ميلاد أول شيوعي في ربيع فلسطين – جان عزيز – الأخبار


يفترض أن يكون هذا اليوم «فرصة». وهو ما يفرض أن يجعله فرصة ــــ بمعنى العطلة ــــ من يوميات السياسة وتطوراتها والآنيات. وأن يكون فرصة ــــ بالمعنى الآخر للكلمة، أو المناسبة السانحة ــــ لتأمل في أساس أكثر عمقاً، وللتفكير في علّة السياسة وجوهرها.





تظلمنا اللغة العربية بعض الشيء في هذا المجال. فهي على سبيل المثال تشتق كلمة السياسة من فعل «ساس» أو قاد، معطية بذلك لهذا المجال النبيل معنى أن يكون هناك قائد سائس، ومنقادون مساسون. فيما اللغات الأخرى في معظمها تشتق مفردة «سياستها» من كلمة «مدينة» اللاتينية. فتصير السياسة فيها شأناً لكل إنسان، لكل فرد بلغ طور المدينة والمدنية والتمدن. هكذا في العربية «السياسة» قطع بين زعيم وجمهور، فيما هي في الأصل وصل بين كل إنسان وإنسان.


مفردة أخرى في السياق نفسه تظلمها لغتنا العربية. إنها «الجمهورية». ففي خطابنا المكوِّن لوجداننا، يصير هذا الإطار المنظم لحياتنا، ولسياستنا، شيئاً من نوع الشعبوية، من صنف الديماغوجيا، من باب الجماهير التي تبايع «السائس»، فتكتمل «السياسة» في لغتنا مع «الجمهورية» فيها. بينما في اللغات الأخرى، تُشتق مفردة «الجمهورية» نفسها من كلمتين لاتينيتين أيضاً، معناهما «الخير العام»، لتصير جمهورية السياسة فعلاً إنسانياً جماعياً، محدداً بكيفية توفير الخير لناس المدينة، لا تعليمة بروباغاندية لطريقة سوس جمهور.


لم يكن ينقصنا غير هذا التباين اللغوي ليكتمل هذا الفصل عندنا بين الشأن العام وأهله من جهة، وبين البعد القيمي للسياسة، أو بين السياسة والأخلاق في مجتمعاتنا. كأن الاثنين مجالان من عالمين متناقضين. وإلا فكيف لمجتمع سياسي مثل هذا اللبنان، أن يكون قادراً على أمرين معاً: أن يتمتع بهذه القدرة العجائبية على «غسل» أي شخص أو أي شيء، وأن يمتلك تلك القوة الفائقة على إحراق أي شيء أو أي شخص. «غسالة» هائلة بلدنا، ومحرقة بالهول نفسه كذلك. بلد قادر في الوقت والمكان نفسيهما، على «غسل» أي مجرم، كما على «إحراق» أي «رب». هذا بعض من معجزتنا اللبنانية، نراه كل يوم في «السياسة» عندنا، وفي «الجمهورية» التي عندنا…


بعض مسؤولية هذا الواقع يقع أدبياً وأخلاقياً على بعض التعليم الديني في بلادنا؛ لأنه منذ قيام هذه البلاد، وحتى أبد يبدو مديداً، كان ولا يزال التربية المدنية والإنسانية والوطنية والأخلاقية الوحيدة المتاحة في مؤسساتنا الطبيعية كما الاجتماعية. من العائلة إلى المدرسة إلى مفاصل حياة الفرد عندنا. وحده الدين يرافقه، ويحتكر تعليمه مفاهيم الأخلاق والوطن والإنسانية.


وفي ذلك التعليم كان ولا يزال تقصير وقصور وعجز وبدائية كبرى. هذا هو يسوع مثلاً، والفرصة ــــ العطلة ــــ المناسبة اليوم عيد ميلاده. لا يُعطى لنا في التعليم الكنسي إلا بصورة الله المتسامي. ذلك القاعد في عالم لا نبلغه، في صورة لا نلمسها. التجسد الخارق للطبيعة، والفداء الخارق أكثر. وبين الاثنين روحانية أثيرية لا تلامسنا إلا في شيء من توق الهروب من أرضنا، «الخلاص» منها، الانعتاق صوب سماء، من وجع الأرض وقهرها وجوعها ومرضها وظلمها وموتها. تصير كل أوهامنا وآلامنا مواضيع جاهزة للظواهر الإلهية الخارقة، ننتظر المعجزات من فوق، نصلي ونركن ونستكين. إنه يسوع الإسكاتولوجيا ــــ بالمعنى اللاهوتي ــــ لا غير.


من منا، أو من تعليمنا الديني أو من كنيستنا، أضاء على الشق الآخر من يسوع؟ يسوع الإنسان، يسوع الأرض، يسوع التاريخ. ذاك الذي قال للرب في لحظة الوداع: لا أطلب منك أن ترفعهم من هذه الأرض، بل أن تحفظهم من الشر. مكاننا هنا إذن. التزامنا هنا أيضاً. سماؤنا في الأرض هي. لماذا نغيِّب يسوع الذي لم يُعط خده الأيسر حين لُطم على الأيمن. بل صرخ في وجه «عسكري» بيلاطس: إن كنت قد قلت سوءاً فاشهد علي بسوء، أو قلت حقاً فلماذا تضربني؟ يسوع الذي احتضن السامرية لأنها مختلفة، وجدل سوطاً وثار وضرب وقلب، ولم يحب إلا الفقراء. يسوع الذي ولد في أرض محتلة. انقسم أهلها بين من فكر بمقاومة المحتل بالعنف، مثل سمعان الغيور، أو بين من فكر بمداهنتهم بالعمالة، مثل سلالة قيافا وحنانيا وجماعة «الهيكل». وحده وقف في وجه الثلاثة معاً: قاوم قيصر، وأقنع سمعان بترك السيف، وحكم على قيافا بأن العمالة لا «تُغسل» أبداً.


يسوع أول ثائر شيوعي في ربيع فلسطين. حتى مفردة الشيوعية، طالما بدأنا باللغة والمفردات، أُخذت منه. «كومونيسم» القرن التاسع عشر، هو اشتقاق من لقاء يسوع مع «رفاقه» الأوائل، والذي سماه لاهوته «كومونيو»، حتى ما زلنا حتى اليوم نسمي لقاء الأحد معه، في الأفخارستيا أو مناولة القداس: «كومونيون»، تدليلاً على ثورة دائمة، انتصرت بالحق والحرية، على تحالف السيف والدنانير والعمالة والاحتلال… ميلاد مجيد.