إنّ تسليط الضوء على ذكرى انتخاب الرئيس بشير الجميل بعد ثلاثة عقود بالتمام والكمال على هذا الحدث التاريخي عوضاً عن ذكرى اغتياله، يعكس رغبة وإرادة لدى شريحة واسعة من البيئة المسيحية بخلع رداء الإحباط "والبكاء على الأطلال" وإحياء محطات يلفّها الحزن واليأس، والاستعاضة عنها بمحطة حفلت بانتصار استثنائي لخيار سياسي تمثّل بانتخاب رمز هذا الخط رئيساً للجمهورية في 23 آب 1982.
الانتصار الذي حققته المقاومة اللبنانية ليس انتصاراً لفريق من اللبنانيين على فريق الآخر، بل هو تتويج لخيار "لبنان أولا" في مواجهة التدخلات الخارجية التي أرادت تحويل هذا البلد إلى مسرح لتدخلاتها ونفوذها وهيمنتها. فهذه المقاومة لم تنشأ إلّا بفعل انهيار الدولة وتفككها، وهي رأت في وصول رمزها إلى سدة الرئاسة الأولى نهاية لمهمتها التي على الدولة وحدها مواصلتها بأن تتكفّل في وظيفة احتكار القوة المسلحة على كامل أراضيها. وما حالت دونه ظروف اغتيال بشير، عادت واكتملت فصول حلقاته مع اتفاق الطائف عبر الانخراط في مشروع الدولة، في مؤشر ثابت يدلّ على أن هذه المقاومة لبنانية صافية وأجندتها محلية صرفة، وكل ما نسجته من علاقات كان بُغية توظيفه لمصلحة خيار الدولة أولاً وأخيراً.
ويأتي الاحتفال هذا العام مع عودة رئاسة الجمهورية إلى ممارسة دورها السيادي الذي غابت عنه مع اغتيال الرئيس رينيه معوض وإطباق النظام السوري وصايته على لبنان، هذه الرئاسة التي شكلت تاريخياً رأس الحربة في الدفاع عن استقلال لبنان وديموقراطيته ودوره على مستوى العالم العربي. فالرئاسة الأولى، وبخلاف ما يظنّ البعض، لا تكمن أهميتها في ما تمتلكه من صلاحيات تتعطل في الأزمات، إنما في ما تطلقه من مواقف تعبّر عن توجّه الدولة أو رأسها، هذه المواقف التي ترجح كفة داخلية على أخرى، خصوصاً أن المجتمع الدولي يأخذ في الاعتبار ما يصدر عن المراجع الرسمية أكثر ممّا يصدر عن المعارضة، كما أن وضع اليد السورية على الرئاسات الثلاث ومؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء لم يكن بطبيعة الحال بالصدفة بَل "لتشريع" الوجود السوري مؤسساتياً.
ولكن أهمية التركيز على انتخاب بشير الجميل تكمن في التوقيت السياسي الذي جاء بعد محطتين مؤسستين لاستقلال لبنان: ثورة الأرز والثورة السورية، إذ إن إحياء هذه الذكرى قبل انتفاضة الاستقلال كان يعتبر، وعن حق، حدثاً مسيحياً بامتياز، وذلك بمعزل عن كل ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المجال، بينما تحوّل إحياؤها بعد 14 آذار 2005 إلى محطة وطنية بامتياز، لأنّ هذه الانتفاضة أعادت توحيد المسيحيين والمسلمين ومكّنتهما من استخلاص عِبَر التاريخ وأهمية وحدتهما كضمان رئيس لسيادة لبنان واستقلاله.
فإحياء هذه الذكرى كان يمكن توصيفه بأنه فئوي لولا إجراء المسلمين قراءة نقدية لحقبة ما قبل العام 1990، شأنهم في ذلك شأن المسيحيين وحتى الفلسطينيين الذين قدموا اعتذاراً علنياً، وحيث أثبتت الأحداث أنهم كانوا ضحايا ووقودا لمشاريع أكبر منهم ومن اللبنانيين.
فانتفاضة الاستقلال بهذا المعنى حوّلت انتخاب بشير الجميل من حدث مسيحي إلى حدث وطني، لأنّ انتخابه شكل انتصارا على النظام السوري، هذا النظام الذي نجحت هذه الانتفاضة في جعل نظرة الجماعتين المسيحية والمسلمة حياله موحدة، وهي أنه أساس كل الأزمات اللبنانية، فضلاً عن نجاح الانتفاضة في مصالحة المسيحيين مع عروبتهم والمسلمين مع لبنانيتهم.
وما ينطبق على ثورة الأرز ينسحب على الثورة السورية، لأنّ الوقائع دَلّت الى أن الثورة الأولى لا يمكن أن تكتمل من دون نجاح الثورة الثانية، نظراً لارتباط سيادة لبنان بحرية الشعب السوري، كما ارتباط معاناة المسيحيين وكل ما أصابهم بالنظام السوري المنتهي الصلاحية.
ويبقى أن أهمية إعادة الاعتبار لمحطة 23 آب تكمن في توجيه رسالة إلى كل المسيحيين مفادها أنه عندما تحوّلوا إلى رأس حربة وذهبوا بخياراتهم حتى النهاية وتجاوزوا محليتهم السياسية بدخولهم على الأجندة الدولية والعربية تحت عنوان السلام، بمعزل عن خطأ هذا العنوان أو صوابه، إنما عندما توقّع أكبر دولة إسلامية السلام يحقّ للبنان تحييد نفسه تحت هذا العنوان، تمكّنوا من تحقيق الانتصارات الوطنية. وبالتالي، فإنّ تحوّلهم اليوم مجددا إلى رأس حربة في مواجهة المشروع الإيراني سيقودهم أيضا إلى تحقيق الانتصارات الوطنية، مع فارق أن هذه المواجهة تتمّ في إطار بيئة عربية وإسلامية حاضنة. ولكن تجدر الإشارة الى أن هذه المواجهات هدفها كان وما يزال النأي الفعلي بلبنان وإعادة مسار الدولة إلى السكة الصحيحة.
ومن المفيد في هذه اللحظة التاريخية إعادة التذكير بدور المسيحيين في فصل الورقة الفلسطينية عن لبنان، والتي لولاها لَما كان ولد اتفاق الطائف، ومن ثم في دورهم مع شركائهم المسلمين في إخراج الجيش السوري.
إن انتصار 23 آب توّج في 14 آذار، وستستكمل فصول هذا الانتصار مع عودة هيبة الدولة التي أعادها بشير لحظة انتخابه، هذه الهيبة التي تمّ ضربها للاستقواء على الدولة الذي ما زال مستمراً بواسطة "حزب الله" وسَعي النظام السوري إلى تصدير أزمته إلى لبنان، ولكن نهاية هذا المشروع باتت على قاب قوسين أو أدنى مع دخول هذا النظام مرحلته الأخيرة والسريعة