السؤال الذي ينتقل من اسبوع الى اسبوع، ويظل دوما نجم المرحلة هو الى اين يؤدي التصعيد السياسي البالغ احيانا في رؤية عاجلة حد الاحتقان، واستطرادا ماذا يمكن ان ينتج الشحن المتصاعد في الشارع الذي صعد ممارسته خصوم النظام السوري في مناطق عدة؟
وبين هذا وذاك، ثمة بطبيعة الحال من يسأل عن المفاعيل المفترضة لموضوع القرار الاتهامي في نسخته الثانية، بعدما بدت لدى صدوره للمرة الاولى متواضعة جدا؟
حيال هذا المشهد المثقل بالضجيج والمملوء بالصخب، ثمة في اوساط المراقبين من يراوده استنتاج فحواه ان الامور ماضية الى ابعد من تصعيد سياسي واعلامي اعتاده الجمهور، حتى بات جزءا من خبزهم اليومي. ويزداد هذا الاقتناع ترسخا مع تفاعل الحدث السوري، ومعه ازدياد وتيرة الضغوط الخارجية على البلاد، ومعه ايضا ارتفاع منسوب موجة تعاطف قسم من اللبنانيين مع المتمردين على النظام في دمشق، لا سيما بعد صدور الموقف الاكثر جلاء من هذا الموضوع لزعيم المعارضة الرئيس سعد الحريري.
حيال هذا الموقف المترع بالتوجسات والمخاوف، ثمة في دوائر في قوى الاكثرية ومن بينها "حزب الله"، صورة اخرى تبدو الى حد ما متناقضة، وتجنح نحو رؤية اخرى، تميل الى الاستنتاج أن من يضمر دفع المتناقضات القائمة في اتجاه التفجير عاجز عن بلوغ هذا الهدف، وتحول دون ذلك ظروف ومعطيات موضوعية تفرض نفسها بعناد.
ويذهب اصحاب هذه الرؤية في تعليل رؤيتهم الى القول بأن التصعيد السياسي والاعلامي الحالي الذي يمارسه الفريق المصعد منذ مدة وهو فريق 14 آذار، انما يتوخى تلبية ثلاث حاجات لديه:
1 – ان هذا الفريق يحتاج منذ زمن الى شعارات جاذبة لاهتمام شارعه، وقادر على شد عصبه بعد الوهن الذي ناله اثر خروجه من الحكم قبل اشهر، واثر اخفاق الكثير من الشعارات التي رفعها منذ ذاك الحين ومنها نزع "الشرعية" عن سلاح المقاومة تمهيدا للمطالبة باسقاطه.
2 – ان هذا الفريق اعتاد ان يكون اولا واخيرا صدى ورد فعل لامر عمليات خارجي، وها قد صدر هذا الامر منذ البيان الشهير الذي صدر عن العاهل السعودي الملك عبدالله في شأن الموضوع السوري، فضلا عن ارتفاع وتيرة الضغوط الغربية على سوريا، وحاجة رافعيها الى مساند عربي ولا سيما بعد احداث حماة الاخيرة.
3 – المرحلة بالنسبة الى هؤلاء، تحتاج الى اعادة شد عصبية مذهبية معينة، عسى ولعل تنتج معادلة اخرى وواقعا اخر بعد اخفاقات ما مضى، وبالتحديد منذ "يوم الغضب" الشهير في 25 كانون الثاني المنصرم، والذي ادخل فيه انصار هذا الفريق الى ادائهم اساليب دأبوا على رذلها واستنكارها في السابق وعدوها عارا.
اما بالنسبة الى موضوع التداعيات التي يمكن ان تلقى بثقلها على الساحة الداخلية في مرحلة ما بعد القرار الاتهامي، وتوابعه التي برزت والتي يمكن ان تبرز تباعا، فالامر بالنسبة الى الجهة المعنية المستهدفة اي "حزب الله" صار جليا، ولم يعد بمثابة سيف مصلت منذ زمن بعيد، اي انه بات بلا مفعول، وذلك اعتمادا على الوقائع الاتية:
– لم يعد خافيا ان خطوة المحكمة التالية اي الربط بين جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجرائم اخرى حصلت قبلها وبعدها، ترمي الى خلاصة واحدة وحيدة، هي القول لمن يعنيهم الامر أن "حزب الله" هو من يتحمل اثام و"اوزار" احداث المرحلة الماضية الجسام اي منذ عام 2005، وهو واقع لن يزيد ولن ينقص في ما رمت اليه بالاصل عملية تحميل عناصر اربعة من الحزب مسؤولية الضلوع في جريمة اغتيال الحريري. وبالتالي اذا كان المقصود على المستوى البعيد "تكبيل" الحزب وبعض قياداته بعدد من الاحكام والاتهامات العنكبوتية، فالامر بالنسبة اليه لم يعد دراماتيكيا او مبعث تخوفات.
وعليه فالامر قبل قرار الاتهام وبعده سيان، فلا يرتجى رد فعل واسع على الارض، والحزب ماض في ادائه وممارسة نشاطه كأن شيئا لم يكن.
وفي كل الاحوال، لدى الحزب قراءة معمقة وواعية لكل الاحتمالات، ولكل ما يمكن ان ينجم عنها من اخطار منذ ان رفض التجاوب مع اخر عرض قطري – تركي حمل اليه في النصف الثاني من شهر كانون الثاني الماضي.
اما على مستوى تداعيات الحدث السوري في لبنان، فلدى اصحاب هذه النظرية قراءة اخيرة فحواها الاتي: ان النظام الحليف في دمشق نجح في الايام الماضية ما بتجاوز بؤر الخطر التي احاطت اكثر به، وبات يتحرك الان في المفهوم العسكري في منطقة الامان، وما يفعله حاليا هو تنظيف الارض من "الالغام"، ومن فلول المتربصين به وخصوصا المسلحين والارهابيين.
وعلى مستوى الخطر الخارجي فإن المعلومات المتوافرة لدى هؤلاء تفيد، ان الزيارة الاخيرة التي قام بها وزير الخارجية التركي داود اوغلو الى دمشق حملت في طياتها ثلاث دلالات، وكلها تصب في مصلحة نظام الرئيس بشار الاسد.
الاول: ان الاتراك اعترفوا ضمنا بخطأ نهجهم وسياستهم حيال سوريا في المرحلة الاولى التي تلت اندلاع الاحداث فيها.
الثانية: ان الاتراك رغم ما صدر عنهم بعيد الزيارة، يبحثون عن خريطة طريق للخروج من "المهمة" الثقيلة التي نأوا اليها وعجزوا عن تنفيذها لحظة قبلوا تكليف واشنطن والغرب وعرب الاعتدال لهم، بحمل ملف اسقاط النظام في سوريا، او على الاقل تطويعه بعد تطويقه ليقبل بمعادلة معينة تجعل "الاخوان المسلمين" شريك اساسي في الحكم في سوريا على ان تتولى لاحقا الحكم كله.
الثالثة: ان تركيا تعهدت ضمنا بأن تساعد دمشق في الخروج من ازمتها او على الاقل الا تكون عاملا من عوامل اطالة امد هذه الازمة.
وعليه، فإن سؤال الجانب السوري من هو ومن هي الجهة والعاصمة التي سيكون لديها الجرأة على تحمل "كرة النار" السورية، بعد ان تبادر واشنطن الى سحب ثقتها من الجانب التركي الذي تعتقد انه خذلها وتبدأ عملية البحث عن بديل منه؟
وعلى المستوى الداخلي اللبناني يعتقد اصحاب هذه الرؤية، جازمين ان الخشية من ادوار اوسع واكثر شراسة وخطورة قد يقوم بها "المفرطون" في حماستهم للتعاطف مع المتمردين على نظام الاسد في سوريا على نحو قد يورط الساحة اللبنانية اكثر فأكثر، وتجنح بها نحو خط الانفجار، لم تعد في محلها اطلاقا، فهؤلاء "المتحمسون" قاموا بأقصى ما يمكن ان يقوموا به وحشدوا في الشارع اقصى من يتبنى حماستهم، وادى من كلف منهم بمهمات اصعب واخطر ما استطاع اليه سبيلا، وبالتالي لم يعد في جعبتهم سهام ابعد مدى واكثر خطورة، خصوصا اذا ما تيقنوا ان رهاناتهم على حصول تغيير عاجل وحاسم في الداخل السوري تتقلص يوما بعد يوم.
ويؤكد هؤلاء ان لا شيء دراماتيكياً سيتغير، خصوصا ان ثمة حكومة تعبر عن مروحة واسعة من القوى وتمثل فئة عظمى من الجمهور اللبناني بدأت تقوم بدورها، وان اعترى انطلاقتها الاولى بعض الثغر، مما افقدها جزءا من حيويتها وهالتها المفترضة، ولكنها بتركيبتها مهيأة لتجاوز هذه الثغر، واستكمال تنفيذ ما تعهدت به.
فضلا عن ذلك ثمة صعوبة كبرى لدى الراغبين فعلا في دفع لبنان الى الانخراط اكثر فأكثر في الحدث السوري، ليصبح مرتبطاً به وبنتائجه، فهذه الرغبة عدا انها تخالف اصلا وفصلا الشعار الذي دأب فريق 14 آذار على التسلح به وهو ابعاد لبنان عن الصراعات الخارجية والنأي به عن محاور الصراعات، فإن جمهور هذا الفريق الذي تغذى وترعرع على شعار، لبنان اولاً لن يستطيع ان يقتنع بأن لبنان صار ثانيا، وان اسقاط نظام بشار الاسد صارت له الأولوية على ما عداه.
وعليه لا يرى اصحاب هذه الرؤية في الافق ما ينبئ بأن ثمة قدرة لدى المتحمسين على تعكير مساحة الامان الذي تنعم به الساحة اللبنانية اكثر من اي وقت مضى.