يلعب رئيس حكومتنا في السياسة كمن يلعب بتحويلاته المالية عبر الإنترنت. ينقل رصيداً من مصرف الى آخر عَرَضَ خدمات تفاضلية، ويحوّل للبورصات مبلغاً من المال لتغطية مخاطر تدني أسعار أسهم. يبيع في أقاصي العالم حقيبة استثمارات، ويشتري من الجار القريب قطناً ليحفظه في شكل أسهم الى أن يحين موعد السعر الأعلى فيرميه للبيع في الدول الصناعية.
تماماً هكذا يعمل ميقاتي في السياسة، يضع لافتة تقول «الوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي»، ثم يذهب الى واشنطن ليؤكد التزام لبنان بالقرارات الدولية بالجملة، وهو كان، قبل ذهابه، قد أكد مراراً وتكراراً حيادية لبنان وحفظه لمسافة مما يحصل في سوريا من ثورة. يخسر في طرابلس ما يعاود ربحه أضعافاً مضاعفة في دمشق، ثم يحصل من دار الفتوى على أصول يحتفظ بجزء منها، ويصرف الآخر في طرابلس نفسها التي سبق أن خسر فيها.
مع كل ذلك، يبدو أن لا نية حقيقية لدى رئيس حكومتنا لبناء حالة سياسية خاصة به، محكوماً، ربما، بمجموعة من الأفكار المسبقة، تبدأ من التوافق الدولي المفقود حالياً، وهي التي تمثل في رأي معظم الساسة اللبنانيين ضرورة لبناء حالة سياسية محلية متماسكة، وإن لم يكن التوافق هو الأساس، فحتماً يجب أن يكون الانحياز الى طرف إقليمي ودولي واضح المعالم، وهو ما لا يرغب فيه نجيب ميقاتي وربما لا يقدر عليه.
في سلسلة مواقفه الأخيرة، كان ميقاتي قد خسر الكثير في الشمال، ليس انطلاقاً من قدرات هائلة لتيار المستقبل في مواجهته، فالتيار في معقله الرئيسي يعيش حالة إجازة، أصبح يمكن الطموح بتحويلها الى حالة من التقاعد المبكر، لكن ميقاتي خسر لأنه خالف مزاجاً عاماً لدى شارعه، الذي لطالما حرص على إرضائه.
التراجع الذي سجله ميقاتي في رصيده نتيجة الموقف المهادن للنظام السوري، والمرفوض لدى عامة أبناء شارعه، عاد واكتسحه بمواقف دار الفتوى، ووقوف تيار المستقبل بوجه الدار بعد أعوام من العسل بين الجانبين، وبعدما اتخذت الدار موقفاً عقلانياً بالكامل من الصراع الداخلي، كما عاد ميقاتي وسجل المزيد من الأرباح في موقفه من تمويل المحكمة الدولية.
لو كنا في عهد الرئيس فؤاد السنيورة أو سعد الحريري لكنا قد شهدنا حالة من التنازع التناحري عبر وسائل الإعلام بين طرفي الانقسام اللبناني، ولكنا قد سمعنا تبادل اتهامات من العيارات المحركة لكل الغرائز الطائفية، ولكان كل طرف قد بدأ يستنفد بنك أهدافه في قصف الطرف الآخر من الأيام الأولى، فمن سيرفض تمويل المحكمة الدولية سيتهم تيار المستقبل والقوى الملحقة به بأبشع تهم الخيانة والتبعية للغرب والعمالة للعدو. بينما كان تيار المستقبل سيتحدث ليل نهار عن القتلة والعبور الى الدولة وحزب السلاح والهجمة الفارسية على المنطقة.
لكن ميقاتي الذي يلعب بورصة السياسة، وبفضل العديد من العوامل المحلية والخارجية، ليس أقلها انشغال العالم بالتحولات في المنطقة العربية، والصراع على سوريا، وانشغال السعودية على جبهات لا تضم لبنان، وخيبة المملكة من تيارها المدلل وآل بيته، وتوقف مصادر التمويل لمشاريع المستقبل ومؤسساته الطموحة، ووضع دوره السياسي في الثلاجة مؤقتاً، وهدوء حزب الله في مواجهة المحكمة الدولية وعملية الالتفاف عليها، كل ذلك سمح لميقاتي بأن يمرر خطابه كأن شيئاً لم يكن، سواء لدى هذا الفريق أو ذاك.
حصل رئيس حكومتنا على نظرة رضى يتخللها بعض الشكوك الغربية، لكنها في النهاية نظرة رضى، ويمكنه أن يواجه الأميركيين بالقول «لو كان سعد الحريري (ولي الدم) رئيساً للحكومة اللبنانية لما تمكن من تقديم ما أعرضه عليكم».
وانطلاقاً من أن لبنان أضعف من أن يلعب دوراً إقليمياً أو دولياً في مرحلة مشابهة، يمكن أن يدافع ميقاتي عن مواقفه داخلياً الى الحد الأقصى، وسيصل في تسوية ما في المستقبل القريب الى القول إن «لبنان الرسمي» لا يمكنه أن يقدم المزيد دولياً، ولا أن يُدخل البلاد في حالة حرب أهلية، وبالتالي فإن الأمور تتجمد بفضل موقف تيار المستقبل نفسه، الذي سيسهل تفجير المحكمة كما يبدو.
أما موقف التيار الوطني الحر وحزب الله والقوى المحلية الأخرى من حديث الميقاتي ومواقفه في الولايات المتحدة، فهو من الأمور الداخلية التي يمكن الوصول الى تسويات بشأنها، إذ إن مدخل الميقاتي الى تقوية حضوره في شارعه، بالتدريج، وبسياسة الرهان على تحول المزاج الداخلي، وتغير المعطيات في المحيط، وتمرير الأمور بأهدأ ما يمكن خلال أطول ما يمكن من وقت، سيعطيه فترة حكم مريحة دولياً، ومليئة بالمفاوضات الصعبة داخلياً.