في موقفه الأسبوعي؛ أظهر العماد ميشال عون حرصاً عالياً على السيادة الوطنية، و"تحفظاً على التدخل في شؤوننا الخاصة". هذا الموقف بناه "الجنرال" على خبر قرأه في إحدى الصحف -على ما صرّح هو- ومفاده أن "جولة يقوم بها سفير لإحدى الدول الخليجية على المتن وزحلة، ونرى نتائجها في رحلات إلى دولته".
ومع أن خبراً كهذا لا يبدو خارجاً عن المألوف في بلد كلبنان، إلا أن جولة هذا السفير استفزت "الجنرال"، فـ "غار" على "السيادة الوطنية"، ربطاً بالاستحقاق الانتخابي-كما بلغه من صحيفة "السفير"- وهو أمر يبقى التحقق منه محل نظر، في حين أن "الجنرال" نفسه لم يبد أية غيرة على السيادة ولا على التدخل السافر بالشأن اللبناني الداخلي، إزاء أمور شديدة الوضوح، ولا تحتاج لتحقق، والأنكى أن عون اتخذ موقفاً معاكساً لواجبه الوطني عند سؤاله عنها.
إيران و"شؤوننا الداخلية"
يبدو صعباً ذكر المواقف الخطيرة التي "تتدخل في شؤوننا الداخلية"، لكن ذكر أهمها يعطي صورة واضحة عن المعيار الذي يتحكم بسياسة زعيم "التيار الوطني"، وهو المصلحة السياسية، ولو على حساب المبادئ والسيادة وصدقية المواقف السابقة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فقد صدرت مواقف غاية في الخطورة كانت تستدعي موقفاً واضحاً من كل حريص على بلده، ولم يبد العماد عون أي غضب إزاءها، من قبيل الموقف الخطير الذي أعلنه مستشار القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية اللواء يحيى صفوي: "إن لبنان وسوريا يشكلان عمق الدفاع الإستراتيجي لإيران، وإن حزب الله سيرد إذا ما هاجمت إسرائيل الجمهورية الإسلامية" (8/9/2012)، وتصريح صفوي نفسه بعد أيام أن "حزب الله سيدافع عنا بسهولة عند أي هجوم إسرائيلي" (14/9/2012)، أو تصريح القائد الأعلى للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري أن "عناصر من قوة القدس التابعة للحرس الثوري موجودون في سوريا ولبنان… ونحن نقدم نصائح وآراء ونفيدهم من تجربتنا"! (16/9/2012).
إشارة إلى أن هذه الموجة من التصريحات جاءت على خلفية تصاعد التوتر بين إيران والغرب، مقحمة لبنان كله في أتون صراع لا علاقة له به، وقد استدعت –على نحو نادر في العلاقة بين البلدين- من رئيس الجمهورية اللبنانية أن يطلب من السلطات الإيرانية "توضيحاً رسمياً" حولها (17/9/2012)، نظراً لخطورة هذه المواقف على أمن البلد، ولو أن ما ذُكر عن وجود عناصر للحرس الثوري في لبنان ليس بالأمر الجديد، لكن الإقرار بذلك علناً وتهديد العدو الإسرائيلي بوجود هذه العناصر من شأنه إعطاء "إسرائيل" أفضلية دبلوماسية وسياسية وقانونية في أية مواجهة لاحقة، فضلاً عن أن هذه التصريحات غريبة عن علاقات الدول ذات السيادة. (سبق للرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن اعتبر بعد حرب تموز 2006 أن "إيران انتصرت على إسرائيل في لبنان"، كما سبق لممثل الإمام الخامنئي في آب من العام 2010 علي سعيدي أن اعتبر أن "إيران خط المواجهة الأمامي لإيران ضد أعدائها").
بماذا أجاب عون عندما سُئل عن هذه التصريحات الواضحة بالذات؟ قال: "سمعنا كلاماً عن وجود للحرس الثوري الإيراني في لبنان. وكالعادة، هم من وقت إلى آخر، يطلقون خبرية يلهون بها الرأي العام"!، وأضاف باستخفاف: "هذا نوع من التضليل الإعلامي لإلهاء الناس وتشتيت انتباههم وجعلهم يركزون على موضوع معين ليس من اهتماماتنا اليومية… فليظهروا أحداً منهم (الحرس الثوري) على التلفزيون… (ثم) من هو جعفري أنا لا أعرفه، هناك تصاريح سياسية… ويحق للناس التصريح كما تريد" (18/9/2012).
وإذا كان عون سكت عن إرسال "حزب الله" لطائرة تجسس فوق أرض العدو الإسرائيلي، على اعتبار أنه مع "خط المقاومة"، فقد كان حرياً به أن يستنفر للدفاع عن السيادة ورفضاً للتدخل في شؤوننا الداخلية عندما أعلن وزير الدفاع الإيراني أحمدي وحيدي (وليس أي مسؤول آخر) أن هذه الطائرة "تظهر مستوى القدرات العسكرية لطهران، وأن هذه الخطوة تظهر أن حزب الله مستعد تماماً للرد على النظام الصهيوني" (15/11/2012).
… والنظام السوري
في السياق عينه؛ لم يستفز "الجنرال" انتهاكات النظام السوري للسيادة اللبنانية، ولم ير بأساً في إطلاق النار من الجانب السوري على لبنانيين، براً وبحراً، وقتل وجرح العشرات حتى الآن، ولا خطف لبنانيين، ولا قصف الأراضي اللبنانية، ولا التوغل البري فيها، ولا مقتل مصور "الجديد"، ولا حرق منزل رئيس بلدية عرسال، ولا تحليق الطيران الحربي السوري في أجواء وادي خالد، ولا الاعتداء على الأمن العام اللبناني وخطف عناصره… بل كان لافتاً جداً أن العماد عون لم يصدر أدنى موقف من سابقة خطيرة بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، وهي رد السفير علي عبد الكريم علي على رئيس الجمهورية، خلافاً للأصول الدبلوماسية، عندما دعاه – رداً على مطالبة الأخير الجانب السوري بوقف انتهاكات السيادة الوطنية- بـ "عدم الاستجابة للضغوط الدولية والتصويب على سوريا"! (23/8/2012).
وفي معرض الحديث عن "نشاط" السفراء وتدخلهم في الشؤون اللبنانية، فإن سجل السفير السوري في ذلك كبير جداً، سواء في مقاربته ملف سماحة-المملوك، أو في إعطائه الأوامر "لقيام الجيش بدوره في صون الحدود وملاحقة العابثين بالشأن اللبناني"، أو في انحيازه –حضوراً وخطابةً وتصريحاً- إلى فريق سياسي بعينه، أو في النشاط "غير الدبلوماسي" الذي يقوم به، والذي أثبته القضاء، لا سيما في ملف الأخوة جاسم، لكن الأهم من ذلك كله أن الجنرال الرافض لـ "تدخل السفراء في شؤوننا الداخلية" سبق أن استقبل هذا السفير نفسه، ليعلن الأخير من منبر الرابية بالذات؛ مواقف تدخل في إطار الشأن الداخلي اللبناني، ومواقف أخرى تهاجم دولة عربية شقيقة (قطر)، وصولاً إلى إعلانه أن "سوريا بريئة من كل أمر يستهدف لبنان" (25/9/2012).
لا يبدو غريباً أبداً على من يرى أن "سورية تتقدم باتجاه الديمقراطية فعلياً بعكس الدول العربية التي أسقطت حكوماتها"(12/10/2012)، ولا على من يعتبر "اللواء الحسن مسؤولاً عن قتل نفسه" (7/11/1012)، ولا على من يرى أن قانون الستين -الذي طالب به هو- مخالفاً للدستور وظالماً للمسيحيين (27/11/2012)… ليس غريباً عليه أن يرى القذى (أتربة أو غبار) في العين ولا يبصر الجِذل (أصل الشجرة) في العين الأخرى!.