خشية عدم اعتماده كعُرف في حال تبَدّل الظروف السياسية لن يفسح في المجال كثيراً أمام رفض هذه الدعوة. فالجنرال عون سيذهب مع "حزب الله" إلى النهاية في الخطاب الطائفي، وسيعمد إلى نَقل عنوان المعركة من تصحيح التمثيل قبل الانتخابات إلى تصحيح المشاركة بعد هذه الانتخابات، إذ إنّ الحزب لن يتخلى عن العنوان الذي ساهم في تَرييحِه.
فالنقاش هنا ليس على أحقية التمثيل المسيحي والشراكة على مستوى السلطة، فهذا الأمر ضروري وحتمي وأساسي، إنما المسألة لها علاقة بالتوقيت والمقاربة والمنطلقات، خصوصاً أنه في اللحظة التي يطغى فيها الطائفي على الوطني تتبدّل الأولويات والأجندات. وتَبَدُّل الأولويات لا يعني التخَلي عن مواجهة السلاح، إنما منطق الأمور أو التجارب يَدلّان الى أنّ قضية حقوق الطوائف تشدّ عصباً لدى السواد الأعظم من الشعوب أكثر من الحقوق الوطنية، فضلاً عن صعوبة خوض مواجهة متكافئة بعنوانين أساسيين.
إن تجربة "حزب الله" بين عامي 2006 واليوم كانت مكلفة كثيراً بالنسبة إليه، واستمرار المواجهة على العنوان نفسه ستكون كلفتها أكبر عليه. وعلى رغم تجنّبه تحوّل الصراع طائفياُ للحؤول دون الاصطدام المباشر بالأكثرية السنية، إلّا أن أحداث 7 أيار والثورات العربية كشفت حقيقته المذهبية وارتباطه العضوي بالمشروع الإيراني. وبالتالي، لم يعد من شيء يمكن أن يخسره على هذا المستوى، فيما تركيز الصراع على السلاح لا بدّ أن يقود مع الوقت إلى عَزله.
ومن هنا وجد في السجال الطائفي خشبة الخلاص التي يجب، وفق حساباته، أن تقوده إلى تحقيق هدفه بانعقاد المؤتمر التأسيسي. هذا المؤتمر الذي كان صعب المنال قبل المناخ الذي وَلّده "الأرثوذكسي" وكسر عبره "الفيتو" المسيحي برفض تعديل الدستور. هذا الفيتو الذي لن يصمد أمام المزايدة المسيحية العونية، والتتِمّة المعروفة التي تبدأ باجتماعات تحظى برعاية دينية وتنتهي حول طاولة المؤتمر التأسيسي.
ويخطئ من يعتقد أنّ الحزب يتطلع إلى استبدال المناصفة بالمثالثة، لأن كل هَمّه يكمن في الاحتفاظ بترسانته، هذه الترسانة التي تتطلّب عاملين: تفكّك الدولة وصعود الغرائز الطائفية. وكيف بالحري في ظلّ تضخيم مخاطر الأصولية الوافدة من سوريا، والتي تجعل التمَسّك بسلاحه مسألة بديهية للدفاع عن نفسه وعن الأقليات الأخرى ؟!
فالسيّد نصرالله لم يطرح فكرة المؤتمر التأسيسي عن عبث، ولم يكرر الدعوة في هذا التوقيت بالذات عن عبث أيضاً، ولم يطلب من العماد عون إطلاقها عن عبث أيضا وأيضا، فهو بالنتيجة يدرك جيدا أن الأزمة السورية أفضَت إلى نتيجة أساسية، وهي استحالة هَيمنته على لبنان. وبالتالي، يخشى أن تؤدي التطورات إلى نقل المجتمع الدولي اهتمامه إلى سلاحه، مع إدراكه المُسبق استحالة نزع هذا السلاح بالقوة. ولكنه يبحث عن اللحظة المؤاتية، أي التي تناسبه، لعقد المؤتمر الموعود بغية انتزاع الأهداف المرجوّة منه، قبل أن تفضي التطورات نفسها إلى دعوة الجميع إلى هذه الطاولة بتوقيت وأجندة لا تناسبه، وفي طليعة هذه الأهداف إيجاد الصيغة التي تُبقي سلاحه بإمرته.
ولم يكتف السيّد بهذه الدعوة، بل أرفقها بكلام تمّ تسريبه عن عَمد، أكّد فيه لكوادره أن أولوية "حزب الله" تغيّرت بين مرحلة البدايات واليوم، وأن "هذا الوطن هو وطننا، وهذا العلَم الذي فيه الأرزة هو علمنا الذي علينا أن نحافظ عليه أيضاً. وفي هذه المرحلة، أولويتنا هي المحافظة على الدولة في لبنان وبناؤها، لأنّ ما هو موجود أفضل من غياب الدولة بالكامل. وعلينا التأسيس على ما هو موجود لبناء دولة قوية".
وإذا ما أضيف لهذا الكلام تأييده لـ"الأرثوذكسي" وتفَهّمه "لهواجس المسيحيين بسبب ما يجري في المنطقة"، يعني أن السيّد يسعى إلى مواصلة سياسة تَرييح المسيحيين شكلاً لتشجيعهم على المضي قُدماً، بعد الانتخابات، في المطالبة بتعديلات دستورية ووضعهم في مواجهة الطائفة السنية.
وفي موازاة الصورة المحلية التي يحاول الظهور بها، شجعت طهران الأسد على رفض أيّ حلول سلمية، فيما استفادت من التخاذُل الدولي في دعم الثورة السورية، بُغية تشجيع الحالات الأصولية وجعل "حزب الله" مقبولاً نوعاً ما دولياً، مقارنة مع "جبهة النصرة" على سبيل المثال.
وما يستحقّ التوقّف عنده أيضاً استبعاد رئيس لجنة الاتحاد الأوروبي لمكافحة الارهاب، جيل دي كيرشوف، إلحاق "حزب الله" بالقائمة السوداء للاتحاد للمنظمات الإرهابية "حتى لَو ثَبت تورّطه في الهجوم على السيّاح اليهود في بلغاريا العام الماضي". وتساءل كيرشوف: "بالنّظر إلى الوضع في لبنان، وهو هَشّ للغاية والبلد مُجزّأ، هل إدراج "حزب الله" سيساعد على تحقيق ما نريد؟".
القاعدة واضحة: كلّ خطوة يحققها الحزب تأتي على حساب سيادة لبنان، والأخطر أنه بدأ يكسب فيما 14 آذار تخسر